مفكرة بغداد: يوميات العودة إلى مسقط الرأس (4)

2٬882

لم تستغرق الرحلة بين دمشق وبغداد أكثر من عشر ساعات. ومنذ لحظة عبوري الحدود ظهر لي الخراب بصيغة خيالية:امتدت أمامي أبراج الكهرباء المحطمة صفا يبلغ طوله بضعة مئات من الكيلومترات ومن رؤوسها انتُزعت الأسلاكالنحاسية. كأن ماردا خرج من صفحات «ألف ليلة وليلة» لينجز هذه المهمة الأسطورية.

شاركني الرحلة الصديق الشاعر فاضل السلطاني الذي غادر هو الآخر العراق في نفس سنة مغادرتي له. وكانت السيارةالتي أقلتنا من نوع شبيه باللاندروفر مخصصة للمهمات الصعبة. بعد تجاوزنا للرمادي تعرضنا إلى السلب تحت تهديدبندقية كلاشينكوف ومسدسين. وكانت هذه الجرعة كافية لتؤهلنا دخول المسرح الذي ابتعدنا عنه لأكثر من ربع قرن.

الفصل الرابع: بغداد: رقة وقسوة مفرطتان

30 نوفمبر 03

كان الوصول إلى بيت الخالة سعاد حدثا خاصا بالنسبة لي، فهو أول بيت يمت بصلة للماضي. ها أنذا أقف أمامه ساعيا لاستحضار أي تفاصيل عنه فلا أسترجع شيئا سوى موقعه، فهو يقف ضمن صف قصير من البيوت ويقابله صف مماثل، وعلى نفس هذا الشكل بُنيت هذه البلدة ووزِّعت على ضباط الصف في منتصف الستينات. “هل طليتم الجدران”، “لا… لكننا بنينا طابقا آخر كما ترى”. على السور الواطئ الذي يفصل بين الحديقة الصغيرة والشارع كانت هناك ثقوب واضحة.”إنها شظايا القنابل العنقودية” قال الابن الأصغر. “في هذا الشارع تابعت طائرة عربةً كانت تطلق صواريخ أرض جو فدمرتها”. لم تكن في نبرة محمود أي مشاعر تعاطف مع من قُتل آنذاك. هل هو التعود على الموت أم هي قناعة واسعة من أن الدفاع عن الوطن هو دفاع عن صدام ونظامه؟

30 نوفمبر

ظننت أن اكتشاف كوامن البيت الداخلية أسهل لي من الخارج، فأنا عشت عامين في بيت الخالة حينما كنت  طالبا في الجامعة. “هذه هي غرفتك”. لكن المعالم تغيرت أو لعلها مُسحت من الذاكرة. وحينما قرأوا حيرتي فوق وجهي بادرت الخالة: نحن وسّعنا المطبخ… خرجت من البيت، واستدرت يسارا. توقفت عند نهاية الصفين المتقابلين، وفي لحظة شبيهة باسترداد البصر حضرت لي جغرافيا الطرق، كيف سأذهب إلى الكاظمية ومن هناك إلى الأعظمية… لكن المكان نفسه ظل غائما في الذهن يتراوح بين بصمات التغيير على أرض الواقع وعلى أرض الذاكرة.

30 نوفمبر

تحكي الخالة عن تحسن وضعهم المالي. التقاعد كبير الآن وابنها الأصغر تزوج من بنت عمته وهذا ما ضمن لها عناية خاصة من كنتها. لم أجد أي شيء يذكّرني بالخالة التي تركتها فقدت بدت الآن شبه مقعدة بعد أن أصيبت بجلطتين دماغيتين، تحت تأثير السكر. حكى ابنها الأوسط محمد عن مغافلتها لهم الآن وتناولها للحلويات وكيف تدهورت حالتها قبل أسبوع مما اضطرهم  إلى أخذها إلى طبيب. وهناك اكتشفوا الحقيقة. بدت خالتي كأنها طفلة قبِض عليها وهي تقوم بعمل لا يرضى عليه والداها.”لا تصدق ما يقولون”. أستطيع أن أشاهد علائم القليل من الرفاهية من خلال الأجهزة الكهربائية الجديدة التي اشتروها في الفترة الأخيرة.

30 نوفمبر

كنت قد سمعت عن إصابة عدي ابن خالتي سعاد البكر بانهيار عصبي بعد انتهاء الحرب مع إيران وما تلاه من مذابح  للأكراد المدنيين في ما عرِف آنذاك بـ “حرب الأنفال” اللعينة. حيث شاهد بعضا من فصولها الرهيبة. وحينما عاد إلى بغداد أصابته فترة من الهذيان، لكن مروره بفترة علاج طويلة مكّنته من استرجاع الرشد ثم الزواج والعودة إلى الخدمة العسكرية.

هذه الليلة سأبيت في بيت الخالة سعاد وغدا سيرافقني عدي في سيارته “التاكسي” مع أخيه محمد في جولة لقاءات واسعة.

