هوامش على الغزو الأميركي للعراق(2)
هوامش على الغزو الأميركي للعراق(2)
المنتِج تحت المجهر
ما أشبه اليوم بأمس.
لا يبدو تسويق فكرة الحرب مختلفا كثيرا عن تسويق أي سلعة جديدة أو عن تسويق هذا المرشح أو ذاك في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ويبقى التمويل لأي من هذه الحملات عاملا أساسيا (إن لم يكن حاسما تماما) في نجاحها.
بعد إلقاء الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش خطابه يوم 12 سبتمبر 2002 أمام مجلس الأمن الدولي طارحا لأول مرة همه أمام المجتمع الدولي بغزو العراق، علق أندرو كارد رئيس موظفي البيت الأبيض على تأخر بوش حتى ذلك الوقت ليبدأ بحملته الجديدة قائلا: “من وجهة النظر التسويقية أنت لا تعلن عن سلعتك الجديدة في شهر أغسطس”.
لقد أصبح واضحا منذ تسريب تلك القصة التي جرى تلفيقها في مكتب تشيني نائب الرئيس السابق، وبإشراف مدير مكتبه لويس لِبي، أهداف الحملة الإعلامية التي انطلقت بعد فترة قصيرة من وقوع هجمات 11 سبتمبر 2001:
تقول القصة إن محمد عطا العقل المدبر لتلك الهجمات قد التقى بأحد مسؤولي المخابرات العراقية في براغ، وقد تضمنت القصة تفاصيل عن هذا اللقاء مع خليل إبراهيم سمير العاني أحد الموظفين في سفارة العراق ببراغ، علما بأن مسؤولي وكالة الاستخبارات المركزية كانوا على علم بوجود عطا داخل الولايات المتحدة، خلال الفترة المقترحة لسفره إلى جمهورية التشيك.
قد يكون من المناسب التذكير بأن مفتشي أسلحة الدمار الشامل الدولية “يونيسكوم” سبق لهم أن كشفوا بعد حرب الخليج الثانية عن أن برنامج الأسلحة البيولوجية والكيمياوية بدأ في العراق منذ أوائل الثمانينات (خلال الحرب العراقية- الإيرانية) بمساعدة الولايات المتحدة وبريطانيا وهذا يعد بحد ذاته خرقا لاتفاقية الأسلحة الدولية “بي دبليو سي” الموقعة عام 1972.
(على الرغم من استخدام النظام العراقي السلاح الكيمياوي خلال الحرب مع إيران وفي أواخر الحرب ضد سكان مدينة حلبجة العراقية، لم تواجه تلك الحملات الإجرامية من قبل الإعلام الأميركي- البريطاني آنذاك إلا بقدر كبير من التعتيم.)
لذلك فإن كل ما تم تدميره من أجهزة لأسلحة الدمار الكيمياوية والبيولوجية معروفة جيدا لدى المسؤولين الاستخباراتيين في الولايات المتحدة وبريطانيا.
