من كتاب “شكوك سيزان” لموريس ميرلو بونتي

2٬406

من كتاب “شكوك  سيزان” لموريس ميرلو بونتي

Doubting Genius:
Merleau-Ponty’s ‘Cézanne’s Doubt,’

 

كان سيزان راغبا في العودة إلى رسم الأشياء المادية من دون التخلي عن جماليات الفنان الانطباعي الذي يأخذ الطبيعة موديلا، لذلك كانت رسومه تحمل المفارقة التالية: من جانب، كان ينقل الواقع على لوحاته  من دون التخلي عن السطح الذي يمنح متعة حسية للعين، من دون وجود أي شيء آخر سوى الانطباع المباشر الذي تثيره الطبيعة،  ومن دون رسم التقاطيع الخطية، أو رسم خط حدودي يطوق اللون، ومن دون ترتيب منظوري أو صوري للأشياء في اللوحة. هذا ما دعاه الناقد الفني برنارد انتحار سيزان: التوجه نحو الواقع بينما هو يحرم نفسه من الوسائل التي تساعده على التعبير عن هذا الواقع فنيا. وهذا هو السبب لمصاعبه وتشويهاته التي يمكن تلمسها في رسومه التي أنجزها بين عامي 1870 و 1890. فالأكواب والصحون على المائدة يجب أن تظهر للعين، من جانب واحد، بيضوية، لكن رسوم سيزان تظهرجانبي هذه الأجسام كأنها مضخمة وممطوطة. فطاولة الكتابة في بوتريت “غوستاف جيوفري” تتمدد بشكل معاكس لقوانين المنظور عند الجزء الأسفل من اللوحة. بالتخلي عن الخط الحدودي  the contourيكون سيزان قد سلّم نفسه إلى فوضى الحواس، وهذا ما سيؤثر على الوضع الحقيقي للأشياء في الصورة ويخلق قدرا من الخداع البصري، الشبيه بذلك الوهم الذي يتشكل عندنا حينما نحرك رأسنا فيتراءى لنا أن الأشياء هي التي تتحرك إذا لم تقم ملكة التمييز العقلية لدينا بإسقاط هذه الأوهام الحسية بشكل متواصل. حسب  برنار، “أغرق سيزان لوحته في الجهل وعقله في الظلال”. لكن المرء لا يستطيع تقييم أعماله بهذه الطريقة إلا إذا أغلق دماغه لنصف ما قاله سيزان وأغلق عينيه لما رسمه سيزان.

ويبدو من أحاديث سيزان مع اميل برنار أنه كان دائما يسعى إلى تجنب البدائل الجاهزة المقترحة عليه: الإحساس مقابل الحكم العقلي؛ الرسام الذي ينظر مقابل الرسام الذي يفكر؛ الطبيعة مقابل التشكيل الفني؛ البدائية مقابل التقاليد المفروضة على الفنان… لم يفكر سيزان  بأن عليه أن يختار بين الشعور والفكرة، بين النظام  والفوضى. فهو لم يكن يريد أن يفصل بين الأشياء المستقرة التي نراها والطريقة التي يتم بواسطتها حرف هذه الأشياء، حرفا قويا، من حيث الكيفية التي تظهر بها أمامنا، لذلك أراد أن يصور المادة مثلما تظهر كشكل، ولادة  النظام من خلال التنظيم العفوي. فهو يقيم تمايزا أوليا ليس  بين “الأحاسيس” و”الفهم” لكن بالأحرى بين التنظيم العفوي للأشياء التي ندركها وبين التنظيم البشري للأفكار والعلوم. نحن نرى الأشياء؛ نحن نقبل بها؛ نحن متجذرون فيها؛ وهي مع “الطبيعة” تشكل الأرضية التي نبني عليها علومنا. أراد سيزان أن يرسم ذلك العالم الأصلي، لذلك تبدو لوحاته كأنها تُظهر الطبيعة بشكلها النقي، بينما تسعى الصور الفوتوغرافية لنفس المناظر أن توحي بعمل الإنسان ووسائل راحته وحضوره الوشيك. لم يرغب سيزان في الرسم بطريقة “البدائي”. بل هو أراد أن يجعل الذكاء، والأفكار والعلوم والمنظور والتقاليد على صلة، مرة أخرى، بعالم الطبيعة، عن طريق ضمها إلى داخله. فهو قد تمنى مثلما قال  أن يربط العلوم بالطبيعة التي هي “المكان الذي جاءت منه”.

