مملكة النمل
من سيصدق منكم حكايتي؟ أعلم أنكم سترددون حال انتهائي منها: “هذيان مجنون”. وانا ينتابني مثلكم، احياناً، الشك بحقيقة ما يدور في ذاكرتي ليل نهار، قرقعة ماكنة تضجّ في رأسي دوماً، برغم الادوية والكهرباء وركلات الممرضين، برغم أنها وقعت قبل أعوام كثيرة، كثيرة جداً، عشرة اعوام، عشرين عاماً، ثلاثين، أربعين… لكنها ما زالت طرية في جمجمتي كأنها حدثت البارحة. ربما تكون حلما، ربما قد جرت لشخص آخر غيري، ربما… لكنّ اسمه عدنان، نعم، عدنان عبدالجبار، ابنه البكر سعدي، يكنّيه الكل بابي سعدي، في العمل، في البيت، في المحلة، في كل مكان. ها، ها، ها…تستغربون لضحكي، إلاّ أنكم حتماً ستشاركونني الضحك حتى يصيبكم الاغماء حينما تسمعون القصة كاملة.
كنت في ذلك الوقت سياسياً، (توقفوا عن الضحك وإلاّ…)، عضوا في الحزب. كم جنبني الانتماء إليه المشاكل، لا يسبّب لي، على سبيل المثال، الذهاب إلى الدائرة متأخراً عشر دقائق أيّ احراج أمام المدير: لا أسئلة، لا نظرات لوم أو سخرية، لا كلمات نابية جارحة. درجته الحزبية أقل من درجتي. ها، ها، ها… كذلك فأنا لا انحني للذين هم أعلى منّي مرتبة، بل انحني أمامهم لسيدي، فيشاركونني في الانحناء أكثر فأكثر. نحن جميعاً نبرك على ركابنا وننهض في وقت واحد له، كأننا نؤدي صلاة الجمعة حتى إمام الجامع يركع مثلنا: لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى. ها، ها، ها…
اصارحكم القول أن حبي لسيدي وخشيتي منه قد بلغا درجة جعلتني أشعر بحضوره اينما حللت، مثلما يرافقني الملَكان الصالحان دوماً على كتفيّ، ولم يكلفني الوصول إلى منصب نائب المدير أكثر من خمسة أعوام خدمة حزبية في وقت أقصي من لديه خدمة أطول عن احتلال المناصب السامية لعدم انضمامه إلى الحزب مبكراً. كل يوم، وحينما أضع رأسي على المخدة، أشعر بالطمأنينة، لعدم قيامي بأي فعل يغتاظ منه سيّدي، وإذا زار الدائرة التي أعمل فيها غداً، سيربت على كتفي، بلا شك، بعد أن يشاهد ما حققته خلال فترة قصيرة من احتلال المنصب في المؤسسة. كل الجهود التي بذلتها في عملي هي لارضاء سيّدي، وتهيّوءاً لليوم المشهود، حينما نلتقي وجهاً لوجه: يوم تسودّ وجوه ويوم تبيضّ وجوه… أراه في الحلم، أحيانا، يداعب أطفالي، حيث يملأ الرضا اسارير وجهه مني. طوبى لمن لهم سيّد كسيّدي…
تسكن، منذ زمن بعيد، عائلة أبي سعدي جوارنا. لايفصلنا عن بعض سوى جدار. لا يفترق أطفاله عن أطفالي، زوجتي وزوجته أكثر من أختين، وأنا وهو صديقان حميمان. نذهب معظم أيام الاسبوع إلى المقهى مساء، نلعب الورق أو الدومنة مع الآخرين كفريق واحد. نتفاهم جيداً في الأعين اثناء اللعب، ولن أبالغ إذا قلت أننا أفضل لاعبين في المنطقة كلها. حينما أذهب إلى المقهى وحدي يسألني الآخرون عن أبي سعدي، مندهشين لعدم حضوره معي… كنا توأماً سيامياً، ها، ها، ها… كنا عائلة واحدة، أطفالي يبيتون أحياناً في بيته، وأطفاله يقضون الليل عندي أحياناً أخرى. لقد توثقت علاقتنا ببعض إلى حد أننا فكرنا باسقاط الجدار الفاصل بيننا.
يعمّ الفرح الجميع، حينما يلتقي الصغار ببعضهم، حينما تلتقي زوجتي بزوجته، حينما التقي به، والحديث يدور عنهم مثلما هم يفعلون أيضا.. كانت سنوات خير تلك التي قضيناها متجاورين.