عند وصول جورج دبليو بوش إلى الحكم عام 2000 جلب معه أبرز الوجوه التي انضوت تحت تيار عرف خلال الثمانينات من القرن الماضي بتشدده تجاه الاتحاد السوفياتي وتجاه سياسة الانفراج الدولي التي اتبعها الرئيس الأسبق جيمي كارتر. وكان بعضهم ممن ساهم في وضع السياسة التي أدت إلى السماح لليهود الروس بالهجرة إلى إسرائيل. وخلال التسعينات أصبح همّ هذه المجموعة متوجها صوب الشرق الأوسط، وأصبحت تعرف نفسها بـ “المحافظين الجدد”. ويعد ريتشارد بيرل وبول ولفيتس من أبرز المنظّرين في هذه الحركة. توصل عالم اجتماع في بحث أجراه عن تيار المحافظين الجدد إلى أن هناك أكثر من 14 منظمة تابعة لهم “وانشطتها تدار من أفراد قلائل، وتضم هذه الكيانات شبكة من العلاقات المتشابكة للأعضاء”. من بين هذه المنظمات هناك “معهد أميركان انتربرايس”، و”مشروع القرن الأميركي الجديد” و “لجنة السلام والأمن في الخليج” و”لجنة تحرير العراق” و”لجنة الولايات المتحدة لتحرير لبنان”. وكل هذه التشكيلات تعمل لدعم نظام من القناعات التي يؤمن بها المحافظون الجدد. وبما يخص الشرق الأوسط فإن الأهداف الأساسية تشمل فرض الديمقراطية على بلدانه سواء بالقوة أو بالدعم المالي وإضعاف القدرات العسكرية للدول التي قد تكون عنصر تهديد لأمن إسرائيل، مع دعم قوي للولايات المتحدة لحزب الليكود. وعند وصول نتنياهو إلى الحكم اشترك ريتشارد بيرل وبول وولفويتز ومحافظون جدد آخرون بكتابة دليل استشاري له تضمن نصحه بالتخلي عن اتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين.
كذلك بادر ريتشارد بيرل عام 1998 بصياغة بيان وقع عليه المحافظون الجدد وصقور أخرى مثل ديك تشيني ورامسفيلد طالبوا فيه الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون بالعمل العسكري للإطاحة بنظام صدام حسين. وتحت هذا الضغط أصدر كلينتون قانون تحرير العراق مع تقديم دعم مالي قدرة 98 مليون دولار للمؤتمر الوطني العراقي المعارض.
عدا عن ذلك، لم يسع كلينتون العمل خارج إطار الأمم المتحدة. وقد وافق مع الدول العظمى الأخرى في مجلس الأمن على إصدار قرار مخفف يجري فيه تفتيش منتظم لأسلحة الدمار الشامل في العراق مع ضمان سيادته وينتهي برفع العقوبات عنه لكن صدام حسين وكعادته في تضييع الفرص رفض التوقيع عليه. وحال وصول بوش الابن إلى الحكم واتضاح نوايا الإدارة الأميركية تجاه نظامه سارع بالإعلان عن استعداده للتوقيع على مشروع الأمم المتحدة. لكن ذلك بعد فوات الأوان.
المحافظون الجدد داخل البيت الأبيض
مع وصول جورج دبليو بوش إلى الحكم في بداية عام 2001 بفارق أصوات ضئيل على حساب المرشح الأميركي آل غور، اتضح للمراقبين السياسيين أن وجوها قديمة تنتمي إلى زمن الحرب الباردة (أثناء عهد ريغان) قد عادت لتلعب دورا مصيريا في سياسة الولايات المتحدة، فها نحن نشاهد ريتشارد بيرل وبول وولفويتز ودوغلاس فيث واليوت أدامز ولويس لِبي ودونالد رامسفيلد يدخلون إلى الإدارة الأميركية، سواء من الباب الرئيسي أو الباب الجانبي. فبيرل ووولفويتز لعبا دورا أساسيا في صياغة استراتيجية الدرع الصاروخي خلال فترة حكم ريغان والتي عرفت بـ “حرب النجوم”، وكلاهما من أشد العتاة في مجال نصرة إسرائيل وإضعاف خصومها. وإذا كانت وجوه مثل الرئيس بوش ونائبه تشيني ووزير دفاعه رامسفيلد قد بدت هي المحرك الحقيقي للسياسة الأميركية خلال الفترة الرئاسية الأولى بين عامي 2001 و2004 فإن العقل الخفي المدبر وراءها هو فريق المحافظين الجدد المصغر الذي دخل إلى البيت الأبيض والبنتاغون وتمكن من تأسيس شبكة صارمة تتحكم في صياغة الرأي العام الأميركي لتخدم أهدافا اتضح لاحقا أنها قد أضرت بالمصالح الأميركية الأساسية حسب تعليق الكثير من المحللين السياسيين. طبعا جاء هذا الاكتشاف متأخرا، بل وحتى حين حاول الرئيس بوش أن يغير من مسار إدارته قليلا بإقصاء معظم هذا الفريق عن إدارته بعد فوزه بفترة رئاسية ثانية، والبدء بالإصغاء للاصوات المعتدلة في الحزب الجمهوري، كان ذلك متأخرا جدا، فالخراب الذي ألحقه فريق المحافظين الجدد بمكانة الولايات المتحدة عالميا والخسائر المادية والبشرية في العراق جعلت أي إصلاح شديد الصعوبة إن لم يكن مستحيلا.
