مفكرة بغداد: يوميات العودة إلى مسقط الرأس(3)
لم تستغرق الرحلة بين دمشق وبغداد أكثر من عشر ساعات. ومنذ لحظة عبوري الحدود ظهر لي الخراب بصيغة خيالية: امتدت أمامي أبراج الكهرباء المحطمة صفا يبلغ طوله بضعة مئات من الكيلومترات ومن رؤوسها انتُزعت الأسلاك النحاسية. كأن ماردا خرج من صفحات «ألف ليلة وليلة» لينجز هذه المهمة الأسطورية.
شاركني الرحلة الصديق الشاعر فاضل السلطاني الذي غادر هو الآخر العراق في نفس سنة مغادرتي له. وكانت السيارة التي أقلتنا من نوع شبيه باللاندروفر مخصصة للمهمات الصعبة. بعد تجاوزنا للرمادي تعرضنا إلى السلب تحت تهديد بندقية كلاشينكوف ومسدسين. وكانت هذه الجرعة كافية لتؤهلنا دخول المسرح الذي ابتعدنا عنه لأكثر من ربع قرن
الفصل الثالث: الغليان داخل بوتقة
24 نوفمبر 03
اليوم هو في وقت واحد: آخر أيام رمضان للبعض وأول أيام عيد الفطر للبعض الآخر. بالأمس حاول رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق أن يجذب الكل كي يبدأوا العيد معا لكن هيئة العلماء السنة أصدرت فتواها باعتبار اليوم الاثنين عيدا في وقت سيعِّيد الشيعة غدا. ليلة أمس ملأت السماء شرارات النار متبوعة بانفجارات مختنقة. إنها زخات الكلاشينكوف احتفاءا بحلول العيد ولا أظنها سوى تعبير عن تأييد للنظام السابق، فالكثير من مريديه يسكنون في هذه المنطقة.
24 نوفمبر
في بيت حمودي ووفاء هناك قفص من جريد النخل لم يختلف بأي شيء عن تلك الأقفاص التي كانت سائدة قبل مغادرتي بغداد. نفس الباب الصغير ونفس أغصان النخل التي تتشابك مع بعضها البعض ونفس القبة الجمالونية. في القفص هناك بلبلان ذكران، ولا أدري إن كان هذا النوع من البلابل موجودا في أي بقعة من العالم خارج بغداد. نفس الألوان التي بقيتُ أحلم بها. الرأس تغلفه غترة سوداء حتى الرقبة، وتحتها هناك بياض ناصع، ثم هناك الذيل الطويل بلونه الأسود والمبطن بلون أصفر. ما الذي يمكن أن يتمناه المرء أكثر من هذه المواصفات في طائر لا يزيد عن حجم العصفور أو أكبر منه قليلا… أما الشدو فهو نفسه مثلما تركته… أحيانا يضيق هذان الذكران بعضهما ببعض فيبدآن بالعراك الحاد فيتم إطلاقهما كي يقضيا وقتا وسط البيت المسقّف حتى يهدآ. كأن العلاقة بين النخل والبلابل البغدادية هي قيد فرضته تقاليد حضارات ظلت تتابع عبر عشرة آلاف سنة أو أكثر.
