لؤي عبد الإله رساما

حيدر المحسن

المدى 11/01/ 2021

1٬411

حيدر المحسن 

هل يجوز لنا التساؤل كيف يكون شكل القصة القصيرة في القرن القادم؟

القصة العظيمة هي التي يشعر القارئ بالطمأنينة إلى وجود شخوصها، لهم من قوّة السحر التي تجعل لا شيء في ذهن القارئ وفي وجدانه يعود كما كان. يوجّه الصبي هادي إلى أترابه سؤالاً عن سرّ الخليقة في قصة “مدرسة المكارم”:

كيف ومن أين يولد الإنسان؟ وعندما يبدأ بشرح الأمور على حقيقتها، يشعر الصغار بالبرد رغم قيظ تمّوز، حانقين على آبائهم، خجلين من أمهاتهم، مكلّلين بالعار. “أعطنا دليلاً على صحة كلامك”، سأله أحدهم. ولم يكن من هادي إلا أن يقوم بمزاج منفلت بإثبات كلامه أمام هؤلاء “الدعاميص” التي لا تفهم في الحياة شيء: “مدّ يده داخل دشداشته البيضاء إلى بقعة مجهولة لنا، ثم راح جسده يختضّ باضطراب.. فجأة، أخرج قبضة يده من جيبه، ثم بسطها أمامنا، وكم كان مدهشاً أن نشاهد مخلوقاتٍ فسفوريةً عاريةً تسبح على راحة كفّه، استطاع كل منا أن يجد شبيهه وسط ذلك الحشد الهائل الكبير، رغماً عن العتمة الثقيلة، ورغماً عن الحمى التي عصفت بنا آنذاك”. كم صار الأدب يشبه فن الرسم الحديث، حيث الخطوط والأشكال والألوان تأتي من وحي الخيال، ولا علاقة لها بالواقع. الأبيض صار في القصة فسفورياً، وغير المرئي بات واضحاً للعيان. وتأتي قوة “مدرسة المكارم” من إمكانية رسمها، مثلما استخدم الكاتب في قصة “الحارس الجليدي” تقنية تعتمد أصول فنّ بعيد عن السّرد، هو النحت.

يبدأ لؤي عبد الإله هذه القصة بما يدلّ على شكّه في حقيقة كل ما يجري حولنا: “ما زال الشكّ يراودنا، كلما التقينا، بحقيقة ما جرى في تلك الليلة”. وتنتهي القصة بالكلمات نفسها: “ستمرّ سنوات قبل تسرب الشك إلينا بحقيقة وجود السجن، وسنوات أخرى للشك بوجود المعسكر”.

لا يكشف الكاتب عن لحظات نادرة من الزمن لكنه يقدم حكاية تصلح أن تكون عامة لجميع الجنود، وهذا هو الكشف الذي تقدّمه القصة القصيرة. إنها تشبه كلمات ينطقها رجل وحيد مستيقظ وسط جمهور نائم، غايته الكشف عن الطريق التي يمكن أن تدلّ الجميع على السبيل للخروج من المتاهة.

مجموعة جنود يتسلّلون من المعسكر قاصدين بيوت الغجر، ولما يكتشف العريف الأمر يقرّر سجنهم. لا يحتمل الجندي جاسم قراد السجن وبراغيثه، ويرفع يده للعريف موافقاً على أداء واجب الحراسة في تلك الليلة “تحت سماء موحشة بحمرة كابية، ووسط عويل ريح قطبية”. ينزل الثلج بكثافة وتتوقف الريح، وكان جاسم يروح ويجيء في نوبة الحراسة مثل كرة بندول “تتحرك بانتظام مثير للدهشة بين طرفي ساحة التدريب الفسيحة”. مع اشتداد البرد تزداد وحشة المكان، ويحلّ بدل ظلام الليل بياض منطفئ. المشهد سينمائيّ أكثر منه سرديّ: “ها نحن، وللمرة الأولى في حياتنا، نشاهد ثلجاً؛ ثلجاً على هيئة صفائح شاقولية وأفقية، منتشرة في كل مكان”. ويتقدّم الليل وتتباطأ كرة البندول، إلى أن “توقف ذلك الرقاص عن الحركة”. بالقرب من الشجرة الوحيدة في المعسكر مات الجندي واقفاً، متجمداً، مطلقاً “صرخة مجلجلة، لكن الجليد كتمها بأصابعه القاسية، ثم حوّلها في الفضاء إلى كتلة ثلجية، مشعشعة بنثار أضواء المصابيح البعيد”.

يصنع لؤي عبد الإله من صرخة الموت عملاً منحوتا يشهد على المأساة التي تنتظر الجنود. الطريف في الأمر أن التمثال مصنوع من الثلج، عندما تشرق الشّمس عليه يذوب ولا يبقى منه غير الذكرى التي يطويها النسيان. لا أحد يتذكر الجنود الضحايا، وبين ليلة وضحاها تقوم الحرب ثانية، وسوف لا تؤدي إلى حرق الروح والضمير لدى الإنسان فقط، إنما غرض الحرب الأساسي هو فناء الحياة. في “الحارس الجليدي” قدّم لنا الكاتب موت الإنسان بصورة عملٍ منحوت، وفي “مدرسة المكارم” رأينا الحياة مرسومة بألوان مائيّة.

 

اقرأ ايضاً