ولعل من المناسب تسليط الضوء على هذه الشخصيات التي ما زالت تدير الكثير من خيوط اللعبة في العالم وما زالت بلدان مثل العراق وأفغانستان تعاني من نتائج سياستها الاستئصالية:
ريتشارد بيرل:
ولد بيرل لأسرة يهودية في نيويورك وخلال طفولته انتقلت أسرته إلى كاليفورنيا. حصل بيرل على شهادة في السياسة الدولية عام 1964 من جامعة كاليفورنيا الجنوبية. ثم حصل على الماجستير من كلية لندن للاقتصاد وماجستير في العلوم السياسية من جامعة برينستون عام 1967.
وقد بدأ بيرل عمله السياسي مساعدا للسيناتور سكوب جاكسون. وفي عام 1970 أجرت وزارة العدل تحقيقا معه بعد تسجيل مكتب التحقيقات الفيدرالي حديثا لبيرل مع موظف من السفارة الإسرائيلية في واشنطن يناقش فيها معلومات سرية حساسة. وفي عام 1983 تعرض لانتقادات حادة خلال عمله في البنتاغون أثناء عهد ريغان بسبب حصوله على مبالغ كبيرة لتمثيله مصالح شركة أسلحة إسرائيلية.
وبعد وصول بوش الى الحكم رشحه لويس لِبي رئيس موظفي نائب الرئيس تشيني ليحتل منصب رئيس اللجنة الاستشارية للسياسة الدفاعية. وقد لعب دورا بارزا في تطوير استراتيجية “الحرب على الإرهاب” وتسويق فكرة غزو العراق.
كذلك، فإن بيرل ظل يشكك بكفاءة الأوساط الاستخباراتية الأميركية، وهذا ما جعله ( بعد هجمات 11 سبتمبر) بالتعاون مع المحافظين الجدد الذين تمركزوا في البنتاغون يبادر بتأسيس مكتبين سريين: “مكتب المخططات الخاصة” و”مجموعة تقييم مكافحة الإرهاب”. وعمل بيرل على ملء هذين المكتبين بعناصر من المحافظين الجدد عملهم هو صياغة سياسات خاصة، مع إعداد تقارير استخباراتية مفبركة عن طريق تفادي التعامل مع المؤسسات الاستخباراتية الرسمية. وبرر بيرل فتح هذين المكتبين قائلا إن من الضروري “جلب أشخاص يستطيعون النظر بعيون مفتوحة إلى المعلومات الاستخباراتية التي جمعتها السي آي أيه والوكالات الأخرى”. ولعله ليس غريبا أن أطلق عليه خلال الثمانينات من القرن الماضي اسم “أمير الظلام” وصدر كتاب عنه يحمل نفس هذا العنوان.
بول وولفويتز:
الطفل الثاني لعائلة يهودية بولندية مهاجرة. ولد بول عام 1943 في بروكلين بنيويورك. وكان والده جاكوب استاذا في نظرية الاقتصاد ومن أشد المغالين في صهيونيتهم وعضوا فعالا في أَيباك ومن أشد أنصار إسرائيل، وقد ناضل كثيرا للسماح لليهود الروس بالذهاب إلى إسرائيل. وكان ابنه بول متأثرا كثيرا بأبيه.