1 ديسمبر

بغداد مدينة تتعايش فيها القسوة والرقة المفرطتان جنبا إلى جنب. من سيارة المقدم المتقاعد عدي.  تلتقط عيناي بعض الإعلانات المكتوبة فوق جدران المباني عن أسماء أحزاب، تكاثرت بطريقة عجيبة خلال الأشهر الأولى التي أعقبت سقوط النظام السابق: حركة أحباب العراق الديمقراطية؛ التجمع من أجل الديمقراطية؛ منظمة الضباط والمدنيين الأحرار…

1 ديسمبر

بوابة بغداد: طريق التاجي. أشاهد مباني عسكرية قُصفت أولا ثم تمت سرقتها لاحقا. يبدو أن تقليد تقدم اللصوص في لحظات الكوارث وسلب ممتلكات الضحايا ظاهرة طبيعية متكررة عبر كل العصور وفي كل مكان: الجزائر بعد الزلزال الذي أتى على مدينة الأصنام في بداية الثمانينات، ونيويورك بعد هجمات 11 سبتمبر… أمامي مصفحة هُمفي وعلى ظهرها يقف جندي أميركي وهو يمضغ باللبان. يذكرني مشهده بمدربي دوري الدرجة الأولى الإنجليزي وهم يمضغون اللبان أثناء مراقبة فرقهم تخوض غمار المباريات- المعارك تخفيفا للتوتر.

جسر التاجي: قنطرة مؤقتة فوق الجسر الذي هدمه الجيش العراقي لمنع تقدم القوات الأميركية. هنا دارت معارك أيضا إذ تقدم الأميركيون نحو بغداد من هذا الطريق. سيارة عدي التي يستعملها كتاكسي منذ حل الجيش مهلهلة بشكل مروع. زجاجها متشقق وكل أجزائها الداخلية متآكلة تماما. مع ذلك يستطيع أن يكسب من خلالها جزءا من نفقات العيش التي تحتاج إليها أسرته إضافة إلى التقاعد الصغير.

1 ديسمبر

الوصول إلى منطقة على أطراف بغداد لزيارة الصديق علي محمود الذي يعمل حاليا في مبنى مجلة آفاق عربية. مراجعة الدوائر الحكومية: هذا القلق من وجود سيارة مفخخة بالقرب منها يجعل الناس حذرين ومتوترين.

استرجع اللقاء برئيس حزب الشعب  في صالة الاستقبال داخل الاتحاد الديمقراطي العراقي: الشعر المستعار الأسود والنظارة الطبية السوداء. أنا رئيس تحرير ثلاث صحف أيضا: البشائر والنسائم والرياضة الشعبية…  أنا من أنصار نشر الرياضة بين الناس العاديين مثلما هي الحال في أميركا. نحن سنفتح مقرا جديدا للحزب ومن الضروري أن تأتي…

أمام الاستعلامات بمجلة “آفاق عربية” تقدمت سيارة من نوع الصالون الكبيرة فخلقت توفزا بين العاملين هناك. طالب احدهم بتفتيشها قبل اختراق البوابة. الحارس يتابع السيارات ويسجل أرقامها على الرغم من معاناته من إعاقة جسدية. دخلنا إلى غرفة الاستعلامات وكان على كل منا أن يكتب اسمه في سجل مركون على طاولة أمام الموظف المعني. كان هناك أيضا رشاش مخفي وراء الطاولة. بعد انتظار تجاوز النصف ساعة اتضح أن الصديق علي قد خرج من المكتب قبل أكثر من ساعتين.

1 ديسمبر

في طريقنا إلى بيت جمال: السماء مغطاة بغيوم واطئة.  غمر المدينة ليلة أمس ضباب ولوقت قصير. حينما يتكلم الناس عن أي شيء تم بناؤه سابقا  يقولون لقد  “بناه” هو بدون ذكر اسم صدام. كأن ليس هناك أي دور للكوادر وعوائد النفط الهائلة في بناء الجسور والشوارع والمساجد. باعة البنزين والغازولين في كل مكان وأغلبهم من الصبيان. أقرأ على الجدران هذه الإعلانات بخط اليد أو بالختم: الجمعية الخيرية لإنقاذ الأطفال؛ حزب السلام العراقي؛ الحزب الجمهوري الوطني… كان مجرد التفكير بمثل ذلك قبل ثمانية أشهر كافيا لصدور حكم الإعدام أو المؤبد على صاحبه.