تلتقي حلقتنا كل اسبوعين. يخبرنا المشرف عمّا هو جديد من قرارات سيّدي وتوجيهاته. يسأل عمّن يودّ الانضمام إلينا، أو عمّن هو… معادٍ لسيّدي. لايستغرق الاجتماع وقتاً طويلاً، وهو في غالب الأحيان لقاء روتيني بين أصدقاء يجمعهم هدف واحد، وارادة واحدة، يقفون في خندق واحد.
ما كان على ابي سعدي أن يقوم بذلك الفعل،الشنيع، المتهور، أمامي. بل يمكن اعتبار تصرفه استغلالاً لطيبتي، وحبي له: في بيته، ونحن نشرب العرق معاً ونتابع برامج التلفزيون دون تركيز واهتمام كبيرين، ظهر سيّدي على الشاشة لالقاء خطاب جديد، فتعكر مزاج جاري. أمر ابنه باغلاق التلفزيون. لم يكتف بذلك، بل سألني قبل أن يفتح جهاز التسجيل أيّ مغنٍ احب الاستماع إليه. في تلك اللحظة أحسست أن سيدي جالس داخل التلفزيون، وأنه قد ألقى عليّ نظرة مواربة مستفسراً عن موقفي تجاه أبي سعدي، وهذا ما جعل الدم يتدفق في عروقي أسرع فأسرع، والعرق كله يتبخر من رأسي فوراً. من يجرأ بربكم على القيام بفعل، أخرق، شائن، كهذا، سوى الاشرار، سوى الخونة، سوى…
سألني المشرف إن كنت قد شاهدت سيّدي في التلفزيون، وحين أجبته بالنفي، التفت الحاضرون بعضهم إلى بعض مندهشين لجوابي، إذ سجّل كل منهم ملاحظات تثمّن الخطاب وتبين ما الجديد فيه. اعدّ بعضهم أسئلة حول ما خفي عنهم من معانٍ عميقة. فاجأني المشرف بغتة بسؤاله: “لماذا؟” ففلتت مني تلك الجملة: “أطفأ جاري التلفزيون إثناء…” زادت الدهشة على الوجوه، تقوّس حاجبا المشرف، ظهرت الخطوط على جبهته أعمق من قبل، ضاقت عيناه المسلّطتان عليّ. ظهر لي سيّدي وراءه مختفياً يراقب ما يجري في تلك الحجرة، فرحت اتحدث عن جهودي التي بذلتها لتغيير افكار جاري. كم سعيت أن أجعله صديقاً للحزب، محباً لسيّدي، لكن مرضاً نفسياً أعاق تحوله نحو عالم الخير، وكم هو في حاجة إلى العلاج. أعطيت تفصيلات أخرى صغيرة عن سلوكه المعادي لسيّدي، بعضها وهمية، لكنها بدت في ذلك الوقت حقيقية لذاكرتي. طلب المشرف مني كتابة ما قلته برسالة تفصيلية، ففعلت فوراً. حاولت أن اجعل خطّي أجمل ما استطيع. ها، ها، ها…
دعانا أبو سعدي إلى بيته مساء. أعدت زوجته مائدتين كبيرتين، واحدة للصغار وأخرى للكبار. كم تجيد أم سعدي الطبخ، تعرف الكثير من الأكلات الشرقية والغربية، وكم تفرح حينما يسألها الضيوف عن اسمائها، أو عن كيفية اعدادها، بعكس زوجتي التي لا تجيد سوى أربع أو خمس أكلات تعلمتها من أمها، وتكررها طيلة أيام السنة. كانت المناسبة ترقيته في السلّم الوظيفي. قالت زوجته كم هم فرحون بصداقتنا وجيرتنا لهم. قالت زوجتي أننا نكنّ لهم نفس المشاعر. وكان الأطفال يلعبون ضاحكين، لاشكوى تأتينا من بعضهم ضد بعض، لا بكاء، لا صرخات منهم. وحينما ودّعناهم، انغرزت عينا أبي سعدي في عينيّ، طافحتين بمشاعر الصداقة العميقة، فقبّلته بكل اخلاص، وظلت نظراته مرافقة إيّاي تلك الليلة.
