نعمة النسيان في رسالة الغفران
لم يكن السبب وراء دخول اللغوي ابن القارح إلى الفردوس إلا اعترافه بخطإ ارتكبه تجاه رجل أحسن إليه، إذ بعد أن دارت على الأخير الدوائر وتعرض لتنكيل الحاكم وفقدان ثروته، لم يردّ ابن القارح الفضل إليه بل وقف مع الحاكم ضدّ ذلك المحسن. ولذلك جاء فعل الاعتراف بعضّ اليد التي مدّت إليه كافيا ليُمنَح صكّ المغفرة الإلهية انطلاقا من الحديث القدسي: كتِبت على ربكم الرحمة.
في الفردوس، يمارس ابن القارح حرفته على أحسن وجه، فهو لا يكف عن التواصل مع كل الشعراء المحظوظين، باحثا عن أجوبة عما تركوه من أحاجيّ أثارت بين أجيال لاحقة من النحويين واللغويين خلافات واجتهادات متباينة.
لكن ابن القارح يفاجأ بأن كل أولئك الذين أعجب بهم في الدنيا قد نسوا تماما ما أنجزوه من أعمال أدبية خالدة. ففي لقائه بالشاعر المخضرم -الذي عاش فترتي الجاهلية والإسلام- الشماخ بن ضرار الذي اعتبر الأصمعي قصيدته التي مطلعها: “عفا من سليمى بطنُ قوٍّ فعالزُ/ فذاتُ الغضا فالمُشرفاتُ النواشِزُ” أجود ما نظم على الزاي في ديوان العرب أجمع، يطلب منه إنشادها فيجيبه الشماخ معتذرا بأنه لا يتذكر أي بيت منها، مبررا ذلك النسيان: “لقد شغلني عنهما النعيم الدائم، فما أذكر منهما بيتا واحدا”.
هذا الجواب يتكرر على ابن القارح بصيغ مختلفة في شتى أنحاء الجنة. فحين يعثر اللغوي السوري على شاعر مخضرم آخر يدعى تميم بن أبيّ، يسأله عما يعنيه بكلمة “المرانة”في بيته: يا دار سلمى خلاء لا أكلفها إلا المرانة حتى تسأم الدنيا، هل هو اسم امرأة أم ناقة، فيقول تميم: والله ما دخلت من باب الفردوس ومعي كلمة من الشعر ولا الرجز.
ستتكرر حالة النسيان بين كل ساكني الفردوس حسب كتاب “رسالة الغفران” سواء كانوا شعراء أم نحويين أم لغويين، ابتداء من مبدع نظام العروض الخليل بن احمد الفراهيدي وانتهاء بالشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة، والسبب يعود إلى ترف العيش والقدرة على إشباع كل الرغبات الحسية حال بروزها في أنفسهم وبأفضل شكل ممكن دون أن يبذلوا لتحقيقها أيّ جهد.
في المقابل، يجد ابن القارح حال أولئك الشعراء الكبار الذين لم يحظوا بالمغفرة الإلهية عكس نظرائهم الساكنين في جنائن الفردوس. إنهم هنا في الجحيم يتلظون بعذاب النار. وإذا كان دانتي قد صور الجحيم في “الكوميديا الإلهية” على شكل منخفض يمتد دوائر تحت دوائر كالحلزون وكل طبقة فيها نوع خاص من العذاب، فإن جحيم “رسالة الغفران” الذي سبق جحيم دانتي بثلاثة قرون قائم جنبا إلى جنب مع الفردوس ويفصل بينهما حاجز، وهذا ما ساعد ابن القارح على التحاور مع بعض ساكنيه البارزين من علٍ دون الحاجة إلى العبور إليهم. وما يثير الانتباه، أن أولئك الشعراء الذين حاورهم كانوا يملكون ذاكرة قوية عما أنجزوه من أعمال شعرية عرفت الخلود بعد موتهم لعدة أجيال.
ها نحن نسمع ابن القارح يسأل الشاعر الضليل، امرأ القيس عن صدر بيته: “كبكر المقاناة البياض بصُفرةٍ” كيف يجب إنشاد البياض؟؛ البياضِ، أم البياضَ أم البياضُ. فيجيبه امرؤ القيس: كل ذلك حسٌّ واختار البياضِ”.
كذلك، يعترض امرؤ القيس على الرواة البغداديين الذين كانوا ينشدون بعض أبيات معلقته “قفا نبك” بزيادة الواو في أولها مثل: “وكأن ذرى رأس المجيمر غدوةً” أو “وكأنَّ مكاكيَّ الجواء” فيقول لابن القارح: “أبعد الله أولئك لقد أساؤوا الرواية، وإذا فعلوا ذلك فأيّ فرق يقع بين النظم والنثر؟ وإنما ذلك فعله من لا غريزة له في معرفة وزن القريض، فظنه المتأخرون أصلا في المنظوم، وهيهات هيهات!”.
وكأن صفة التذكر الحادّ تجمع كل الشعراء التعساء الذين وجدهم ابن القارح في الجحيم. فها نحن نتابع حوارات العالم اللغوي مع عنترة ابن شداد وطرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم والحارث اليشكري، ومعهم ينجح في إدارة حوارات شيقة حتى حين تكون إجاباتهم الصمت، لأنهم كانوا يتذكرون بدقة ما أبدعوه من قصائد.
ما الذي أراد المعري قوله في كتابه الذي فتح الآفاق لأدب ما وراء الحياة للغرب؟ هل أن اختفاء الذاكرة شرط للسعادة أم أن السعادة المطلقة تؤول إلى اختفاء الذاكرة، وهل أن شرط العذاب الحقيقي هو الحفاظ على ذاكرة قوية؟
وما أعنيه بالذاكرة هو القدرة على استرجاع الماضي؟ نحن دائما بفضل الذاكرة ننقي الماضي البعيد ونحوله إلى فردوس، بينما نجد أن النعيم الحقيقي هو اللحظة المعيشة والقدرة على تحقيق الرغبة تحقيقا فوريا فيها، شرط أن تكون الذاكرة قد دثرت الماضي.