1 ديسمبر

لم يتغير جمال كثيرا عن طبيعته. يمكن قراءة الخجل والتمرد الشديدين على وجهه في آن واحد. وسط العتمة شاهدتُ لوحات رسم جميلة. قالت ثناء: هذه آخر أعمالي. تنقلنا من موضوع إلى آخر تحت ضغط الشعور بضرورة المغادرة. تحدثنا عن الوضع السياسي، وحالة اليأس الكبيرة من الأحزاب السياسية التي ظهرت إلى السطح بعد انتهاء الحرب. قال جمال محتدا: ما زال الحزب الشيوعي يرفع الأعلام بالمنجل والمطرقة. من يستخدم المطرقة اليوم مع التكنولوجيا الحديثة؟

1 ديسمبر

كان عليّ تجنب زيارة سامية التي جاءت من الخارج  للبقاء مع أختها مدة شهرين. فتح صهرها الباب: رجل في الستينات (أو هكذا أوحت لي ملامحه)، جلسنا في غرفة الضيوف. كان المكان غارقا  في عتمة تتعارض مع ضوء الشمس الباهر في الحديقة. كانت هناك صورة شاب محاطة بشريط أسود. عرفت من جمال عن مقتل أوميد ابن اخت سامية. شاب لم يمض أكثر من عام على إكماله الجامعة حيث درس اللغة الإنجليزية، ومع غياب فرص العمل عمل مترجما  مع القوات الأميركية. في الأعظمية التي لا تبعد عن الوزيرية كثيرا أطلق شخص الرصاص من مسافة قصيرة عليه ليرديه قتيلا فورا. كان الأب الجالس أمامي غارقا في حالة شرود كامل أثناء شربنا للقهوة المرة، في وقت كانت سامية وأختاها ملفعتين بثياب سوداء. اندفع والد أوميد منتقدا الاحتلال الأميركي: إنهم جاءوا ليسرقوا ثرواتنا… هل تعرفون أن عمليات سلب النفط والغاز والفوسفور والكبريت والزئبق الأحمر جارية على قدم وساق كل دقيقة منذ دخولهم إلى العراق… لكن نبرة حديثه تغيرت فجأة: لماذا يمنع الأميركان ميليشيات الأحزاب الكردية والعربية من احتلال تكريت وتصفية كل المتعاونين مع صدام…

حضرت أخت القتيل: فتاة أنيقة بملابس ملونة. لا أظن أن عمرها يتجاوز العشرين  ومعها شاب لا يزيدها في السن إلا بأعوام قليلة. إنه ابن عمتها، قالت سامية، وهو يدربها على الجيتار… إنها حريصة على متابعة دروس الموسيقى. غادرا البيت فورا بعد أن ودعانا… هذا هو الطريق لوقف الجنون والخراب الروحي: مواصلة الحياة.

1 ديسمبر

المرور في قاعة “حوار” القريبة من بيت جمال. هناك أمام المبنى حراس مسلحون أيضا. في الداخل هناك حديقة صغيرة تحولت إلى مقهى للقاء المثقفين. وكأن ذلك المكان ملاذ آخر من الخارج. في الداخل هناك قاعة واسعة غصت بالناس وهم يتابعون مشاهدة لوحات رسم ومنحوتات. كان هناك معرض لمجموعة من الفنانين العراقيين. التقيت بكريم رسن الذي سبق له أن شارك في معرض قبل ثلاثة أشهر في لندن. وهنا تجد شكلا آخر من مقاومة قوة الهدم المخفية في جزيئات الهواء. كانت بعض الأعمال مدهشة في ثيماتها ومعالجاتها الجريئة. وكأن الفنانين يحاولون الخروج من مدرسة بغداد التي وضع أسسها جواد سليم وآخرون في فترة الخمسينات لكن مع إبقاء ذلك الامتداد لها. في لوحة كريم رسن تلمست ذلك الجذر الذي تركه شاكر حسن آل سعيد عليه لكن في الوقت نفسه هناك صوت آخر خاص.

بعد جلوس قصير في الحديقة. شاهد فاضل شخصا يعرفه: إنه عزيز طالب الصيدلة المولع بالفلسفة والأدب آنذاك. كم سافر فاضل السلطاني معه إلى بيته في كربلاء أيام الدراسة الجامعية. وحينما ذهب إليه وبادره بالتحية، لم يتمكن الآخر من تذكره… الفاصلة الزمنية هي مجرد ثلاثين عاما فقط.

1 ديسمبر

شارع السعدون: تبدو المحلات والمباني متهالكة وبدلا من ارتداء ألوانها الزاهية التي كانت تتسم بها قبل خروجي من بغداد ظهرت كأنها تكتسي غلالة من الغبار الأحمر الطيني بعد أن تمكن من اختراق سطوح واجهاتها، لتعكس ذلك اللون الأحمر الخابي الذي يضع المرء في زمن خارج الحاضر… اللون الأحمر الباهت علامة قابيل تذكيرا بحدث الحرب.

1 ديسمبر

كانت الساعة حوالي الثالثة والنصف حينما وصلنا إلى مقر الحزب الشيوعي. في الطابق الأرضي الذي بدا كأنه صالة واسعة وضع عدد من الكنبات والكراسي المعدنية جاءني شخص ليفاجئني: هل تعرفني؟ وظلت عيناه مثبتتين على وجهي تسعيان لمساعدتي على التذكر. كان هناك جدار عازل بين ذاكرتي وبينه. بعد أن اعتذرت له أعطاني بعض التنويهات المساعدة: الجزائر العاصمة في بيت حسين الكاتب… يا إلهي إنه يتكلم عن عام 77… تظاهرت أنني تذكرته. المفاجأة الكبرى: هو يعرف صديق العمر فاضل العكام، الذي عاد من اليمن قبل أسبوعين فقط.”هل تريد أن تراه؟” “متى؟” “الآن”.