وعلى الرغم من حصوله على شهادة في الرياضيات قرر وولفويتز التفرغ إلى دراسة العلوم السياسية. وخلال فترة حكم ريغان عمل تحت إدارة وزير الدفاع آنذاك دونالد رامسفيلد. لكنه استقال لثلاثة أسباب: دعم الادارة الأميركية للعراق آنذاك في حربه ضد إيران، اعترافها بمنظمة التحرير الفلسطينية والموافقة على بيع طائرات اواكس للسعودية.
في فبراير 1998 قدم وولفويتز شهادة أمام الكونغرس انتقد فيها إدارة كلينتون لفقدانها الدافع لـ “تحرير أنفسنا واصدقائنا وحلفائنا في المنطقة والشعب العراقي نفسه من تهديد صدام حسين”.
وعمل وولفويتز خلال الحملة الانتخابية الرئاسية عام 2000 مستشارا للسياسة الخارجية لجورج دبليو بوش، ضمن فريق تقوده كوندوليزا رايس. وقد أطلق أعضاؤه على أنفسهم اسم “الفولكانز” (الفولكان هو إله النار والمعادن لدى الرومان). وفي نفس العام، كتب تقريرا بـ 90 صفحة بعنوان “إعادة بناء دفاعات أميركا: استراتيجيات ومصادر لقرن جديد”، وفيه اقترح إعادة توزيع القوات الأميركية ووضعها في قواعد ثابتة في مواضع استراتيجية في شتى أنحاء العالم حيث تكون جاهزة دائما للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة.
احتل وولفويتز في الفترة الرئاسية الأولى لبوش منصب نائب وزير الدفاع. وفي أول اجتماع لمجلس الأمن القومي بعد هجمات 11 سبتمبر سأل رامسفيلد: “لماذا لا نهاجم العراق إضافة إلى القاعدة؟” فأجابه وولفويتز بأن في العراق “نظاما قمعيا سهل الانكسار- إنه أمر ممكن”.
بعد فوز بوش بالفترة الرئاسية الثانية‘ أقصى بول وولفويتز وكافأه معا، حيث ساعده على احتلال منصب رئيس البنك الدولي، لكنه بعد سنتين اضطر إلى الاستقالة بسبب المساءلات المتكررة عن تعيين صديقته بطريقة غير شرعية في المؤسسة الدولية.
دوغلاس فيث:
ولد فيث في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا لأسرة يهودية، وكان والده دالاك عضوا في منظمة بيتار الصهيونية ببولندا، واحد الناجين القلائل في عائلته من الهولوكست إذ فقد والداه وأخوته السبعة فيها.
عمل بعد تخرجه من جامعة هارفارد (حيث درس العلوم السياسية) في مجلس الأمن القومي عام 1981، للمساعدة في تطوير مشروع يهدف إلى تحرير شعوب أوروبا الشرقية. لكنه فقد وظيفته بعد الشكوك التي أثارها مكتب التحقيقات الفيدرالي حوله عن تسليمه معلومات استخباراتية سرية لموظف يعمل في السفارة الإسرائيلية بواشنطن.
مع ذلك فإن ريتشارد بيرل الذي كان يعمل آنذاك سكرتيرا لوزير الدفاع كاسبار واينبرغر تمكن من نقله من مجلس الأمن القومي إلى البنتاغون. وقد منحه الوزير واينبرغر عام 1986 ميدالية الخدمة العامة المتميزة التي تعد أعلى جائزة تمنح لموظف مدني على خدماته.
بعد وصول بوش الابن إلى الحكم، عين دوغلاس فيث مساعدا لوزير الدفاع رامسفيلد، وبذلك احتل الموقع الثالث في البنتاغون.
ولعب فيث دورا كبيرا في تهيئة المناخ المناسب للحرب. فبواسطة “مكتب التأثير الاستراتيجي” الذي أسسه للمساعدة في “الحرب ضد الإرهاب” تمكن فيث ومساعدوه من التأثير على صانعي القرار بتزويدهم بقصص منحازة وذلك عبر إيصالها إلى الإعلام الاجنبي.
