4 كتب و3 مدن في كتاب عراقي واحد

2٬287

حكاية إجمالية من الحب والخيانة والموت وبغداد الحلم
أمير طاهري

هناك مثل قديم يقول إن هناك ثلاث مدن في حياة الرجل أو المرأة: المدينة التي ولد فيها، والمدينة التي يقيم فيها، والمدينة التي يحلم بها. تلك الثلاثية من الوجود الحقيقي والحلم تعني أننا كلنا منفيون ونُنقل من مدينة لأخرى في الوقت الذي نحلم بالثالثة.

وفي بادئ الأمر، لم يكن للإنسان سوى مسكن واحد هو الجنة التي في السماء حيث الكمال في كل شيء، لكن فقد الإنسان البراءة وأخطأ، ولذا طرد من الجنة لتصبح الأرض منفاه في حياته القصيرة الفانية.

وباستخدام فكرة الهبوط والمنفى، يصور لؤي عبد الإله، وهو كاتب عراقي اشتهر بقصصه القصيرة الجميلة التي تتسم بإيقاع سريع، حياة العديد من العراقيين الذين بلغوا مرحلة الشباب في الخمسينات من القرن الماضي والذين شهدوا تلك الدولة المنكوبة تسقط في دوامة من الأحداث المأساوية، كل مصيبة فيها هي أكبر من أختها.

وبالنسبة لتلك الشخصيات، فلو بدأنا بـ«عبدل»، وهو وغد وقديس في آن واحد، نجد أن مدينة الإقامة له هي لندن، أما مدينة الحلم فهي بغداد، وهذا عكس قصة الهبوط حيث سقط الإنسان من الكمال إلى النقصان. وهنا يعيش «عبدل» في لندن، صورة الجنة بالنسبة إلى الملايين ممن يبحثون عن رغد الحياة من مختلف أصقاع العالم، لكنه يشتاق إلى بغداد، التي تشبه الجحيم على الأرض، ويحكمها طاغية وراء آخر.

في بادئ الأمر يقرر «عبدل» بصورة ما الإبحار إلى ما هو وراء الخير والشر. وبسبب ولعه بالسرقة وهو طفل غيَّر والده اسمه من عبد الوهاب إلى عبد النهاب. ولكن، في النهاية تنجح والدته في التفاوض مع الوالد الغاضب والوصول لحل وسط، وهو أن يطلقوا على الولد اسم «عبدل». وبهذا الاسم المختصر تمكن «عبدل» من الهجرة إلى لندن، تلك الجنة من الناحية المادية، لكنها جحيم بالنسبة لشخص يحن باستمرار إلى بغداد.

وتمتزج قصة «عبدل» بعد ذلك في قصص شخصيات أخرى، وفي الواقع فإن أمامنا أربعة كتب وليس كتابًا واحدًا. إحدى تلك الشخصيات جاءت محاكاة لقصة ابن عربي الشهيرة «الفتوحات المكية» والتي تناول فيها «ممكنات الوجود»، وهي قصة رمزية يعرض من خلالها الفيلسوف الأندلسي مقارنة بين الأسماء الحسنى. ثم بعد ذلك تأتي قصص «عبدل» وشهرزاد وبيداء وحياة وعبد الرؤوف وصالح وكلهم منفيون، كل حسب طريقته. ويتكون الكتاب الثالث من رواية غامضة يكتبها صالح، لكنه لا يتمكن أبدا من إتمامها.

وأخيرًا، تكون لدينا حكاية إجمالية تجمع كل تلك الخيوط لتصنع مزيجاً من الحب والخيانة والجنس والموت في قالب ثري من الشخصيات. وتلك الشخصيات هي التي تبدلت حياتها بصورة درامية، أو أن حياتهم قد اُختصرت، إما لأنهم تحركوا في وقت مبكر للغاية أو بعد فوات الأوان نحو اتخاذ الخطوة الوحيدة التي بمقدورها إنقاذ حياتهم.

ويبدو أن عبد الإله يؤمن بأن هذا هو مصير جميع العراقيين بداية من الملك الشاب فيصل الذي لا تزال حادثة قتله الوحشية ماثلة في الأذهان حتى اليوم.

كان الملك الشاب يحزم حقيبته مستعدًا للسفر إلى لندن للقاء مخطوبته فضيلة، غير أنه تأخر في بغداد لعدة أيام ليوقع على قانون أقره البرلمان العراقي. كان ذلك في يوليو (تموز) 1958. ولم تعن تلك الأيام القلائل سوى أن فيصل لم يتمكن من مغادرة بغداد أبدًا.

وبعد ذلك، نجد صالح الذي يصل متأخراً قليلاً بعد أن قامت عناصر الاستخبارات السرية باقتحام منزله واختطاف عروسه، لكنه يتمكن من الفرار بحياته، إلا أن الحياة التي تمكن الفرار بها كانت أشبه بليمونة عُصرت حتى آخر قطرة فيها.

وبالنسبة للشخصيات في تلك القصة فإن العراق، أو بالأحرى الفكرة التجريدية للعراق المثالي، هي ما يجعلهم يبقون أحياء في الوقت الذي يسقطون فيه صرعى واقع العراق سواء ماديا أم روحانيا.

