هل يمكن تحقيق “اسقاط النظام” بدون أي منهما؟
هل يمكن تحقيق “اسقاط النظام” بدون أي منهما؟ | |
لؤي عبد الإله | GMT 6:04 2011 الإثنين 3 أكتوبر |
إلى ميشيل كيلو حضرني هذا السؤال وأنا أقرأ كتاب نيلسون مانديلا (وربما الأخير): “حوارات مع نفسي” Conversationswith myself الصادر عام 2010. ولعل ما يميز هذا الكتاب عن سابقه: “مشي طويل نحو الحرية” a Long Walk to Freedom هو أن الأخير كتاب مذكرات رجل سياسي وصل للتو إلى الحكم بعد قضاء 28 سنة في السجن، في حين أن “حوارات مع نفسي” يسلط الضوء على مانديلا الانسان العادي وهو يواجه آلة التمييز العنصري الجهنمية داخل زنزانته. فالكثير من الرسائل التي كان يبعثها إلى زوجته وعائلته لم تكن تصل إليهم والكثير مما يأتي منهم لا يصله. لكن هذه الرسائل أعيدت إليه بعد خروجه من السجن واحتلاله موقع الرئاسة. ومن هذه المواد مع تلك التأملات الصغيرة المتناثرة عبر سنوات السجن مع الأشغال الشاقة تشكل هذا الكتاب لنعرف الجانب الآخر من هذا الرجل الذي نجح بتحقيق حلمه بفضل رؤيته البعيدة المدى للمستقبل وصلابته ومرونته في آن واحد.هذه الخصائص تجلت خلال جلسة دفاعه عن نفسه أمام المحكمة قبل صدور الحكم عليه بالسجن المؤبد عام 1961. كان نظام الفصل العنصري (الابارتيد) الذي أقرته الحكومة البيضاء في جنوب أفريقا قد مضى عليه 13، وخلال تلك الفترة تم ترسيخ قواعده الصارمة المتمثلة بتحديد السكان حسب أصولهم إلى أربع فئات: البيض والملونين والآسيويين والسود، وفي هذا التنظيم تحتل الاقلية البيضاء موقع القمة وتحصل على أفضل الخدمات والامتيازات. أما بقية السكان فهم يشاركون في الانتخابات ولهم ممثلوهم في البرلمان ولكن ليس على أساس مبدأ “مواطن واحد: صوت واحد”. وهذا هو الشعار الذي تبناه نيلسون مانديلا وجعله بوصلة تحدد اتجاهه.لم تكتف الأقلية البيضاء الحاكمة بفرض هذا النظام عبر خلق آلة تنفيذ ومراقبة جهنمية لمراقبة الفصل العنصري في كل نواحي الحياة اليومية، بل أنشأت عشر مناطق معزولة للسود تحكمها القوانين القبلية لكل منها، وأطلقت عليها اسم “البانتوستانات” Bantustans وسعت إلى نزع الجنسية عنهم بدفعهم للإقامة في هذه “المحميات”. فجَّر تطبيق قوانين الفصل العنصري، وما يحمله من امتيازات للأقلية البيضاء وامتهان عميق لأغلبية السكان بالتعامل معهم كأعراق دونية، الكثير من الانتفاضات والتظاهرات خلال الخمسينات من القرن الماضي، بالمقابل، منعت حكومة بريتوريا الإضرابات والتظاهرات وقابلت المشاركين فيها بالعنف الذي آل في العديد من الحالات إلى مجازر ضد المحتجين السود. أفضل من صوّر “كابوس” هذا النظام جي.