24 نوفمبر
نجتاز بناية تابعة لمؤسسة التصنيع الحربي. بدت عارية بشكل مثير للقشعريرة. يقول نوّار الذي كان يسوق سيارة أبيه، إن هذه البناية نُهبت أولا على يد الموظفين ورجال الأمن الكبار فيها عن طريق التقاط تلك الأشياء الثمينة: أجهزة الكاميرا والمكائن والسيارات الفخمة، ثم جاء الأقل مرتبة ليسرقوا الأشياء الأخرى، بعد ذلك جاء الآخرون الذين كانوا ينتظرون دورهم ليأخذوا البلاط والنوافذ والسقوف طبقة بعد طبقة. يقارن نوار الذي لم يمض عليه وقت طويل منذ تخرجه من كلية العلوم: قسم البيولوجي، بين نهب هذه البناية وطريقة التهام الفريسة بعد قتلها. أولا يتناول الأسد الحصة الأساسية فيها ثم الأناث والصغار، ثم تأتي الضباع لتعالج العظام الصلبة فبنات آوى ثم الطيور الجارحة وانتهاءً بالنمل…
24 نوفمبر
أصوات انفجارات متلاحقة. هذه المرة في شكل دمدمات قوية متلاحقة. حينما سألت عن طبيعتها كان الجواب مختصرا: آر بي جي. أربع ضربات متعاقبة تفصل إحداها عن الأخرى عدة ثوان. لكن أفراد أسرة وفاء وحمودي كانوا مشغولين حقا باليوم الأول من العيد الذي سيبدأ بالنسبة لهم غدا: شراء أسطوانة غاز جديدة وإصلاح عطل في السيارة ثم تصليح العجلة الاحتياط.
حل الهدوء الكامل مرة أخرى. نسيم الصبا يملأ المكان. كأن نوافذ الجنة قد فُتحت على بغداد… هناك غيوم متفرقة فضفاضة تتخلل السماء العميقة الزرقة. سرب من الطيور أطلقها صاحبها في الفضاء تتجول بدون عوائق أو خوف.
24 نوفمبر
استرجع مشهد دورية المصفحات الأميركية التي كانت تسير التاكسي بحذر وراءها. كان الجندي الذي أخرج نصف جسده من سقفها مسلطا بمدفعه الرشاش صوب خط السيارات المتابع لآخر مصفحة وحينما مررنا من تحت جسر تلفت إلى أعلى مدققا إن كان هناك من سيهاجمه من فوق.
24 نوفمبر
المرور ببساتين وارفة على جانبي الطريق تعود لخير الله طلفاح خال الرئيس السابق ووالد زوجته الأولى.
بالقرب من الجسر ذي الطابقين هناك آثار قصف لقصور رجال السلطة. الآن أشاهد طابورا طويلا من السيارات ممتدا عند حافة الرصيف. ها أنذا أرى مقدمته تلتحم بمحطة وقود. سمعت أن الكثير من السواق ينتظرون كل اليوم كي يتمكنوا من الحصول على البنزين. بالمقابل أشاهد عددا كبيرا من الصبيان يفترشون الأرض ويضعون أمامهم أوعية بلاستيكية مملوءة بالغازولين والبنزين لبيعها بأكثر من عشرة أضعاف سعرها العادي.
24 نوفمبر
إشارات المرور إما مثبتة على الضوء الأحمر أو على البرتقالي النابض بين الانطفاء والاشتعال، فهي قد تعطلت منذ الاحتلال لكن السواق يحاولون بدونها أن يتجنبوا ارتكاب أي خطأ قد يؤدي إلى حادثة. قد يكون أحد أسباب هذا الحذر هو التخوف من رد فعل الآخر الذي قد يكون مسلَّحا. مع ذلك وحين حدوث اختناق في نقطة تقاطع معينة يظهر شاب من تحت كأنه مرسل من العناية الإلهية ليبدأ في تنظيم المرور بواسطة حركات يده. اليوم شاهدت شابا يرتدي بلوزة مخططة الألوان في نقطة تقاطع وهو يوجه حركة السيارات وإذا كانت أغلبية السواق قد التزموا بتوجيهاته فإنه كان هناك عدد قليل منهم تجاهلوه واندفعوا في تجاوز دور الآخرين.
24 نوفمبر
حواجز على شارع أبي نؤاس وجنود أميركيون يجبرون خط السيارات للانحراف إلى طريق فرعي. أمامي بيوت مخصصة للعاملين في قصر الرئاسة تعمل على الطاقة الشمسية احتلها الفقراء بعد هروب أصحابها.
24 نوفمبر
عرصات الهندية منطقة غربية أنيقة كانت مخصصة لسكن رجال المخابرات وعائلاتهم. وهي واحدة من الزوايا المفضلة لأبناء النخبة الحاكمة السابقة. ها هو المسرح الوطني الذي تم بناؤه بعد مغادرتي العراق. مبنى ضخم تظهر على ملامحه آثار القصف والسرقة.