ببقائه مخلصا لهذا الظاهرة عبر بحوثه حول المنظور، اكتشف سيزان ما توصل إليه علماء النفس في الفترة الأخيرة: المنظور الحي الذي نلاحظه حقا هو ليس منظورا هندسيا أو فوتوغرافيا. فالأشياء القريبة منا تبدو أصغر، وتلك البعيدة نراها أكبر مما تظهر عليه في الصورة الفوتوغرافية. (هذا يمكن  ملاحظته في السينما، فعندما يقترب قطار منا يظهر أكبر وأسرع مما هو عليه قطار يتحرك أمام أعيننا في نفس الظروف). فأن يقال أن الدائرة التي نشاهدها بشكل مائل تكون بيضوية هو للتعويض عن إدراكنا الحقيقي إذا كنا نرى الأشياء بنفس الطريقة التي تفعل الكاميرا: في الواقع  نحن نرى شكلايتذبذب حول جسم بيضوي بدون أن يكون هو نفسه جسما بيضويا. . ففي بورتريت “السيدة سيزان” لا يشكل  ورق الجدار الواقع إلى يمينها خطا مستقيما مع ذلك الجزء الواقع إلى يسارها، وهذا أمر معروف، إذ أنه لو مر خط تحت  قطعة واسعة من الورق فان جزئي الورق يبدوان كأنهما في غير موقعيهما الحقيقيين. وعلى ضوء ذلك تبدو طاولة غوستاف جيفري مسحوبة إلى قاع اللوحة، ونحن حينما تدور أعيننا حول سطح كبير فان الصور التي تستلمها بشكل متعاقب تكون  قادمة من نقاط رؤية مختلفة، وكل السطح  يبدو مشوها. صحيح أنني أجمّد هذه التشوهات عن طريق إعادة رسمها على سطح اللوحة؛ أنا أوقف الحركة التلقائية التي فيها تتراكم التشوهات فوق عيني المتلقي والتي فيها تؤول إلى المنظور الهندسي… إنها عبقرية سيزان التي تجعل من التشكيل الفني للوحة ككل يظهر للجميع، بدون أن تكون التحريفات المنظورية مرئية في حد ذاتها، بل بالأحرى تسهم  هذه التحريفات، مثلما في الرؤية الطبيعية، في طبع ظهور النظام الذي يحكم الجسم  المرئي أثناء  ظهوره وتنظيم نفسه أمام أعيننا. بنفس الطريقة، تكون تقاطيع الجسم المرئي المتخيَّل كخط يحيط بالجسم وينتمي لا إلى العالم المرئي بل إلى الهندسة. فإذا حدد المرء شكل تفاحة بخط مستمر، فانه في هذه الحالة يكون قد جعل الشيء يتلبس شكلا، بينما التقاطيع هي بالأحرى الخط الخيالي الذي نحوه تتراجع جوانب التفاحة إلى الخلف لتشكل عمق الجسم. ففي حال عدم التدليل على أي شكل نكون قد حرمنا الأشكال من هوياتها. ومتابعة خط حدودي واحد يؤدي إلى التضحية بالعمق- أي البعد الذي يعرض الشيء وفقه لا كجسم يتمدد أمامنا بل كواقع لا ينضب ومملوء بذخيرته. لهذا السبب اتبع سيزان أسلوب تضخيم الشيء بألوان متدرجة في طبقاتها وأظهر عدة خطوط حدودية باللون الأزرق. ومن هذه الخطوط يستطيع المرء أن يقبض على شكل يظهر من بين هذه الخطوط مثلما يحدث في حالة الإدراك الحسي. وليس هناك أقل اعتباطية من تلك التشويهات الشهيرة التي تخلى عنها سيزان في مرحلته الأخيرة بعد فترة 1890، حين كف عن ملء لوحاته بالألوان وتخلى عن البناء المنسوج بكثافة للأشكال الحية.