بعد اعتقاله بقيت واقعا تحت وطأة الهلع، خوفا من اتهامي بالتواطؤ معه. ما الذي سيحدث لي إذا فكر جاري بطريقة “عليّ وعلى اعدائي”، فزعم أننا مشتركان في نشاط تخريبي ضد سيّدي؟ ما الذي سأقوله إذا وُضِعتُ أمامه وجهاً لوجه؟ ما الذي…؟ ظهر لي سيّدي خلال تلك الأيام العصيبة في الحلم مرات عديدة، حيث بدا الغضب على محيّاه، وتطاير الشرر من عينيه المسلطتين عليّ. رأيت نفسي في أحد تلك الأحلام، داخل صالة كبيرة كأنها محل لبيع الجلود، غُطِّيتْ الأرض والسقف والجدران بجلود البقر، واستند السقف على أعمدة خشبية، افقياً وعمودياً، تتدلى منها سلع كثيرة، معلقة كلها بمسامير وكلاليب: كؤوس ذات أذرع، حبال، أشرطة جلدية، حقائب جلدية…سلع كثيرة تملأ السقف والجدران، لكنها جميعاً معلقة. ظهر لي سيّدي واقفا في شرفة تطلّ على الصالة، ويفصلها درازون عنها. قال باشمئزاز وسخط واضحين: “سنعفو عنك إذا عبرت الصحراء ركضاً. انصرف…”. لم يكن الصوت قادماً منه فقط، بل من الجدران والنوافذ والسقف والجلود والأرض والهواء. ثم وجدت نفسي وسط أعداد كبيرة من الراكضين في شارع ترابي، يغطينا الغبار المتصاعد منه مختلطاً بالعرق النازف من أجسادنا، استيقظت فزعاً. كانت الساعة الثالثة تقريباً، وزوجتي تغطّ في شخير، ثقيل، متواصل، جعل النوم عسيراً عليّ ثانية.
جاءت البشارة اخيراً: رسالة شكر وتشجيع من الذين في القمة تقديراً لاخلاصي، وترقية حزبية جعلتني مشرفاً على الحلقة التي كنت عضواً فيها، فاقتربت خطوة نحو سيّدي. نسيت اثناء تلك الأيام المفرحة جاري، بل كدت اذهب إلى بيته للالتقاء به، حتى جاء النبأ اليقين.
لن أتحدث عن أمور تقع كل يوم، في كل مكان، وكل زمان، وهي سنّة الحياة، شئتم أم أبيتم. ستقولون عني أنني واشٍ، (رغم أن فكرة عقابه بهذه الطريقة لم تراودني لحظة واحدة)، لكنكم ستكتشفون خطأ حكمكم إذا نظرتم للمسألة من زاوية أخرى. أليس موقفي يدلّل على حزم ومبدئية يتمتع بها كل سياسي مخلص وصادق؟ إذ ما الذي سيحدث لو أن أبا سعدي تُرِك له العنان ليجمع أعواناً حوله، وهؤلاء سيتكاثرون مثلما تتكاثر خلايا السرطان؟ هل وُجِد علاج آخر للسرطان غير الاستئصال؟ الاستئصال، صالَ، صالة، صالون، صابون، صَلْب،
ها، ها، ها…
أُقيمت مراسيم الفاتحة كالعادة على روح أبي سعدي. لم يكن لجاري أقارب في العاصمة، وهذا ما جعلني اتحمّل أعباء الفاتحة كلها: تكفلت بكل المصاريف، استقبلت المعزين الذين كانوا يواسونني عند خروجهم ودخولهم نيابة عن أسرة الفقيد. حضر الفاتحة رفاقي أيضا. أحدهم، غمز لي بعينه اليمنى قبل مغادرته الحجرة. لم يكن تصرفه ناجماً عن خبث أو رغبة في الايذاء، بل هو مزاح اصدقاء يرغبون في التعبير عن تضامنهم معي، ولقد بادلته الغمز بطريقة تجعل وجهي محافظاً على حزنه أمام الآخرين، ولكأنني أردت أن اقول: كم الآخرون مغفلون حينما يصدقون ما يرونه، ها، ها، ها… لكنني في الحقيقة كنت متألما لموت جاري. أذكر أنني قبل خروج المعزين بساعة، غرقت في نوبة بكاء حادة استمرت وقتاً طويلاً. كأن هنالك قوتين تحركانني: أحدهما نحو سيّدي والأخرى نحو أبي سعدي. في ذلك الوقت لم تكن الأمور واضحة في رأسي مثلما هي واضحة الآن. ربما يرجع الفضل لاكتشاف ما خفي عني آنذاك للكهرباء والركلات، ها، ها، ها… أراكم لأول مرة تضحكون معي، توقعت أنكم ستقدّرون في نهاية المطاف روح النكتة التي اتمتع بها.