25 نوفمبر
الشعور بالتباعد بين مناطق بغداد ناجم عن الحضور المتواصل للخطر في أذهان الناس فكل من يخرج صباحا إلى عمله هناك في نقطة من نقاط لا شعوره يعلق احتمال في عدم عودته حيا. أشار نوّار أثناء سياقته إلى شعار مكتوب على الحائط: لا للإرهاب وقتل المواطنين.
25 نوفمبر
ابتدأ العيد في بغداد للبعض يوم الاثنين وللبعض يوم الثلاثاء ولآخرين سيكون غدا الأربعاء. إنه وسيلة لاختبار مدى التأييد الذي يكسبه هذا الطرف الديني أو ذاك. غيم رمادي ثقيل يغطي السماء تماما هذا الصباح ولعله يبشر بسقوط المطر لأول مرة منذ أكثر من عام.
25 نوفمبر
التقيت في بيت أهل حمودي بأخوته. فهم يلتقون كل عيد لتناول الفطور والغداء جميعا. اللغة السائدة بينهم مثلما هي الحال الآن بين الكثير من الفئات الشعبية في بغداد هي الطائفية: السنّة والشيعة. نحن وهم. قبل أن أغادر بغداد كانت اللغة السائدة: الشيوعيين والبعثيين، والأخيرون كانوا في طور توسيع قواعدهم عبر الترغيب والترهيب. نحن وهم. التقط حديثا عن السنّة الذين حكموا العراق لألف وثلاثمائة سنة والآن تحرر الشيعة من ذلك.(هل أقول لهم أن أفضل رئيس وزراء للعراق أسقطه شيوخ العشائر الشيعة كان شيعيا أيضا: فاضل الجمالي). كذلك كان هناك موضوع العيد. إذ لم يكن ممكنا أن يظهر أي هلال ليلة الأحد كي تعلن هيئة علماء السنّة العيد في اليوم اللاحق. وماذا عن عدم الإفطار في اليوم اللاحق؟ لقد كان الغيم هو المانع لمشاهدة الهلال، وهو في نهاية المطاف إكمال للعدة. وافق كريم تحت محاججة أخيه الأكبر حمودي أن يفطر فورا. قال الأخير ضاحكا: أنا اتبع مجلس الحكم الانتقالي. اليوم هو العيد للجميع. لكن ذلك لم يغير من موقف أخوته الآخرين: نحن نتبع ما يقوله السيستاني. ردد أحدهم بنبرة قاطعة.
25 نوفمبر
ما زالت السماء مغطاة بغيوم رمادية سميكة، وما زال المطر يهطل بنعومة ودأب… البيوت التي تلبسها لون أحمر كابٍ يذكّر بلون العاصفة الترابية التي اجتاحت العراق في أواخر آذار وحولت المشهد إلى يوم دينونة من نوع خاص، ولعل هذا المطر سيحررها من ربقة ذلك اللون الذي اخترق واجهاتها وخلق في المدينة مناخا غرائبيا.
25 نوفمبر
انقطعت الكهرباء (التي يكتفي الناس بتسميتها بالوطنية) أكثر مما كان متوقعا فراح أزيز المولدة الدؤوب يتصاعد من الحديقة الامامية في بيت وفاء خالقا شعورا بالإرهاق من حديث ممل ومتكرر. أتذكر تعليق كريم عن الخوف الناجم عن الانفجارات: أن أسمع صوت أي انفجار يعني أنه تجاوزني بسلام فالموت يتحقق قبل أن يتمكن الشخص المعني من سماع صوت القنبلة أوالرصاصة.
25 نوفمبر
هناك في حركة الناس قدر كبير من الخوف الذي تكلس تحت سطح غريزة البقاء. غريزة البقاء لا بالمعنى البهيمي البحت بل هو بالمعنى الأوسع: الاحتفال بالحياة.