أم. كويتزي في روايته الصغيرة التي كانت وراء حصوله على جائزة نوبل: “بانتظار البرابرة” In Waiting for Barbarians. وفيها نتلمس ذلك العالم المحكوم بأعتى قوانين العنصرية التي شهدتها البشرية، وكأنه خيالي تماما قادم من رواية كافكا “المحاكمة”. كأن الروائي المنتمي إلى الأقلية البيضاء، اكتشف كيف أن الخيالي الذي ابتكره كافكا يلتقي بالحقيقي على أرض بلده، بتحول الفصل العنصري إلى أسلوب منهجي يتبعه قطاع واسع من المجتمع لفرضه بشكل دقيق، وأي أسئلة تثار حول شرعيته تقابل باستغراب: قانون إلهي. في أواخر الخمسينات، قرر مانديلا مع عدد من رفاقه في “المؤتمر الوطني الأفريقي” اتباع العنف مقابل عنف سلطة الأقلية البيضاء المفرط، وتشكل الجناح المسلح لتنظيم “المؤتمر”. كان الشرط في نشاطات هذا الجناح هو تجنب إلحاق أي اذى بالناس والتركيز على ضرب المؤسسات الاقتصادية، تحذيرا للشركات الغربية المستثمرة في جنوب أفريقيا من الاستمرار في نشاطاتها التجارية هناك. في مرافعته أمام المحكمة العليا ببريتوريا، يوم 16 ديسمبر 1961، قال مانديلا مدافعا عن موقفه: “خلال كل سنوات حياتي، كرست نفسي لنضال شعب جنوب أفريقيا. ناضلت ضد الهيمنة البيضاء، وناضلت ضد الهيمنة السوداء. أنا بقيت أبشر بالمجتمع الديمقراطي والحر حيث يعيش الكل معا بانسجام ومساواة في الفرص. إنه نموذج مثالي آمل أن أعيش من أجله وتحقيقه. لكن اذا اقتضى الأمر، فانه نموذج أنا مستعد للموت من أجله”. حتى بعد اشتداد الحصار على نظام جنوب أفريقيا وتفككه من الداخل، ظل مانديلا في سجنه ملتزما بمبدأ: مواطن واحد، ناخب واحد. لكنه في الوقت نفسه ظل مبدأيا في موقفه. بعد إصابة بي. دبليو. بوثا رئيس جنوب أفريقيا الأسبق بجلطة دماغية، عام 1989 قرر بديله “فريدريك ويليام دو كليرك” إطلاق سراح مانديلا بدون شروط، ورفع الحظر عن المؤتمر الوطني الأفريقي. وجاء يوم11 فبراير 1990 حدثا بارزا ليس في تاريخ جنوب أفريقيا فحسب بل في تاريخ البشرية حين خرج مانديلا من السجن بعد قضائه 29 سنة فيه. وفي خطواته إلى الحرية كانت كاميرات العالم تنقلها مباشرة إلى سكان العالم قاطبة. كان بإمكان مانديلا رفض الدخول بـ “الحوار” أو “التفاوض” مع ممثلي أبشع نظام عرفته البشرية، وكان بإمكانه الدفع باتجاه “إسقاط النظام” وتفككه إلى دويلات صغيرة تحتلها المجموعات العرقية المختلفة، ناهيك عما سيفرزه هذا الوضع من غياب النظام، بعد انكفاء الاقلية البيضاء على نفسها، ودخولها في حروب لا متناهية مع الجماعات العرقية الأخرى. لكن ما كان يريده مانديلا هو دولة موحدة يرث الشعب فيها ما أنجز خلال أكثر من قرن من مؤسسات دولة سواء كانت أمنية أو إدارية أو اجتماعية. فبدلا من الانطلاق من الصفر وما تحمله البدايات من احتمالات فشل قبل التمكن من الاقلاع قرر مانديلا التفاوض. خلال تلك السنوات التي سبقت أول انتخابات حرة للجميع وقعت عدة مجازر أخرى على يد الشرطة ورجال الأمن وبعض المنظمات العنصرية البيضاء، وكادت الأمور تفلت تماما من يد المفاوضين، لكن مانديلا ظل ماسكا بتلك البوصلة التي ظلت تحدد مساره: مواطن واحد، ناخب واحد، مع تجنيب البلد خطر الانزلاق إلى التفكك والحروب الأهلية وفقدان هذا الارث الضخم القابل للإصلاح وإعادة التأهيل من مؤسسات أمنية وعسكرية وإدارية لصالح مشروع الدولة