مع مرور الوقت، بدأت الحياة تعود إلى مجراها الطبيعي، لكن منغصاً واحداً ظل ينخزني من حين إلى آخر، وربما سيثير عاصفة من الضحك إذا ذكرته لكم: إنها ابتسامة أبي سعدي التي قدمها لي ليلة العشاء الأخير معه، ما إن أغمض عينيّ، حتى أراه أمامي، وعلى أسارير وجهه مرسومة تلك الابتسامة. قد تسألونني كيف شكلها؟ من المستحيل وصفها، هي، باختصار، مثل كف دافئة ممدودة إليكم في ليلة شتاء بردها قارس. إذا لمستموها فلن يغادر دفؤها اجسادكم أبداً. اكتشفت انني محاط بها من كل جانب، إذ راح اطفاله الثلاثة يبتسمون لي بنفس الطريقة، بل هم علّموا أطفالي الابتسام مثلهم، وزوجتي مضت تقلّد أم سعدي (التي هي ليست سوى ببغاء تردد ما يقوم به زوجها).
أصارحكم القول أنني كنت أحياناً اشكّ بعواطفه، إلى أن جاءت تلك الابتسامة. ربما كنت لا أشي به لو أنه قدّمها لي يوماً واحداً قبل ذلك الاجتماع المشؤوم. تشبه ابتسامته ثقة الطفل بأبيه الذي يحمله على صدره ويدور به في حديقة الحيوانات. إذ لن تنتاب الطفل، لحظة واحدة، فكرة أن اباه سيلقي به طعاماً للأسود أو الذئاب، ها، ها، ها… ما الذي يحدث لو أن الأب حرك يديه دافعاً بطفله إلى أعلى، (ظاناً أن ما يحمله كرة أو حجراً ثقيلاً)، صوب النمور؟ هل ستندهش النمور لتصرفه، فتلاعب الطفل المرعوب قليلاً حتى مجيء الأب لالتقاطه منها؟ ها، ها، ها…أو هل ستتزلزل الأرض آنذاك أو تنشق السماء، لمنعها من القيام بما جُبِلتْ عليه؟ ربما لو رمى الأب إبنه إلى القردة فإنه لن يثير أيّ رد فعل، بل سيكون الطفل ممتناً لأبيه. هل هناك أظرف من القردة في هذا العالم؟ انتم ستقولون أنني مجنون. لكنني اؤكد لكن أن الكهرباء أعظم اكتشاف قام به الانسان، إذ أنها تزيح الشحم المتجمد حول الدماغ، وتبعث الدماء إليه، ها، ها، ها…
عدت إلى بيتي ذلك المساء منهكاً. حلّ الصيف مبكراً تلك السنة، وعلى نخلة الحديقة الوحيدة حطّ لقلق جوّال رحاله، وكانت رائحة الجوري والرازقي تعبق في كل مكان. سافرت أم سعدي إلى اهلها الساكنين في الجنوب، لتبقى عندهم طيلة عطلة الأطفال الصيفية مع صغارها. قبل أن افتح باب الحديقة، أثار استغرابي الضوء المولع في غرفة نوم المرحوم المطلّة على الشارع. سألت زوجتي إن كان جيراننا قد رجعوا إلى مسكنهم فنفت ذلك. قضيت جزءاً طويلاً من الليل عاجزاً عن النوم، متقلّباً على فراشي، تواجهني النجوم المتلألئة من كل جانب. خرجت إلى الحديقة، فلاح لي المصباح ثانية، وعبرت قطة سوداء ضخمة من جانبي. تكررت الحادثة مراراً، وأصبحتُ عاجزاً عن إداء عملي للأرق الذي ظل يلازمني. الححتُ مرة على زوجتي أن تراقب معي الضوء في بيت جيراننا، لكننا فوجئنا بالظلام يعمّه. كان هنالك من يلعب معي “عسكر وحرامية”، ومضى يكررها كل ليلة.