لقد خرجوا جميعًا من العراق، ومع ذلك لا يستطع شيء أن ينتزع العراق من داخلهم، فكونهم عراقيين نعمة ونقمة في آن واحد، إذ يضفي ذلك على حياتهم معنى الجمال الشديد الذي لا يمكن لأي شخص من دولة أخرى بها قصص أقل مأساوية، أن يدركوا قيمته. وكونهم مولودين في العراق يرتقي إلى القول بأنهم مولودون ومعهم حكم بالإعدام، على الأقل بالنسبة لذلك الجيل، وهو حكم وإن لم ينفذ في حينه يظل يحوم حول رؤوسهم كسحابة كثيفة من الهواجس.

وتبدو جميع الشخصيات التي تضمنتها رواية عبد الإله كبضائع تالفة، مثلها مثل الكثير من العراقيين الذين كانوا تحت حكم سلسلة من الحكام الديكتاتوريين حكموا العراق وعاثوا فيه فسادا. فالكثير منهم تم الزج بهم في سجون النظام البعثي المرعبة، كما تعرض البعض منهم للتعذيب والاغتصاب.

فكونك عراقيًا يعني الإحساس بالأشياء وأدائها بدرجة أشد من الآخرين، أي أن تكره بشدة، وتحب بجنون، وتحتال وتخادع من دون أدنى وازع للضمير، وأن تمارس الجنس بعنف، وتضحي بنفسك كلية، وتخون بصورة أكثر وقاحة. ولا تتوافر أمام العراقيين السلام والاستقرار القادرين على إيجاد مجتمع راق كسويسرا.

وبفضل استخدام أسلوب «تيار الوعي» في السرد القصصي، تم نسج القصة من قصاصات من تاريخ الشرق الأوسط؛ خاصة من تاريخ العراق. وفي القصة نرى قريب صلاح الدين – المحارب الكردي الذي أصبح غالبًا البطل الأسطوري لكل العرب، يحاصر دمشق، في الوقت الذي نجد القدس، التي تحررت قبل جيل، تتم تسليمها مرة أخرى للصليبيين. ثم نرى بعد ذلك غرترود بل ـ المغامرة والمستشرقة البريطانية، التي تم تلقيبها «بأم العراق». ومن خلال الرواية يمكننا أن نرى وجهين لبغداد، أولهما: ذلك الوجه التقليدي وهو ذلك الذي يغط في سبات عميق بصورة تذكرنا بآثار تناول المخدرات، أما الوجه الحديث فهو ذلك المبتلى بسادية مازوشية. ونرى إحدى لحظات الجنون عندما اختطف ناظم كزار ـ رئيس الأمن البعثي، السادي الطائش ـ العديد من كبار الشخصيات بالنظام الحاكم ومن بينهم وزيرا الدفاع والشؤون الخارجية، ثم حاول الفرار إلى إيران، ثم انخرط بعد ذلك في حرب أقل حدة ضد النظام الحاكم في بغداد. ولأن لندن هي الخلفية الروائية لكل ذلك فقد زادت حدة المقارنة بين العنف، والحياة غير المتوقعة في بغداد والتعايش السلمي الذي تحققه العاصمة البريطانية لأبنائها. وهناك سمتان في رواية عبد الإله الجديد تتميزان بنوع خاص من الإثارة

السمة الأولى، هي نجاح الكاتب في إيجاد شخصيات نسائية من الممكن تصديقها، وهي السمة التي نادرًا ما يحققها كاتبو الروايات العربية. فشخصيات شهرزاد، وحياة، وبيداء تعتبر شخصيات روائية متطورة فعليًا أكثر من كونها شخصيات مجردة استخدمت في الرواية لتقديم اتجاهات عاطفية محددة، كما تعتبر حياة على وجه الخصوص من الشخصيات الأكثر إقناعا في الرواية، نظرًا لقدرتها النموذجية على الاعتماد على نفسها وامتصاص الصدمات.

أما السمة المميزة الثانية، فهي التوجه متعدد النغمات في سرد الرواية، حيث توجد عدة قصص، تلتقي الواحدة مع الأخرى في بعض النقاط وفي الوقت ذاته تنتهج في جوهرها مسارات مختلفة. وفي هذا الصدد، وضع عبد الإله بوناً شاسعاً بينه وبين معظم كتاب الرواية العرب من جيله الذين آثروا انتهاج نماذج روائية مباشرة وشكلية.

لقد كانت شهرزاد هي النموذج الروائي لعبد الإله، وهي راوية قصص ألف ليلة وليلة، كما أن أسلوبها الروائي داخل القصة يشبه دمى ماتريوشكا الروسية. وقد تساءل ابن العربي إذا ما كانت الحيوانات ستحيا من جديد في الحياة الأخرى، أما شهرزاد فكانت على يقين من ذلك. ولهذا السبب تمنت كلبًا لابنها في العالم الآخر.

لقد أوضح فوريستر من قبل أن بدء قصة أمر سهل، إلا أن ختامها هو الأمر الصعب. وتؤكد رواية «كوميديا الحب الإلهي» وجهة النظر هذه. وها نحن نرى عبد الإله وهو يتساءل كيف يعمل على إنهاء القصة، فقد وقع في دوامة من الأحلام مستحيلة الحدوث وآمال غير منطقية، وقد عجز عن تقديم النهاية السعيدة على شاكلة ما يحدث في هوليوود، أو حل العقدة المسرحية أو الروائية على شاكلة ما نشهده في التراجيديات اليونانية.

فهل كان ذلك لأنه لا يعلم؟ أم هل لأنه لا يجرؤ؟ قد يكون الأول أقرب للحقيقة. ولكن في النهاية أحب أن أوضح أننا نتعامل مع العراق، ومع العراق، لا أحد يعلم مطلقا.

اقرأ ايضاً