25 نوفمبر
الأمراض النفسية التي يحملها الصغار معهم ناجمة عما يثيره أزيز الانفجارات اليومة من ذكرى لتلك الحرب التي وجد الناس أنفسهم مرميين خارج سياق إرادتهم ومحكومين بمنطق المصادفة والحظ المحضين.
ميس في سن السادسة عشرة. وأثناء الحرب جاءتها رصاصة عبر النافذة لتستقر في ساقها بدون أن تنفجر. كان على أبويها أن ينقلاها بسرعة إلى المستشفى وسط القصف الجاري آنذاك… حاليا هي تعاني من الكآبة. نصحها الطبيب النفساني أن تكتب يومياتها كوسيلة للعلاج عبر تفريغ ما هو مكبوت من ذعر في أعماقها.
25 نوفمبر
التقيت برعد ابن الخالة الذي تركته حينما كان صبيا في سن الثانية عشرة. لا أتذكر عنه إلا تلك الشيطنة المحببة في الصغار. كان عمره 16 سنة حينما اعتُقل ووضِع في سجن “نقرة السلمان” الصحراوي بعد تهجير أبيه إلى إيران بتهمة “التبعية الإيرانية”. ولم يشفع له أن تكون أمه سنّية، بل صودر بيت العائلة ورُميت الأم وابنتها إلى الشارع. من ذلك السجن المخصص للمحكومين الشيوعيين في العهد الملكي أطلق سراحه من السجن تحت شرط أن يخدم في الجيش وما كاد يلتحق فيه حتى نُقل إلى الخطوط الأمامية لمحاربة “الفرس المجوس”.
يقول رعد إن إطلاق سراحه يعود إلى وجود أمه وأقاربها أما أولئك الذين لم يبق أحد من عوائلهم في العراق بعد تهجيرهم قسرا فقد جرت عليهم تجارب كيميائية وبيولوجية ولم يخرج أي منهم حيا من سجن “نقرة السلمان”.
26 نوفمبر
علمنا عن طريق الفضائية “العربية” أن مقر القوات الاميركية ووزارة الإعلام قد تعرضا إلى قذائف لكننا لم نسمع لها صوتا.
تختبئ القطط في محرك السيارة المركونة في حديقة البيت الأمامية الصغيرة. لذلك فمن الضروري فتح غطاء المحرك والتأكد من عدم وجود أي منها هناك قبل تشغيل السيارة. باستثناء الطارمة الاسمنتية الصغيرة المخصصة للسيارة لا تزيد مساحة الحديقة الأمامية في بيت وفاء وحمودي عن مستطيل صغير يعلوه العشب وبجنب الجدار الفاصل عن الشارع هناك ثلاث شجرات نارنج مصطفة إحداها جنب الأخرى. وعند حافة الطارمة استقرت مولدة الكهرباء وبرميل صغير للبنزين المستعمل في تشغيلها مع قمع لتسهيل سكب النفط في المولدة.
26 نوفمبر
المطر ما زال يواصل سقوطه. تلوح أسلاك الكهرباء للعين متدلية أكثر مما كانت عليه قبل يومين والأعمدة اكثر انحرافا.
27 نوفمبر
مررنا بتقاطع طرق. كانت هناك سيارة مرسيدس زرقاء متروكة وبالقرب منها كان هناك شرطي يحث السيارات على التحرك بسرعة. قال لقريبي السائق حاثا: تحرك بسرعة هذه السيارة مفخخة، مما دفع الأخير إلى المضي وسط السيارات المتكدسة في نقطة التقاطع تلك قبل انفجارها. حضرني سؤال اخترق طبقة القلق من احتمال سماع انفجار عارم: هل كان تحذير الشرطي حقيقيا أم هو نوع من المزاح الثقيل؟ من يدري. كل شيء ممكن في هذا العالم المتعدد الحقائق.