كذلك فإنه كان يشرف على دائرة أسسها ريتشارد بيرل اطلق عليها “مكتب المخططات الخاصة” وتضم عددا من المحللين الاستخباراتيين، وعملها تزويد المسؤولين الكبار بمعلومات استخباراتية “خام ” لم تتحقق من صحتها الأوساط الاستخباراتية الرسمية بعد.
في فبراير 2007، أصدر مفتش البنتاغون العام تقريرا وصف مكتب فيث بأنه “قام بتطوير وإنتاج معلومات استخباراتية ثم إيصالها لصانعي القرار تؤكد على وجود علاقة بين العراق والقاعدة، وهذه المعلومات تتضمن استنتاجات تتعارض مع الإجماع السائد لدى الأوساط الاستخباراتية”. ووصف التقرير هذه الأعمال بأنها “غير لائقة” لكن لا يمكن القول إنها “غير شرعية”.
وعبّر السيناتور كارل لفين رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ عن غضبه الشديد بعد قراءته للتقرير حيث قال إن جوهره يكمن في فبركة “علاقة بين العراق والقاعدة على يد مسؤولين كبار في وزارة الدفاع لدعم قرار الإدارة الأميركية بغزو العراق. إن تقرير المفتش العام هو إدانة صارخة للنشاطات غير اللائقة في وزارة الدفاع لجر هذا البلد للحرب”.
كذلك عمل فيث عضوا في مجلس إدارة المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي، وهو مؤسسة دراسات استراتيجية تهدف إلى تعزيز التحالف العسكري والاستراتيجي ما بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وهو أحد المؤسسين لمنظمة “قدس واحدة” ONE JERUSALEM هدفها معارضة اتفاقية أوسلو. كذلك، فهو مدير “المؤسسة الوقفية للدراسات اليهودية” ونشاطها يتحدد بالسعي “إلى تقديم برامج دراسية معمقة للراشدين من الجالية اليهودية في واشنطن”.
إليوت أبرامز:
ولد أبرامز لأسرة يهودية في نيويورك وتخصص في مجال المحاماة مثل والده حيث عمل محاميا خلال السبعينات، ولم يبرز اسمه إلا بعد دخوله في خدمة إدارة ريغان حيث عين في أوائل الثمانينات من القرن الماضي مساعدا لوزير الخارجية لحقوق الانسان والقضايا الانسانية. وخلال تلك الفترة من عمله ظل أبرامز يتصادم مع المنظمات الكنسية ومنظمات حقوق الانسان مثل “هيومان رايتس ووتش” و”العفو الدولية” حول سياسات إدارة ريغان الخارجية. بالمقابل اتهمته هذه المنظمات بالتستر على الفظائع التي قامت بها الحكومات العسكرية المدعومة من الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية مثل السلفادور والهندوراس وغواتيمالا.
كذلك كان أبرامز أحد المسؤولين الثلاثة المتورطين في فضيحة “إيران غيت” خلال آخر سنوات ريغان، أما الآخران فهما نورث أوليفر وبول وولفويتز.
خلال الفترة الرئاسية الأولى لبوش الابن عمل أبرامز ضمن مجلس الأمن القومي حيث احتل منصب المساعد الخاص للرئيس لشؤون شمال أفريقيا والشرق الأدنى. وفي الفترة الرئاسية رقِّي ليصبح نائب مستشار الأمن القومي لاستراتيجية الديمقراطية العالمية، وليكون مسؤولا عن تعزيز استراتيجية بوش في نشر الديمقراطية في الخارج. وأثار تعيينه جدلا في واشنطن خصوصا وأنه سبق أن وجهت له تهمتان عام 1991 بإخفاء معلومات عن الكونغرس خلال التحقيق في قضية “إيران غيت”.
شارك أبرامز في إدارة عدد كبير من المنظمات المنضوية تحت خيمة المحافظين الجدد من بينها “لجنة المصالح الأميركية في الشرق الأوسط”، “الجمعية الأميركية اليهودية”، “منتدى الشرق الأوسط”، حيث كان أحد الموقعين على تقرير عام 2000 الذي حث على القيام بعمل عسكري ضد سوريا.