لذلك يجب أن يكون الخط الحدودي ناجما عن الألوان إذا كان يجب تمثيل العالم بكثافته الحقيقية، فالعالم هو كتلة بدون فجوات، نظام من الألوان عبره  يكون المنظور المتراجع والخطوط الحدودية والزوايا والمنحنيات منقوشة فوقه كأنها خطوط القوة؛ والتركيب الفراغي يبدأ بالتذبذب مع تشكيله. ” إذ ينتهي التمايز بين الخط الحدودي والألوان ، إلى الحد الذي يكون التلوين والخطوط واحدة؛ فكلما تناسقت الألوان أصبحت الخطوط الحدودية أكثر دقة… وعندما يصل اللون إلى قمة ثرائه يبلغ الشكل  قمة كماله”. لم يحاول سيزان استخدام اللون لخلق أحاسيس لمسية تمنح شكلا وعمقا. هذه الفروقات بين اللمس والنظر غير معروفة في الإدراك الحسي الأصلي. إنه فقط بفضل علم جسم الإنسان بدأنا في التمييز بين حواسنا. إذ لم يُعَد اكتشاف الجسم الحي أو رسمه على أساس خصائص الحواس؛ بل بالأحرى يقدم نفسه لنا منذ البدء كمركز منه تشع الخصائص.  نحن لا نرى نعومة الأجسام  وهشاشتها وصلابتها  وعمقها فقط؛ بل أن سيزان ادعى أننا نرى حتى رائحتها. فإذا كان الرسام يريد التعبير عن العالم، فإن ترتيب ألوانه يجب أن يحمل معه ذلك الكل غير القابل على الانقسام، وفي حالة عدم تحقق ذلك فان اللوحة ستلمّح فقط بالأشياء بدون أن تظهر وحدتها المهيبة، الوجود الذي هو الذروة التي لا يمكن تجاوزها، والتي بالنسبة لنا ما يعنيه الواقع. لذلك كان على كل ضربة فرشاة أن تحقق شروطا لا متناهية. كان سيزان يمضي ساعات من التفكير قبل أن يوجه ضربة فرشاة معينة، وحسب ما قاله برنارد، كل ضربة يجب أن “تحتوي على الهواء والضوء والشيء المرئي والتشكيل والشخصية والخط الحدودي والأسلوب”. فالتعبير عما هو موجود هو مهمة لا متناهية.

لم يهمل سيزان الصفات الباطنية المتجلية خارجيا للأشياء والوجوه، لكنه حاول أن يقبض على هذه الصفات وهي تبرز من اللون. فرسم وجه “كشيء مرئي” لا يعني إزالة ما يتضمنه من “أفكار”. قال سيزان: “أنا أدرك أن الرسام يؤولها. فالرسام ليس إنسانا بليدا”. لكن يجب الا يكون هذا التأويل انعكاسا مختلفا عن عملية الرسم نفسها.

“إذا رسمتُ كل تلك البقع الصغيرة الزرقاء والحمراء الغامقة، فاني سأقبض على نظرته وأنقلها. إذ ما أهمية أن يختلفوا معك على كيفية وضع الحزن على الفم أو خلق ابتسامة وقحة عن طريق جمع الأخضر المظلل باللون الأحمر”. فشخصية أي فرد يمكن القبض عليها من خلال نظرته، والتي هي في الأخير  ليست الا مزيجا من ألوان. هناك بعض العقول التي تقدم لنا كتجسيد وكانتماء لوجوه وإيماءات. فالمواجهة بين الروح والجسد، بين الفكرة والرؤيا غير موجودة هنا، إذ أن سيزان يعود إلى تلك التجربة الأصلية التي منها ظهرت هذه التصورات والتي فيها تكون هذه الثنائية غير منفصلة بعضها عن بعض. فالرسام الذي يضع الأشياء في مفاهيم ويسعى إلى التعبير عنها أولا تغيب عنه أسرار الشكل الخفية- التي تتجدد في كل مرة ننظر بها إلى شخص ما- لمظهر الشخص في الطبيعة. في رواية “جلد الحزن” يصف بلزاك “سماط طاولة أبيض كأنه طبقة خفيفة من ثلج سقط توا، وفوقه تتصاعد  الأشياء بشكل متناسق ومتوَّجة بثنيات بيضاء. قال سيزان: “خلال كل فترة شبابي حاولت أن أرسم ذلك السماط المكون من ثلج متساقط حديثا…الآن أنا أعرف أن على المرء الا يرسم سوى الأشياء فوق الطاولة وهي  تنمو بشكل متناسق مع الثنيات البيضاء. إذا تمكنت من رسم الثنيات فأنا أكون قد وصلت إلى هدفي. هل تدرك ذلك؟ لكنني إذا خلقت توازنا حقيقيا وظلَّلت أشيائي وثنياتي مثلما هي في الطبيعة فآنذاك ستكون التيجان  والثلج وكل العناصر الجميلة  هناك أيضا”.