عبرت يوماً، وأنا بين اليقظة والنوم، في ساعة متأخرة من الليل، الجدار الفاصل بين سطحي بيتينا. هبطتُ، في تأنّ صوب غرفة النوم، وسط الظلمة المحيطة بي، يخترق بريق الضوء القادم منها الباب، لينشر رذاذاً على جدران الممر المؤدي إليها. دخلت إلى الحجرة، ففاجأني ضوء غريب قادماً من نار مشتعلة وسطها. حينما نظرتُ إلى الأرضية لم تلامس عيناي خشباً أو موقداً لها، كانت مولعة في الفراغ، مرتفعة حتى السقف، لكنها نار لا تحرق ما تلمسه، إذ برغم أنها تتصاعد من وسط الملابس والأفرشة والسرير والكراسي، فإن كل شيء بقي محافظاً على حالته. هناك في الزاوية اليمنى، جلس رجل على كرسي، شابكاً كفّيه فوق حضنه ومطأطئاً رأسه. ما إن اقتربتُ منه حتى رفع رأسه. هل يمكنكم أن تحزروا من يكون؟ ها هو يرسم لي ابتسامة مماثلة لتلك التي منحها إيّاي في آخر لقاء به، محمّلة بنفس المودة والحب، تخترقان دون توقف عينيّ؛ لا مشاعر عتاب، لا نظرات قاسية، لكأن الوقت الذي تناولنا فيه ذلك العشاء اللذيذ قد جمد على حاله. نسيت ولدقائق ما جرى خلال الفترة الأخيرة، ذبت في عاطفة موازية لعاطفته نحوي، وكدت أعرض عليه الذهاب إلى المقهى، مثلما اعتدنا أن نفعل في تلك الأيام الخوالي. لكن من أين اجلب الكلمات وسط هذا العالم المدهش؟ وسط الخوف والقلق؟ بدلاً عن ذلك، بكيت بحرقة طويلاً، وما إن ارتفع صياح الديك حتى راحت النار تتلاشى. غادر أبو سعدي الحجرة بهدوء، متجاهلاً إياي، لأجدني في قلب العتمة. حينما رجعتُ إلى سطح بيتي، كان السحر قد حل آنذاك.
أمسيت أسمع خطاه في الحديقة كل ليلة بعد أن ينام الجميع، حيث أميّز سعلته الحادة المختنقة ودندنته باغنية قديمة. احياناً أطلّ على حديقتهم من أعلى الحائط الفاصل بيننا، فأراه يتجول فيها بشرود، أو يشتل أقلام الجوري، أو يسقي الثيِّل والزهور، يرفع لي أحياناً رأسه مبتسماُ، ثم يعود إلى عمله. جعل ظهوره المتواصل، حياتي، جحيماً في المدينة، وعبئاً لا يطاق، افقدني وإلى الأبد القدرة على النوم، حتى جاء الفرج عندما رشّحتني الوزارة التي اعمل فيها لاحتلال منصب مدير ناحية نائية في الريف، فقبلت بعرضها فوراً. إذ برغم أنني لم أعش في الريف من قبل، وبرغم أن أطفالي سيعانون من هذا التغيير الجذري في حياتهم، لكنها فرصة ذهبية لقلب صفحة والبدء في أخرى جديدة. كل انسان يخطأ، حتى الأنبياء يخطأون، اليس كذلك؟ وانتم ايضا…ها، ها، ها.