1 ديسمبر

تنحيت جانبا حينما دق محمد علي جرس الباب، وتركتُ ابني خالتي يتقدمان لمصافحة فاضل العكام. ومن موقعي بقيت أراقب ملامحه: ما الذي تغير فيه؟ هل ستسترجع ذاكرتي ملامحه على وجهه؟ عدا تلك السمنة التي اكتسبها والتي يمكن لذاكرتي تجاهلها بدا لي نفس ذلك الشخص الذي كنت أجلس معه وراء نفس الطاولة، أثناء عامي الدراسة الثانوية. وبفضله تعرفت إلى عوالم دوستويفسكي وفرويد وسارتر وكامو وتشيخوف وغيرهم. نفس تلك الابتسامة المطمْئنة والنبرة الرقيقة التي تجعل الآخر يشعر كأنه يعرفه منذ فترة طويلة. وبفضل هذه الصفات تمكن من التنقل من بيت إلى آخر تحت وطأة مطاردة السلطة له حيث وفر أصدقاء كثيرون مع أسرهم الحماية له. لم يشعر بالمفاجأة لرؤيتي. إذ بلغه خبر وصولي إلى بغداد قبل ساعة واحدة عن طريق زوجة صديق مشترك آخر.

2 ديسمبر

عدت إلى بيت وفاء في ساعة متأخرة. بدا الضيق على  وجهها بالرغم من قدرتها الفائقة على  إخفاء ما يقلقها. بدلا من ذلك تحرص وفاء على خلق شعور بالاطمئنان لدى الآخر. المشكلة الجديدة هي تعطل السيارة التي تأخذ الابن الأصغر إلى المدرسة. وعادة يستخدم الكثير من أبناء الطبقة المتوسطة ما يُعرف بـ “الخطوط” لإيصال بناتهم وأبنائهم الصغار إلى مدارسهم، بعد انفلات الوضع الأمني في بغداد وانتشار ظاهرة خطف الأطفال والفتيات خلال الأشهر الأولى التي اعقبت سقوط النظام السابق. ووفق هذا النظام يقوم السائق يوميا بنقل مجموعة من الطلبة الذين يسكنون ويدرسون في نفس المنطقة. وهذا النظام أصبح سائدا بالنسبة للموظفات للتنقل بين بيوتهن وأماكن عملهن.

2 ديسمبر

كان اليوم حافلا باللقاءات والأحداث ابتدأت بزيارة مرقد الكاظمين والتمشي في منطقة الكاظمية، ثم الذهاب إلى باب المعظم. كانت هذه هي المرة الثانية التي استقل فيها واسطة نقل عامة. تحرك الميني باص ببطء عابرا الجسر الرابط بين منطقتي الكاظمية والأعظمية. المعالم التي تركتها ورائي قد تغيرت إما بسبب تجديد بنائها أو بسبب  حالة الإهمال الطويلة.  ذهبت مع محمد ابن الخالة سعاد الأوسط إلى مقهى أم كلثوم الواقع على شارع الرشيد. ما أثار انتباهي العالم السكوني الباهر الذي  يحتفظ هذا المقهى به، فعند وصولنا حوالي الثانية عشرة ظهرا كانت أغنية “رق الحبيب” تتغلغل في ذرات الهواء منبعثة من جهاز تسجيل  ذي بكرتين كبيرتين تذكران بزمن مغرق في القدم يتعارض مع التجديد غير المتوقع الذي عرفته صالة المقهى. إنه أول مكان عام أراه مجددا بهذا الشكل الجميل. إذ استخدم الطابوق الأصفر الذي يعد سمة بارزة من سمات معمار بغداد القديم في تغطية جدرانه الداخلية.

وصل فاضل العكام إلى المقهى قبلنا. وكان علينا أن ننتظر صديقين آخرين. لكن الشك تعمق لدينا مع مرور الوقت من أنهما قد ذهبا إلى مقهى آخر يحمل نفس الاسم: فهناك على امتداد شارع الرشيد الطويل مقهى اسمه “كوكب الشرق” وآخر يحمل اسم “عشاق أم كلثوم”. بعد الاستفسار عنهما أخبرنا صاحب المقهى أنهما أغلِقا منذ عدة أشهر.

2 ديسمبر

القسوة تتجلى في روح الأنانية البارزة في حركة السيارات فليس هناك أي سائق مستعد للتخلي عن موقعه لصالح الآخرين. إنه صراع من أجل البقاء في كل مناسبة وبدون أي تراجع. يذكرني هذا المشهد بتلك النباتات الصحراوية التي انكبت مشدودة بالأرض اليباب بعد أن لفت أغصانها بالأشواك الجارحة للتقليل من درجة استهلاكها للماء.