28 نوفمبر
اليوم فقط تمكنت من الوصول إلى بغداد حقا. كان الحافز زيارة سوق الكتب في شارع المتنبي. ذهبت مع حمودي. وكان فراغ الشوارع عاملا مساعدا في الوصول سريعا إليه. قطعنا الطريق من باب المعظم إليه على الأقدام. كانت الدقائق التي تمر مربكة لذاكرتي… ها أنذا أرى المكتبة الوطنية وآثار التدمير التي لحقتها. أمامها مدخل وزارة الدفاع، يسترعي انتباهي ذانك المدفعان الأثريان اللذان يعودان إلى العصر العثماني فمنهما سُرقت اسطوانتاهما النحاسيتان ليبقيا كعربتين تخلى عنهما حصاناهما. قال حمودي إن هناك عوائل فقيرة تسكن حاليا في مباني الوزارة الواقعة وراء الواجهة العريقة التي احتفظت بطابوقها الأصفر الملتمع تحت وهج الشمس.
28 نوفمبر
كنت في تلك الجولة التي تتحكم بإيقاعها سرعة قدمي حمودي أتلمس بحذر تلك المعالم سعيا إلى إيجاد أواصر بينها وبين الذاكرة. كأن هناك شبكة تسعى إلى اصطياد الخارج لكن شيئا في النفس ظل يخفق بدون انقطاع: ليس تذكرا لحدث أو لشيء محدد. بل هو استرجاع ذلك المكان الذي ظل حاوية لزمن مغرق في قدمه. ترى كم تختلف حالتي الآن عن حالة أهل الكهف عند عودتهم إلى مدينتهم بعد نوم مديد؟
28 نوفمبر
شارع الرشيد بعد اجتياز ساحة الميدان: ظهرت بناياته على الجانبين متداعية بشكل صاعق للبصر. هل أنا حقا غادرته لست وعشرين سنة فقط؟ أخيرا ها نحن نستدير يمينا لندخل شارع المتنبي. آنذاك شعرت أنني أعرف الاتجاهات وأستطيع التحرك لوحدي في بغداد.
تمتد الكتب على أسفلت الشارع بدون أي قيود. كأن الشارع فرِشت فوقه سجادة من الكتب. هنا يمكنك أن تجد كل شيء فكل التيارات تتعايش في سلام داخل هذا الشارع القصير: كتب ماركسية، كتب دينية، كتب في الطبخ، كتب تاريخية، كتب أدبية… وكان ممكنا مساومة الباعة. الحصيلة: جزآن من كتاب عن الأمير عبد الإله، كتاب عن محكمة المهداوي، كتاب على الوردي عن ابن خلدون، ورواية جيمس جويس كانت لدي نسخة منها قبل مغادرتي بغداد: صورة الفنان في شبابه.
28 نوفمبر
اخترق سوق السراي المسقّف: يبدو أن عمليات التجديد قد محت ملامحه القديمة تماما ففقد ذلك الغموض الذي كان يكتسيه بسبب العتمة وقدم الجدران. كل شيء فيه تحول إلى دكاكين متشابهة مبنية بالطابوق الأصفر، ولا خيط يجمعها بالماضي. كانت جميع المحلات مغلقة.
28 نوفمبر
بعد الوقوف قليلا على مقدمة “جسر الشهداء” الذي بدا لي مثلما تركته ثم التطلع إلى نهر دجلة الذي بدا مترعا ومتدفقا بفرح انتقلنا إلى الطرف المقابل له. دخلنا إلى مسجد قديم. كان المناخ في داخله يبعث على الهدوء. كأن هذا العدد الكبير من المساجد في بغداد هو الذخيرة التي تمنع وقوع عنف في الشوارع يخرج عن المألوف: حرب أهلية مثلا.. شعور غريب بالطمأنينة… إنه الجذر الباقي الذي لم تمسه أصابع التغيير.
28 نوفمبر
المرور بمسجد الخلفاء العباسي. إلى جواره اختلطت المباني الحديثة والقديمة بفوضى كاملة. اختراق سوق الشورجة التي بدت شبه خاوية فالعيد مازال مستمرا لاولئك الذين ابتدأوه يوم الأربعاء. الوصول إلى سوق الغزل المفتوح: طيور وحيوانات غريبة في أقفاصها، كان يمكن مشاهدة باعة الأرصفة وهم مستغرقون في عد النقود التي تسلموها توا من زبائنهم… كأن قوانين السوق لا تعرف حواجز.