كان نهاراً قائظاً، ملبّداً بغبار كثيف، حوّل الشمس إلى قرص منطفئ، باهت، طيني اللون. انفتحت أبواب جهنّم على البشر بسعيرها اللاهب إليهم دون توقف. أتلفّتُ حولي إلى الوجوه، فأراها مطلية بطبقة من مسحوق التراب الناعم، يتكاثف على الشفتين، فوق الأنف، وحول العينين، ليجعل منها وجوه مهرِّجين يدورون دون جدوى وسط سِيرْك كبير. جئت إلى العاصمة صباح ذلك اليوم لحضور ملتقى واسع يضم الموظفين الكبار في الريف والضواحي النائية هدفه دراسة طرق ربط العاصمة بأطراف البلد الشاسعة. حضر سيّدي إلى قاعة الاجتماع، فرأيته لأول مرة من بعيد، يشعّ من قامته المديدة نور ساطع. أصبح الجو قدسياً يبعث على الرهبة والاحترام حال دخوله القاعة. أصابني الذهول وأنا أتابع خطواته المتأنيّة صوب المنصّة. وحينما مضى يتحدث بهدوئه ورزانته المألوفين، أحسست أن رنين كلماته يخترق سمعي، ليصل إلى عروقي، فيبعث الرعشة في أوصالي. لاحت الوجوه حولي مغطاة بالشحوب والعرق، تتقلّب الانفعالات على اساريرها مع تقلّب موضوعات خطاب سيّدي. انتقد المتقاعسين والمرتشين فتمنيت أن أكون جلاّداً، في تلك اللحظة لأقتصّ منهم جميعاً، تحدث عن ضرورة تطوير الزراعة في بلادنا، فوددت أن أتحول إلى ثور مجنّح، يقلب الأرض برمشة عين، وحينما دعى إلى البناء، تمنيت أن أتحوّل إلى جنّي، يخدم سيّدي في تحقيق أحلامه النيّرة. كانت الفترة السابقة التي قضيتها في الريف مرهقة كثيراً، فكل شيء في حاجة إلى إعادة تنظيم: الملفات المتكدسة، دفاتر الحسابات، كسل الموظفين وتقاعسهم، إضافة لمشاكل نقل اطفالي إلى مدارس جديدة وتعوّدهم على حياة الريف. اقسم لكم أنني اندفعت في عمل واسع لتحسين ظروف حياة الناس هنالك: بذلتُ جهودا كبيرة لجلب مضخات ماء إضافية، أمرتُ بتنظيف السواقي وتعريضها، جلبتُ طبيبين للمنطقة، وسّعتُ بناية المدرسة… وكانت مكافأتي عظيمة: النوم العميق ليلاً بعد نهار عمل مضنٍ…
حينما تركتُ القاعة، استقبلتني سماء نحاسية داكنة اللون، بدت لي واطئة كأنها تكاد تنطبق على الأرض، والهواء يقذفني بابره الصغيرة الملتهبة دون توقف. رافقني في الخروج زميلان قديمان، عرضا عليّ الذهاب معهما إلى البار فوافقت، عرّفاني بشخص آخر معهما:
أبو سعدي!
كان بار ليالي الهناء غاصّاً برواده، تنشر اضواؤه الخافتة ودوائر دخان السجائر غيمة كثيفة رمادية فوقهم، تعزل الستائر الذهبية اللون، الموشّاة بنقوش غامقة، الخارج عن الداخل، ومكيّفات الهواء فيه تجعلكم تنسون أن “جهنم” واقفة عند الباب. دار الحديث حول مجريات الملتقى في يومه الأول، وما ينتظرنا من نشاطات في اليومين اللاحقين. كنت ساهياً عن أحاديثهم. لعبتُ دور المنصت، المهنم كثيراً بآرائهم، وظلت عيناي تتنقّلان بين زميليّ متجنبة الوقوع على الرجل الثالث: ابي سعدي.
جرعت البيرة بسرعة، للتخفيف من ذلك التوتر الذي كنت تحته: لا تدخين طيلة النهار، الغبار والحرّ الخانقان، العطش الشديد المتواصل، اللقاء باناس لا أعرفهم، وإضافة لذلك، عليّ البقاء يومين آخرين في العاصمة. التقطتُ عن مضض حكاية رواها ذلك الـ “ابو سعدي”: تحدث بأسى عن فقدانه صديقاً قُتِل في حادث انقلاب سيارته على الطريق الخارجي. كان برفقته، أطفاله الأربعة وزوجته، الذين لم يُصَب أحد منهم بأيّ أذى، لكن موت الرجل بين ذراعي امرأته أدّى إلى فقدانها العقل بعد شهر واحد من الحادثة، فُنقِلتْ إلى المستشفى لتقيم فيها بقية حياتها، أما الأطفال فقد وُضِعوا في دار الأيتام. لا أدري كيف تسلطت على ذهني “أم سعدي”. إذ لم يكن سهلاً عليها رؤية زوجها، وعلى وجهه وجسده آثار الـ… انتابني خوف عليها وعلى أطفالها للدرجة التي لم أستطع مقاومة الرغبة في الذهاب إليهم للاطمئنان عليهم.