2 ديسمبر

قال فاضل العكام إنه شاهد لوحات لفنانين عراقيين مشهورين تُعرض مع قطع الخردة الأخرى للبيع بالقرب من مقهى أم كلثوم. خرجنا مسرعين بحثا عنها لكنها اختفت مثل فص ملح ذائب. وحينما سأل بعض الباعة عنها أجابه بعضهم بطريقة مريبة: نحن لم نر لوحات هنا. قد تكون هناك عبر الشارع.

3 ديسمبر

في مسرحية آرثر ميللر “البوتقة” تتفشى روح البحث عن الساحرات لقتلهن وحينما يشعر كل شخص في القرية أنه المعني راح يتهم غيره. هذه الحالة هي التي سادت منذ الثمانينات في العراق، فكل شخص في موقع المتهم وعليه أن يثبت براءته عن طريق اتهام أحد غيره.

3 ديسمبر

بدأت بغداد بنفض التراب عن كاهلها بعد سقوط المطر. الكل تتقمصه روح شهرزاد. هناك قصص حزينة، قصص مرحة، قصص فلسفية…يحكي لي أحد الشعراء الشباب  عن مشاهدته صباغ أحذية جالسا في زاوية من الشارع منكبا على تلميع حذاء زبون في الوقت الذي كان الناهبون يعجون في كل مكان بعد سقوط بغداد وهم يحملون شتى أنواع المسروقات من الدوائر الحكومية. لماذا لا تشاركهم؟ سأل صباغ الأحذية. أنا عندي أخلاق تمنعني من ذلك، أجاب الآخر بكبرياء عالية.

3 ديسمبر

شارع الكرادة: تتكدس على رصيفي الشارع التجاري المزدوج صناديق كرتونية بحجوم مختلفة تثير الدهشة. في هذه الصناديق هناك ما لا نهاية من السلع الجديدة: تلفزيونات وثلاجات ومسجلات وغيرها في وقت تركن إلى جانبها أقراص الدش بمقاييس مختلفة يبلغ قطر بعضها حوالي مترين. الجو مشمس اليوم والهواء عذب تتخلله قرصة برد رحيم.  يمكنني مشاهدة بعض التجديدات تجري على واجهات المحلات بضمنها طلاء الجدران ووضع قطع إعلان جديدة.

اكتسبت بعض الواجهات التماعا مثيرا للدهشة. الطريق يمتد حافلا بالحركة والاستعداد لفرش كل هذه السلع بانتظار قدوم الزبائن… الساعة الآن في حدود الحادية عشرة صباحا.

3 ديسمبر

التقيت في الشقة الواسعة التي أصبحت مقر جريدة “القاسم المشترك” بالدكتور محمد المبارك. لم يكن اللقاء إلا مصادفة جاء خارج السياق فكشف لي عن جانب صغير كدنا ننساه في غمرة تسارع الأحداث: وجوه بغداد الثقافية التي تشكل أغلى ما فيها من كنوز. هل أستطيع أن أقول إن أستاذ الفلسفة المتقاعد الذي يعمل الآن في تلك الصحيفة  تحت ضغط العوز المالي هو واحد من هذه النخبة الصامتة ؟

انتقلت أطراف الحديث الذي جمعنا بعيدا عن الحاضر. فالدكتور المبارك درس الفلسفة الإسلامية في بريطانيا قبل فترة طويلة  وهو قريب في رؤاه من الشيخ ابن عربي. فبفضل ذاكرته الحادة راح ينقل لي نصوصا يحفظها عن ظهر قلب لأحاديث نبوية سجلها ابن الطبري في كتابه: في أسباب النزول. ” لقطرة من مداد عالم خير من دماء اريقت في سبيل الله”. أو “الناس اثنان عالم ومتعلم وما عدا ذلك همج رعاع لا يعبأ بهم الله”. انفتحت ذاكرة محمد المبارك على سيل من القصص التي تصب باتجاه مبدأ وحدة الوجود ثم اختتم ذلك اللقاء العابر بأبيات ابن عربي الشهيرة: لقد صار قلبي قابلا كل صورة…

4 ديسمبر

اللقاء بفاضل العكام. تحدث لي عن بعض ما جرى في بغداد في فترة التسعينات قبل مغادرته إلى اليمن سنة 1997.

حملات المداهمة: تفتيش شارع بأكمله ومسك كل الناس فيه ثم إجراء التحقيق معهم فردا فردا حيث يمر كل محتجز  بمحققين مختصين بالشؤون السياسية والمالية والأمنية. ضمن التحقيق يتعرض المستجوَبون للتهديد بأن عقوبات قاسية بانتظارهم إن هم لم يقدموا كل ما يعرفونه عن جيرانهم وزملاء عملهم وعن أفراد عوائلهم، ثم تنتهي هذه الحملة باعتقال آلاف الناس من بين المحتجزين ومن الخارج.