الواحدة القادمة التي تضم الجميع كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات أمام القانون. جاء اغتيال كريس هاني القيادي البارز في “المؤتمر الوطني الأفريقي” في أبريل 1993، هزة كبيرة هددت بانتهاء المفاوضات مع ممثلي سلطة الأقلية، وكان الكثير من الناشطين السود لصالح “إسقاط النظام” بالمواجهة، لكن مانديلا استغل هذا الحدث ليدفعه باتجاه الاستمرار في التفاوض على الرغم من حالة الضعف والتفكك التي كانت تعيشها السلطة. في خطابه للامة، قال مانديلا: “اليوم أنا أمد يدي لكل فرد في جنوب أفريقيا، سواء كان أسود أم أبيض، من أعماق كياني. رجل ابيض مملوء بالأحكام المسبقة والكراهية جاء من الخارج إلى بلدنا ليرتكب عملا فظيعا دفع الأمة بالكامل إلى حافة الكارثة. بالمقابل هناك امرأة بيضاء من اصل “افريكانر” خاطرت بحياتها كي نعرف الحقيقة وجلب القاتل إلى العدالة… الآن حان الوقت لأبناء جنوب أفريقيا ان يقفوا معا ضد أولئك الذين يريدون تدمير ما أعطى كريس هاني حياته من أجلها – الحرية لنا جميعا”. أظهرت نتائج أول انتخابات نيابية شاملة لكل الأعراق في جنوب أفريقيا تجري على اساس مبدأ “مواطن واحد، ناخب واحد” فوز “المؤتمر الوطني الأفريقي” بـ 62% من أصوات الناخبين، واحتلال زعيمه نيلسون مانديلا موقع الرئاسة يوم 10 مايو 1994 باعتباره أول رئيس أسود لدولة جنوب أفريقيا، في حين احتل دو كليرك منصب نائب الرئيس. كذلك جاء تشكيل “لجنة الحقيقة والمصالحة” عاملا أساسيا في إزالة جبل من المظالم والتجاوزات وتوفير الشروط لتجاوز ارث الماضي البغيض. فمن خلال جلسات علنية كان المتجاوِز والمتجاوَز عليه يلتقيان ليتمكنا من فتح صفحة جديدة في حياتهما. هذا العفو شمل حتى أولئك المتورطين بالمجازر. وأنا أقرأ هذا الكتاب الذي صدر قبل سنة واحدة: “حوارات مع نفسي” أتلمس عمق الجراح التي عاشها مانديلا شخصيا على يد سجانيه. فمن أعمال جسدية شاقة إلى رميه في زنزانة شديدة الضيق إلى منعه من حضور جنازة ابنه إلى أنواع الحرمان الاولية من تواصل مع زوجته وأطفاله. مع ذلك، لم تتشكل لديه أي رغبة بالانتقام من جلاديه. كأنه على قناعة قوية بأن ما يجعل الانسان شريرا هو النظام المتبع، وفي الوقت نفسه، فإن نظاما أخر أكثر انسانية قد يحفز نفس الشخص على الخير. أتطلع إلى صور مانديلا في السجن. في احداها أراه جالسا على مصطبة حجرية وهو يدرز بدأب في قميص. أتساءل كم كانت قوتا الأمل واليأس تتراوحان في نفسه خلال تلك اللحظة بالذات؟ شاهدت وأنا أقلب في كتاب “حوار مع نفسي” مقابلة تلفزيونية مع معارض سوري بارز. وفيها أشار إلى رؤيته الرافضة لأي “تفاوض” أو “حوار” مع السلطة: مواصلة المواجهة بانتظار وقوع انشقاقات ومواجهات داخل وحدات الجيش. أو بصيغة أخرى: حرب أهلية من مقياس كبير. وهذا من وجهة نظره سيؤول إلى سقوط النظام وبالتأكيد سقوط مؤسسات الدولة الأمنية والإدارية. إنه إسقاط من نوع آخر للحكم يختلف تماما عما اتبعه مانديلا. *روائي عراقي |