29 نوفمبر
شاحنة تحمل براميل بنزين أو كازولين. يتساقط منها السائل سريع الاشتعال بانتظام على الطريق.
مصفحة هُمفي تجلس فوقها جندية وأمامها مدفع رشاش موجَّه صوب السيارات المتحركة وراءها. تقترب السيارة التي تليها مباشرة من المصفحة فتتأهب الجندية لمواجهة احتمال تصادم متعمد.
29 نوفمبر
عاود المطر الناعم سقوطه طيلة الليل وهذا ما جعل الشوارع الفرعية تمتلئ ببرك المياه فالمجاري قد تعطلت أكثرها منذ حرب 91.
29 نوفمبر
طريق الخط السريع صوب الكرادة مزدحم بشكل غير طبيعي. إنه أول يوم بعد انتهاء عطلة العيد وبدء الدوام. أستطيع أن أشاهد عبر زجاج السيارة المتحركة ببطء سلحفاتي مدهش تلك الإعلانات العملاقة عن السلع على امتداد الشارع. ظاهرة جديدة.
29 نوفمبر
مرة أخرى في مقر “الاتحاد الديمقراطي العراقي”.. عند الباب هناك مثل المرة السابقة قبل العيد ثلاثة حراس مسلحين برشاشات. هذه الحالة سائدة في كل مقر وموقع حكومي فالخوف من أعمال انتقامية تقوم بها أجهزة الأمن السابقة يظل موجودا. اتذكر ما قاله “أبو عبير” عن خوفه المستمر حاليا من الاغتيال على يد أجهزة الأمن السابقة التي أصبحت هي الآن تعمل تحت الأرض بينما المعارضون الذين كانوا إما في الخارج أو تحت الأرض برزوا إلى السطح ومن السهل تصفيتهم.
طرح إبراهيم الذي وجدته أمامي مرة أخرى سؤالا حول ما إذا سمعت بغرق السفينة المحملة بعراقيين أثناء توجهها إلى أستراليا سنة 2002. سألني إن كنت أستطيع إثارة القضية في الغرب.
تشبه حالة العراقيين تلك المواد الكيميائية التي توضع مع بعضها البعض في بوتقة ثم توضع فوق النار وينساها الكيميائي لوقت طويل.
29 نوفمبر
قصص تولِّد أخرى. هذه هي الحال في بغداد. يكفيك أن تجلس في مكان ما ويأتمنك الآخرون حتى يبدأوا بسرد حكاياتهم كلا على حدة، كأنهم منِعوا من بث شجونهم عقودا عديدة وهاهم فجأة منِحوا كل الحق لأن يقولوا ما يشاؤون. لكن عليهم أن يجدوا أحدا لم يعاني من حرمان البوح بدواخله كي يضمنوا لهم أذنا صاغية. بعد ساعة من لقائي بمجموعة من الأقارب الشباب الذين تركتهم أطفالا، استأثر رعد من دقائقها بحصة الأسد مما دفع أحدهم لمعاتبته: نحن أيضا نريد أن نتحدث.
ما يبعث على الدهشة هو هذه الروح الخارقة للمألوف: القدرة الكبيرة على التحمل والتكيف. يقول اللواء المهندس أبو أنمار من الاتحاد الديمقراطي مبررا: إنهم مروا بقساوة الحرب العراقية- الإيرانية وخلالها أصبح الموت أمراً مألوفا. تحمل موت الأقارب والأصدقاء الذين ظلوا يُقتلون يوميا في تلك المطحنة البشرية الكبرى، ثم مروا بحرب الخليج الثانية وفترة الحصار. يقول
أبو أنمار إن ما مرّ على العراق خلال التسعة أشهر الأخيرة سبقه إعداد غير عقلاني استمر لأكثر من 20 عاما، ولو مر أي شعب جار بهذه الظروف لحصل انهيار كامل له.