حملات التفتيش والمداهمة: وتجري هذه لقواطع من أحياء معينة بعد فرض منع التجول على سكانها ثم البدء بالإنزال والهبوط فوق السطوح يتبعها تفتيش البيوت بشكل تفصيلي، وفي حالة العثور على أي شيء يدلل على أن الفرد كان يقرأ أو يمتلك أي قصاصة تمتدح أي طائفة أو فئة أو طبقة فإن عقوبة السجن المؤبد تكون بانتظاره.

كيف أصبح السلاح والعنف جزءا من نسيج المجتمع بهذا الشكل؟ قال العكام. هذا الوضع بدأ منذ اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية، إذ منذ ذلك الوقت دخل السلاح إلى المدارس وأصبح الجميع طلبة وأساتذة يتدربون على الكلاشينكوف. وإذا لم يكن التلاميذ يعطَون عتادا فإنه لم يكن عسيرا الحصول على بعض منه واستخدامه بشكل حي. بعد انتهاء تلك الحرب ظل عرض ما وقع خلالها من أحداث دامية يُعرض يوميا على شاشة التلفزيون عبر برنامج مخصص لهذا الغرض: “لكي لا ننسى”، وفيه يشاهد الناس جيلا بعد جيل مشاهد الحرب المروعة… إنه تعويد على الدم والقتل واستعداد للمشاركة فيه.

التستر على “المجرمين” أعداء النظام هو جريمة كبرى. كل الحلاقين وأصحاب المطاعم وغيرهم أصبحوا آذانا للنظام. الشعور بأنك متهم باستمرار وعليك أن تدفع عنك هذه التهمة هو ما يجعلك ميالا لرفع تقارير عن جيرانك وأسرتك. هل كافكا هو الآخر عراقي عندما كتب روايته “المحاكمة” التي تدور حول شعور المتهم بالذنب على الرغم من أنه لم يتم تعريف جريمته ولم يتمكن هو من الكشف عنها حتى مقتله.

4 ديسمبر

اليوم عند الساعة الرابعة والنصف صباحا قُرع الجرس بانتظام والحاح . توجهت إلى المطبخ  لفتح نافذته المطلة على الحديقة الأمامية، لكن ميس حضرت مسرعة في تلك اللحظة لتحذرني بشدة من تجنب القيام بذلك. ثم ذهبت بخفة إلى الطابق الأعلى. ومن نافذة معتمة تمكنتْ من تمييز إمرأتين تقفان عند الباب الخارجي. وبعد إيقاظ حمودي ووفاء اتجه أبواها إلى الباب.

4 ديسمبر

عرفت بعد استيقاظي لاحقا أنها حالة مرضية: حصوة في المرارة. فتحت سطوة ألم ممض جاءت الجارة مع ابنتها إلى بيت وفاء لطلب المساعدة. وبعد زرقها بإبرة وإعطائها حبة ضد الألم وإبقائها مستلقية لمدة ساعة ذهبت المرأة إلى بيتها مرتاحة… ما الذي كانت ستفعله تلك المرأة لو لم تتوفر لها مساعدة من الجيران؟

4 ديسمبر

الوقت ظهرا: حديقة الأمة مشعشعة بضوء النهار الصاخب. لم يتغير شيء من نصب الحرية لجواد سليم. كم ستكون صدمة كبيرة لي لو لحقه الخراب مثل غيره أو لو سرقت قطعه المثبتة فوق جداريته الطويلة المطلة على ساحة التحرير. لم تكن هذه المنطقة حتى لفترة متأخرة آمنة وتسمح بالتنزه والتقاط الصور مثلما أفعل الآن. عدا تلك الحديقة الصغيرة التي احتضنت تمثال خالد الرحال: الحرية  بدت كل الأشياء المحيطة بها مغرقة بقرويتها ورثاثتها. أثار انتباهي الحشيش الذي فقد نعومته تحت الأقدام وغياب أي شخص آخر عدانا معني بمشاهدة تمثال الحرية.

ذهبنا إلى قاعة كولبنكيان للفن الحديث وهذه تقع قرب ساحة التحرير. في الطريق كانت الأرصفة غاصة بأعداد خيالية من الباعة المتجولين الذين صفوا بضائعهم عليها: كاسيتات وأقراص مدمجة وملابس داخلية ولعب أطفال. ووسط ذلك الحشد الريفي ظلت أصوات المسجلات تردد قصائد في مدح آل البيت. كانت صورة القاعة الشهيرة في ذاكرتي زاخرة ببهاء خاص يعود إلى تلك السنوات التي كنا نتابع فيها معارض الرسامين البارزين كاظم حيدر وشاكر حسن آل سعيد وفائق حسن وحافظ الدروبي. لكن عينيّ لم تلتقيا إلا بمبنى خرب تماما أشبه بالكهوف. كان حجم التشوه أكبر من أن يثير شيئا من الذاكرة البعيدة التي تعود إلى زمن ذهبي لم أكن آنذاك أقدّر عظمته. أين ذهبت اللوحات إذن؟ ففي هذا المركز كان كنز الرسم الحديث الذي شهد تطورا هائلا في فترة الخمسينات وبرزت فيه أكثر من مدرسة فنية تضم عددا من الفنانين البارزين. هل هو قدر هذا البلد أن يشهد الطوفان من وقت إلى آخر. ليبدأ من جديد بلا ذاكرة؟