في الطريق اشتريت فاكهة وهدايا: لعبة طائرة لسعدي ودمية لسميرة ومسدساً لسامي. ظل الغبار خارج السيارة يتساقط مثل الجراد الأصفر الصغير، فارشاً الزجاج والأرض والأشجار والوجوه والأضواء بلون شاحب، أشمُّ رائحته النفّاذة قادمة من بوادٍ عطشى لم تعرف طعم الماء منذ مئات السنوات. اشتعل الضوء الأحمر في السيارة تنبيهاً لي بنفاد البنزين، فانعطفتُ إلى أول محطة للوقود في الطريق. بعد أن ملأ العامل خزّان البنزين، أخرجتُ له الصفيحة الفارغة التي طالما كنت أملؤها بالوقود عند سفري مسافات طويلة.
عندما وصلتُ إلى بيتهم، التمّ حولي بعض الجيران سائلين عن حالي وحال عائلتي. أخبرني أحدهم أن عائلة أبي سعدي قد غادرت العاصمة إلى حيث يسكن أهل الزوجة، وأن البيت معروض للبيع. ودّعتهم وغادرت المكان. قبل ذهابي لمحت ضوء الغرفة العلوية مشتعلاً، وهذا ما جعل شعْر رأسي ينتصب وجلدي يكشّ. ازدادت ضربات قلبي اندفاعاً، انحبس الهواء في صدري، انبجست الدماء في عروقي بعنف. ذهبت إلى الفندق مباشرة، سعيت للنوم، شربت زجاجة ويسكي بأكملها، لكن دون جدوى، فلقد ظل الأرق ملازماً إيّاي. تملكني فضول شديد في الذهاب ثانية إلى بيت أبي سعدي، للتأكد من أن الضوء الذي رأيته حقيقة لا وهماً. كانت الأشهر السابقة التي قضيتها في الريف فترة نقاهة شفيت خلالها من كل الأوهام التي حاصرتني زمناً طويلاً، ومن الضروري التأكد من شفائي أو جنوني!
وصلت إلى هناك في ساعة متأخرة من الليل، دفعتُ باب الحديقة، فانفتح بسهولة، كان اللون التبني للبيت، وبقع الضوء الخافتة على واجهته، وعويل العاصفة، والسماء الحمراء، تشعرني بأنني في حلم لا بداية له ولا نهاية، وإنني منساق دون إرادتي لتأدية دور مرسوم لي مسبقاً فيه. قابلني ظلام البيت الدامس، فتنفست الصعداء آنذاك. قبل أن أخطو عائداً نحو باب الحديقة للخروج منها، لمحتُ رجلاً ينظر من أعلى إليّ. كان أبو سعدي مدلّيا برأسه من النافذة، ووجهه متجهم كتجهم السماء، يطفو الاشمئزاز على وجهه منّي، وعيناه مثبتتان عليّ. كانت اضواء الشارع كافية لرؤيته بوضوح. لعنته، شتمته مراراً، صرخت به بأعلى صوتي: “سأحرقك أيها الـ…”.
لا أذكر بالضبط كيف وجدت نفسي حاملاً صفيحة البنزين بكلتا يديّ لاسكب منها على الباب، ثم أكسر الزجاج فأرمي شيئاً من الزيت على الأرضية المعتمة، وبقايا الأثاث المتناثر عليها، ولم احتج إلى اكثر من قدحة واحدة من ولاّعتي. آنذاك راحت الأضواء تتكاثر في الجانب الآخر من الشارع، واطلّت رؤوس من النوافذ والبلكونات، تراقب ما يجري. ما إن ارتفعت النار حتى انطلقت صرخات الهلع وأصوات السيارات، ووسط ذلك اللهيب اختفى وجه أبي سعدي وإلى الأبد، وغمرني هدوء عميق لم أشعر بمثله من قبل طيلة حياتي، هدوء جعلني أسعد إنسان على وجه الأرض آنذاك…
ما رأيكم؟ أعجبتكم حكايتي؟ لا؟ لا يهم. عندي أخرى ستحبونها حتماً. لكنهم قادمون، ألا تسمعون وقع احذيتهم؟ موعد الأدوية قد حان، يجب أن تختفوا وإلاّ سأُعاقب. تعالوا غدا إذا احببتم. عليكم أن تهربوا بسرعة. هناك ثقب في الجدار، ألا ترونه؟ ماذا؟ لايسعكم؟ هه، إنه يكفي جيشاً بأكمله. كل يوم يخرج منه قطيع طويل من النمل الأسود، طويل جداً، إنه مملكتهم. ستحلّون ضيوفاً على مَلِكتهم…اركضوا الآن، اركضوا رجاءً، اركضوا، اركـ…
لندن، صيف1987