نحن نعيش وسط الأشياء التي خلقها الإنسان، بين الأدوات، وفي البيوت والشوارع والمدن وفي أغلب الوقت نحن لا نراها إلا من خلال نشاط الإنسان التي يضعها للاستعمال. نحن نصبح معتادين أكثر على التفكير بأن كل ما هو موجود ضروري وغير قابل للتزعزع. لكن لوحة سيزان تعلق كل عادات التفكير هذه  لتكشف الأساس  غير البشري للطبيعة التي فرض الإنسان نفسه عليها. لذلك تبدو شخصيات سيزان غريبة كأنما يُنظر لها من جنس آخر. بل حتى الطبيعة نفسها  منزوعة عنها تلك الصفات التي تجعلها جاهزة  للمشاركة الروحية، فليس هناك ريح في المشهد الطبيعي، ولا حركة هناك في بحيرة آنيسي، وتلك الأشياء المجمدة تتردد في حركتها كأنها في بدء تكون العالم. إنه عالم غريب لا يشعر المرء فيه بالراحة وخال من تلك العاطفة المسرفة. فإذا نظر المرء إلى لوحات رسامين آخرين بعد مشاهدته بعض أعمال سيزان فإنه سيشعر بالاسترخاء مثل عودة الحوار بعد فترة حداد، حاجبا التحول المطلق الذي حدث بعد الوفاة ومعيدا للأحياء الصلابة التي فقدوها إلى حين. لكن ذلك لا يمكن أن يحققه إلا إنسان قادر على رؤية كهذه تخترق جذر الأشياء القائمة تحت سطح الوضع البشري المفروض. كل شيء يشير إلى أن الحيوانات غير قادرة على رؤية الأشياء، أو التغلغل تحت سطوحها سعيا للوصول إلى الحقيقة. وأفضل  تجسيد لهذه الرؤية تصريح اميل برنارد  بأن سيزان لا يرى  الفنان الواقعي الا قردا مقلدا،  لذلك فهو معاكس للحقيقة تماما، وبإمكان المرء أن يرى كيف أن سيزان كان قادرا على إعادة إحياء  التعريف الكلاسيكي للفن بأنه إنسان مضاف إلى الطبيعة.

و لا ينكر أسلوب سيزان الفني العلم أو التقاليد… يقول الفنان في هذا الصدد:”المشهد الطبيعي يتصور نفسه فيّ… وأنا وعيه”. ليس هناك أبعد عن الأسلوب الطبيعي من هذا العلم الحدسي. فالفن ليس تقليدا وليس هو شيء يمكن إنتاجه وفق أمنية ما أو وفق ذوق سليم. إنه سلسلة عمليات في التعبير. مثلما أن وظيفة الكلمات هي لتسمية الأشياء- أي للقبض على طبيعة ما تظهر لنا بطريقة مشوشة ثم يتم وضعها أمامنا  كشيء مرئي يمكن تمييزه- لذلك فهو يتوقف على الرسام، حسب رأي غاسكيت، في “موضعة” و “إسقاط” و “أسر” الكلمات التي لا تبدو شبيهة بالأشياء التي تسميها؛ وفي اللوحة فهي ليست نقلا فوتوغرافيا للأشياء. فسيزان حسب كلماته نفسها “كتب في الرسم ما لم يُرسم من قبل ، ليحوله إلى رسم مرة واحدة وإلى الأبد”. فبنسيان المظاهر الملتبسة واللزجة نحن نخترقها مباشرة للوصول إلى الأشياء التي تمثلها. الرسام يعيد مسك وتحويل ما سيظل لولاه مغلقا  داخل وعي كل إنسان، إلى أشياء مرئية: ذبذبة المظاهر التي هي مهد الأشياء. هناك عاطفة واحدة ممكنة لهذا الرسام – الشعور بالرغبة- وهناك غنائية واحدة- إنها الولادة المستمرة  للوجود.

اقرأ ايضاً