4 ديسمبر

اقترح فاضل العكام أن نذهب لإلقاء نظرة على سينما غرناطة التي لا تبعد عن ساحة التحرير أكثر من مائتي متر. كانت تلك السينما مدرسة لكلينا ففيها شاهدنا أفلاما عالمية كثيرة منها “زوربا” لكازنتزاكي  و”طريق الصدمات” و”الزيارة” لدورنيمات وعشرات الأفلام المقتبسة من روايات عالمية. كنا آنذاك في الثانوية حينما أصابنا الهوس بالسينما الراقية، وكانت سينما “غرناطة” هي الدليل الموجه لنا.

لكنني التقيت بمكان آخر لا يمت صلة بما تركته قبل 26 عاما. هنا اخترق الخراب “الفعلي” نسيج الجدران عبر الأرضة وسوسة الخشب لتدفعه صوب تشوه فجائعي. وأنا أتلفت حولي في هذا الشارع المغرق ببشاعته اكتشفت كم كانت بغداد جميلة وكم كنا مغفلين عن هذه الحقيقة. أو لعلنا لهذا السبب كنا مفعمين بفورة الفضول المعرفي غير المحدود.

4 ديسمبر

لم يكن الفيلم المعروض  له صلة بتلك الأفلام التي كنا نشاهدها. إنه فيلم خلاعة رخيص على الرغم من غياب أي صورة على اللوحة المغطاة بالزجاج يوحي بذلك. أختاه… أختاه هذا هو اسم الفيلم. طلبت من فاضل العكام أن يأخذ لي صورة عند مدخل السينما وورائي كانت صور هذا الفيلم تنبئ باسمه وموضوعه. فجأة ظهر رجل أربعيني يتبعه شاب. فمد يده إلى الكاميرا ليسحبها بالقوة من فاضل. “لماذا تفعل ذلك”؟ قال له فاضل وهو يحاول استرجاع الكاميرا. “اسحب يدك” صاح الآخر منفعلا. “ما الخطأ الذي اقترفناه”. “انتم قبل أن تصوروا يجب أن تأخذوا إذنا مني… من يقول إنكم لستم من الموساد أو القاعدة.. أعطياني جوازي سفركما”.

في داخل السينما وبعد أن اطمأن أننا لم نكن سوى حالمَين يسترجعان زمنا ولى بدون رجعة. راح يتحدث عن سبب تصرفه: أنا أول شخص فتحت السينما بعد 9 أبريل. وقبل أسابيع قليلة ضرِبت هذه السينما بقنبلة. انظرا إلى آثار الخراب. لقد قُتل شخص في الحادث. أنا شيعي ولكنني ضد تدخل رجال الدين في السياسة… لماذا لا تُحترم رغبات الناس… من يريد الذهاب إلى السينما فليفعل ومن يريد أن يذهب إلى المسجد فليفعل. في هذا الشارع هناك سينما ومسجد ومحل لبيع المشروبات الروحية وكلنا خائفون لماذا؟ يجب أن تكتبا عن ذلك”. قلت له مهدئا: “أنا معك في كل ما تقوله”. أضاف بنبرة معتذرة وهو يعيد الكاميرا: “إذا سمحوا لنا بجلب أفلام جيدة فنحن سنقوم بالتأكيد بذلك… انظرا إلى الشقوق على السقف والمياه التي تتسرب فيها والأرضة…” حضرني سؤال ونحن نغادر تلك المنطقة التي بدت شديدة البشاعة بعكس صورتها في الذاكرة: كيف سيكون وضع السينما عند زيارتي الثانية لبغداد؟

5 ديسمبر

يحاول مصطفى جاهدا حفظ قصيدة بغداد للشاعر المصري علي الجارم:

بغداد يا بلد الرشيد    ومنارة المجد التليد

يا بسمة لمّا تزل     زهراء في لوح الخلود

لكنه لفظ “لم” بدلا من “لمّا” وحينما ذكّرته بالفرق قال وماذا يهم. طلبت منه أن يعيد قراءة البيتين مرة أخرى.  ثم الاستعداد لحفظ أبياتها الأخرى. اعترض مصطفى على طول القصيدة على الرغم من أنها لا تزيد عن 8 أبيات.

5 ديسمبر

خرجت الساعة السادسة مساء اليوم لشراء بعض الملابس والهدايا. ذهبت معي وفاء ونورس وميس إضافة إلى نوار الذي تولى سياقة السيارة. كان حضور البنتين وأمهما معي مخالفا لما هو متوقع. إذ لم تمض سوى أربع ساعات عن انفجار لغم في منطقة بغداد الجديدة وخلّف وراءه ثلاثة قتلى عراقيين وأميركي بعد أن أصاب لغم حافلة عراقية بدلا من إصابة مصفحة أميركية.