لويس لِبي:
ولد لِبي عام 1950 لأسرة يهودية غنية تسكن بمدينة نيوهيفن في ولاية كونيكتيكت. وهو أول شخص في عائلته يحصل على شهادة جامعية. وكان واحدا من المحافظين الجدد الذين وقعوا على بيان يطالب الرئيس الأسبق بيل كلينتون فيه بالتدخل العسكري لإسقاط صدام حسين عن الحكم.
احتل لِبي بين عامي 2001 و2005 منصب مستشار نائب الرئيس السابق ديك تشيني ورئيس موظفي مكتبه ومساعده للشؤون الأمن القومي ومساعدا للرئيس.
وهذا يشهد على ما يتمتع به من كفاءة وذكاء، جنبا إلى جنب، مع توفر فرصة العمل أمامه داخل المؤسسة الحاكمة الأميركية بفضل دعم استاذه السابق لمادة العلوم السياسية في جامعة يال، بول وولفويتز. إذ جلبه الأخير للعمل ضمن فريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية عام 1981. وقبل ذلك كان لِبي يعمل محاميا. وقد سبق له خلال دراسته الأكاديمية أن تابع دورة دراسية في “الكتابة الإبداعية”، ساعدته على إنجاز روايته الوحيدة: “المتدرب”.
لكن هذه القدرة على الابتكار لن تذهب سدى. فخلال سنوات عمله (التي انتهت بصدور حكم ضده بالسجن ثلاثين شهرا وغرامة قدرها ربع مليون دولار وإداء 400 ساعة خدمة يدوية بعد إدانته بأربع تهم تتضمن التزوير وتضليل العدالة،) لعب لِبي دورا حاسما في صنع المناخ الشعبي المؤيد للحرب. فقبل بدء الغزو بفترة قصيرة أشار استطلاع للرأي أن ما يقرب من 65% من المشاركين فيه يؤمنون بأن لصدام علاقة بالقاعدة وان 85% يؤمنون بامتلاكه أسلحة للدمار الشامل.
وكان للويس لِبي دور أساسي في هذا الانجاز، إذ ظل المحور الرابط بين مكتب نائب الرئيس تشيني ومكاتب البنتاغون الجديدة التي أنشأها دوغلاس غيث وريتشارد بيرل، والتي كانت تعمل ليل نهار لملء الهواء بالمعلومات المفبركة، فحال انكشاف كذب قصة ما يبادر هذا الفريق بفبركة كذبة أخرى.
وبالتأكيد فإن اقتناع المتلقي بعدم صدقية خبر ما لا يعني إزالة تأثيره من نفسه. فعلى سبيل المثال، حال افتضاح كذب الوثائق التي تدلل على قيام العراق بشراء كعكة اليورانيوم الخام من النيجر، بادر لِبي بفبركة كذبة جديدة. إذ من خلال علاقته الخاصة بالصحفية جودي ميللر من نيويورك تايمز نظمت الأخيرة سلسلة مقابلات مع سعيد الحيدري، المنشق العراقي المنتمي إلى المؤتمر الوطني العراقي،وفيها زعم أنه عمل في مواقع عديدة خاصة بأسلحة الدمار الشامل واعطى تفاصيل كثيرة نشرت في الجريدة واسعة الانتشار. وقد اثنى البيت الأبيض على الحيدري على الرغم من أن جهاز الكذب لدى الـ “سي آي أيه” قد أكد خطأ كل معلوماته.
كذلك، فإن لِبي لعب دورا أساسيا في صياغة خطاب وزير الخارجية الأسبق كولن باول أمام مجلس الأمن الدولي.
فتأكيده على وجود علاقة تجمع النظام العراقي بالقاعدة استندت إلى اعترافات انتزعت من “الشيخ الليبي” تحت التعذيب وحسب تقارير الـ “سي آي أيه” فإن المعلومات التي اعترف بها الأخير عن وجود معسكرات للقاعدة في العراق خالية من الصحة، وهو من جانبه تراجع عن اعترافاته لاحقا.