كان المطر غزيرا يجعل الرؤية ضعيفة وهذا ما عمّق خوفي من وقوع عطل في السيارة وسط تلك المسافات المعتمة الفاصلة بين منطقة السيدية والكرادة. مررنا بنقطة سيطرة للشرطة العراقية. استبشر جميع من في السيارة خيرا وهم يرددون عبارات التشجيع لرجال الأمن الشباب. قالت وفاء لهم: “ليحفظكم الله”. ولا بد أنها استحضرت في ذهنها أولئك الجنود الذين قُتلوا غدرا خلال الفترة السابقة.

5 ديسمبر

التهيؤ للسفر: إعداد الحقائب. يبدو على البعض حالة انفعال واكتئاب. مصطفى يواصل حفظه للنصوص الإنجليزية بعد أن حفظ القصيدة… غدا سيكون عنده امتحان.

6 ديسمبر

كان نومي متقطعا. بات فاضل في بيت وفاء وحمودي بعد أن ودع أمس أهله في “سدة الهندية”. انتابني ونحن نتناول الفطور وسط الوجوم الذي ساد بين الصغار شعور بأن هذا البيت كان شبيها بواحة وسط عالم مزعزع. حضر نوّار في حدود التاسعة. كان علينا أن نغادر مبكرين فالطرق ستزدحم بالسيارات بعد قليل، ووقت المغادرة على بطاقات السفر هو الحادية عشرة صباحا.

اخترقنا طريقا فرعيا غاصا بالبساتين تجنبا لاختناقات الشارع المار بمنطقة المنصور، مررنا بحي مسوّر كان خاصا بسكن الوزراء. “إنه أشبه بالسجن”. قال فاضل. “لم يكن مسموحا للسواق المرور بهذا الطريق”. أجاب نوّار.

كل شيء بدا مغسولا في المدينة، فكأن مبانيها قد نفضت عن كاهلها غبار الحروب ولم يبق هناك بدلا عنها سوى ضوء الشمس وسماء زرقاء… كان الهواء العذب يراوغنا بتأجيل فكرة السفر. حتى الآن نحن أجلناه ثلاث مرات. ها نحن نمر بالمتحف الوطني. اختفى من أمامي تمثال حمورابي الذي ظل معروضا منذ طفولتي للمارة، مذكِّرا إياهم بأول مشرِّع قانون في تاريخ الإنسان. وقبل أن نصل إلى جسر الأحرار توقفت السيارة.

6 ديسمبر

بدا انتظار تحرك الحافلة دهرا. كانت عيناي معلقتين بالمودعين: وفاء ونوّار. خالي سعدي وزوجته، وفاضل العكام. هكذا كأن العالم لم يتغير مثلما تركته قبل ست وعشرين سنة إلا بتلك الغضون التي زحفت إلى الوجوه وبقدوم وجوه جديدة إلى الحياة أصبحت وعن بعد جزءا من دائرة تفكيري: أبناء وفاء. حضرتني في تلك اللحظة آلاف الأسئلة والانطباعات ونحن مأسورون في تلك اللحظة، مخترقة حواجز اللغة وقصورها. ما الذي سيجري لهم إلى حين  قدومي ثانية إليهم؟ هل سيفلت العراق من المراهنات التي تتنبأ بانهياره؟ هل ستتحرك حالة الخمود فيه لتصبح قوة مولدة شبيهة بتلك المولدات الكهربائية الصغيرة التي تبث الضوء والدفء في مكامن عتمة البيوت البغدادية؟ وهل ستبقى هناك واحة يستطيع الطير المهاجر الالتجاء إليها ولو إلى حين؟

6 ديسمبر

في الطريق إلى دمشق. التوقف بعد رحلة ساعتين ونصف الساعة في مقهى موحش. وبعد انتهاء فترة النصف ساعة المخصصة للاستراحة وتناول الطعام اتضح أن هناك نقصا في عدد ركاب الحافلة. صاح أحد الجالسين في السائق: انتظر.. هناك اثنان ذهبا لتأدية الصلاة .. الانتظار نصف ساعة أخرى. لم يحتجّ أي من الجالسين. كانت الوجوه متجهمة ومنتظرة بصمت. فالتأخر سيبقينا في الجانب العراقي عند حلول الظلام… السائق سوري ببرودة أعصاب تناسب الوضع. ها نحن معلقون بانتظار قدوم المتخلفين. علق أحدهم ساخرا: هذا بسبب الديمقراطية.

رافقنا على امتداد الرحلة صوت جورج وسوّف. كانت معظم أغانيه على الكاسيت مستعارة من المغني سعدون جابر بنبرة تخلو من الحزن الفجائعي الذي يتميز به المغنون العراقيون عن جدارة. أو بشكل أدق كان جورج وسّوف عاجزا على نقل ذلك المناخ الشعوري الذي ظلت الأقوام القادمة للعراق عبر شتى العصور تجدده، ابتداءً من جلجامش وانتهاءً بفرقة “ثلاثي العشاق المعذبين” والغجرية الصاعدة “هجران”.

 

اقرأ ايضاً