كذلك هو الحال مع إنتاج الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية وعرضه لنموذج أنبوب يحمل فيروسات الجمرة الخبيثة، وعرض فيلم منتَج بواسطة الكومبيوتر عن مختبر كيمياوي متحرك، يستتد إلى معلومات ادلى بها رافد علوان الجنابي في ألمانيا بعد هروبه من العراق عام 1999 لابتزازه قدرا من المال العام. وهناك زعم أنه كان يعمل في مختبرات لإنتاج الأسلحة الجرثومية. لكن الاستخبارات الألمانية لم تصدق أكاذيبه وأكدت لنظيرتها الأميركية أن ما صدر من معلومات عن السيد الجنابي محض اختلاق. مع ذلك فإن هذه المعلومات جرى إقحامها في خطاب كولن باول.
اعترف رافد علوان الجنابي في فبراير 2011 في مقابلة معه أنه تفاجأ حين شاهد ما أعطاه من قصص مختلقة تظهر على الشاشة ضمن خطاب باول، فكل ما قام به هو من أجل الحصول على اللجوء في ألمانيا.
أما كولن باول فاعتبر خطابه لطخة في سجله. ففي مقابلة أجرتها معه بربارة والترز عام 2005 لمحطة أيه بي سي قال: “أنا من ألقى الخطاب على العالم وهو سيكون دائما جزءا من سجلي”.
ضربة معلم:
تكشف هذه المعلومات التي لا تعد سوى غيض من فيض (والمتوافرة على مواقع الانترنت وفي الصحف التي يمكن الحصول عليها اليوم بشكل رقمي)عن الكيفية التي تطورت فيها وسائل الإعلام، وكيف أصبحت قادرة عبر الامكانيات الهائلة التي تقدمها المؤثرات الخاصة من صوتية وبصرية لصياغة حقيقة افتراضية أخرى قابلة للتبديل في كل لحظة.
لكن الخدعة الكبرى جاءت قبل أيام قليلة على تصويت مجلس الشيوخ لصالح قانون يسمح باستخدام القوة العسكرية ضد العراق. ففي شهر اكتوبر 2002 تم جمع ما يقرب من 75 سيناتورا في جلسة مقفلة وعرض عليهم بالأدلة “القاطعة” امتلاك العراق أسلحة كيمياوية وبيولوجية، وإنه يخطط لإطلاقها بواسطة طائرات بلا طيار يتم شحنها في سفن وترسل إلى نقاط قريبة من الساحل الأطلسي فتندفع هذه الطائرات صوب المناطق الشرقية للولايات المتحدة.
مع ذلك، فإن تكذيب القوة الجوية الأميركية المباشر لامتلاك العراق أي قدرات هجومية بطائرات من دون طيار، لم يصل إلى أسماع أعضاء مجلس الشيوخ إلا بعد فوات الأوان.
في رواية “1984” لجورج أورويل يمد المحقق العام يده أمام ضحيته بعد إمراره بتجارب رعب تجعله مستعدا لتقبل أي “حقائق” يضعها أمام عينيه، وحينما يفتح يده أمام سجينه قائلا له إن لي ست أصابع، لا يجد الأخير صعوبة في رؤية الأصابع الست كأنها حقيقة بصرية واقعة.
لكننا نتكلم اليوم عن عنف من نوع آخر، أدى إلى ما نراه اليوم قائما في العراق بعد ما يقرب من 9 سنوات على غزوه، بعد تفكك مؤسساته ومكوناته الاجتماعية، وتحوله بجدارة إلى بلد فاشل، لا يمر يوم عليه إلا وتحصد أدوات القتل فيه عشرات الأرواح من أبنائه، ولا يبعث حاضره عن أي بارقة أمل بالمستقبل.
_______
*روائي عراقي مقيم في لندن