كوميديا الحب الالهي .. انطباعات سريعة
مصطفى الموسوي
جريدة المدى
6-12-2008
عالم الرواية عالم مغر أو مغو لافرق .
لا أدري من اين تسلل الى ذهني الأنطباع بأن الرواية العراقية الحقيقية هي بنت المهجر ربما لأن الرواية دوناً عن الفنون الادبية الاخرى بحاجة الى فسحة من الحرية والانطلاق من قيود التابوات السياسية والدينية والجنسية التي لاتتوفر في بيئة الداخل العراقية بقدر توفرها في بلاد المهجر.
لؤي عبد الأله كاتب عاش في المهجر لمدة تزيد على الثلاثة عقود ومقيم في لندن منذ منتصف الثمانينيات كتب في الصحافة والقصة القصيرة وترجم كتباً ومقالات كثيرة وهاهو اليوم يطل علينا في روايته البكر (كوميديا الحب الألهي) الصادرة عن دار (المدى).
رؤية ابن عربي
يستثمر الكاتب في هذه الرواية رؤية الأشراقي ولا أقول الصوفي، محي الدين بن عربي ،في الأسماء الألهية وتنازعها وممكنات الوجود والحب الألهي ليحول أفكار هذا المفكر الى عجينة تُكسى بلحم ودم لتتحول الى شخوص تؤدي دورها على مسرح الحياة (المنفى) وفق واقع يومي معاش ومعتاد، لكنه مغري أو مغوي (لافرق) في الوقت نفسه.
في كتاب مدارات الصوفية يقول هادي العلوي عن ابن عربي ورؤيته للأسماء الألهية مايلي (الأسماء الحسنى عند ابن عربي كلها صفات للأنسان كماهي صفات للأله فنحن صفاته لأننا مظهره. وأهل الدين لايجيزون وصف الأنسان الا ببعض الصفات ويستشنعون ماعداها؛ والمتصوفة يجيزونه لا على سبيل التسمية فقط بل وعلى سبيل الوصف لما تقرر عندهم من وحدة صفات الخالق والمخلوق …ولايستثني ابن عربي صفة يختصها بالحق من دون الخلق ، حتى فعل الأيجاد جعله متبادلاً فهو موجد وأنا موجد أوجدني هو لأوجده) .
في الرواية وقبل عدة قرون يتجول ابن عربي في أحياء القاهرة المنكوبة بالطاعون والموت والفناء، وفي الوقت نفسه المفعمة بالحياة وحب البقاء وممارسة العيش المعتاد ، ليتحدث عن فكرة التنازع بين القوتين التي شاهدها تتصارع على مسرح الحياة هناك في تلك الفترة وهما قوة الحياة وقوة الموت كأنعكاس للأسمين الألهيين المحيي، والمميت ،ان الأصل واحد هو الحق ولكن التجلي في هذا العالم هو الذي يخلق التضاد.
سلطة الروائي
الرواية من جانب تبدو وكأنها رواية تجريبية حديثة تركز على الأفكار التي تدور في أذهان هذه الكائنات ولاتركز على عقدة ما وانما تخلق شخوص تفكر بصوت عال ، وترسم علاقات بين مجموعة حقيقية وليست ملفقة بشكل فني مقنع.
فيما تبدو من جانب اخر وكأنها رواية كلاسيكية، للراوي فيها حضوره الطاغي ودوره السلطوي في متن النص بتدخله المباشر وغير المباشر .
لؤي عبد الأله في (كوميديا الحب الألهي) ، موجد خلق أوجد كائناته وتدخل في حيواتها وتحديد مصائرها برغم أنه حاول أخفاء ذلك التدخل بذكاء بحيث تبدو كائناته هي التي تتصرف بمصائرها لتحقيق ماهياتها انطلاقاً من فكرة وجودية اساسها ان الأنسان هو المسؤول عن أختيار مصيره عبر أفعاله وعبر ردود أفعاله أولاً وأخيراً بأختياره واحدة من الممكنات دوناً عن غيرها برغم وجود عدد غير نهائي من الأحتمالات أو الممكنات الأخرى.
لكن برغم ذلك هي كائنات أراد لها الروائي أن تكون مكتوبة على الماء لتتماوج في ذهن القارئ وفق تشكيلات جديدة مع كل قطعة حصى يقذف بها الى البركة فيتداخل الحاضر بالماضي والواقع بالحلم المستمر بايقاعاته المتنوعة، هذا التماوج وهذا التداخل يشكل الانبجاس المتواصل للماهية من حيز الممكن الى حيز الوجود بشكل يجعل من العادي واليومي أمراً غرائبياً عبر استخدام لغة مكثفة وافكار متجددة تواتر باسترسال منساب على ألسُن وفي أذهان شخوصه بشكل مدروس لنكتشف من خلالهم ان الأفكار الجميلة والحقيقية يمكن أكتشافها في تفاصيل الحياة اليومية العادية عبر خلطة عجيبة من الرغبات والخيبات من الرجاء والياس والأمل للشخوص العاديين الذين وضعوا في ظرف غير أعتيادي (المنفى أو المهجر). لؤي عبد الأله ومحي الدين ابن عربي وصالح والحق بأعتباره الموجد متوحدين ومتمايزين فيما بينهم التماهي موجود والتمايز موجود وهناك أشارات طي النص تبرز بين الحين والاخر لتشير الى هذا التماهي والتوحد .
ويطل علينا الراوي (كالالهة اليونانية) التي تراقب كل شئ لتفرح وتحزن وتضحك وتبكي وتبتسم وتغضب وتعلق أحياناً وهي تنظر الى شخوص العالم السفلي ترتكب حماقاتها أوتتحكم بمصائرها بهذا الشكل أوذاك ممايدفعها للتدخل هنا أو هناك وفق مقتضيات الحكمة التي تسير بها الكون.
ليس غريباً ان يكتفي اشخاص الرواية بأسمائهم فحسب ليس هناك اسم ثنائي أوثلاثي أو رباعي لأي من شخوص الرواية فأبوهم الحقيقي هو الراوي نفسه هو الموجد هو الخالق لهم والجميع ينتسب اليه لذلك فأن الراوي يطل علينا بين لحظة وأخرى ليؤكد لنا أبوته وأن لاتوجد شرعية لهؤلاء جميعاً وانما هو الذي يضفي هذه الشرعية.
ان كائنات لؤي عبد الأله في هذه الرواية تتفاوت في مواقفها، في انفعالاتها، في طبيعتها في قربها أو أبتعادها من الحكمة أو الصواب من الجمال أو القبح ولا أقول الخير أو الشر فهي مخلوقاته التي تعامل معها كجزء منه أو أمتداد له انهم أحياناً يفكرون كفلاسفة ويطرحون أفكارهم بصيغ فلسفية انظر الى بيداء الضعيفة المترددة التي لاتنبس ببنت شفة حين يتكلم زوجها وهي يدور في ذهنها مثل هذا السؤال ( مالذي يحفظ لحظة ما في الذاكرة فيجعلها حية دائما كأنها حدثت للتو، بينما لاتترك سنوات من العيش أي أثر وراءها ) أوحتى حين يتطرق شخصية مثل المبدع (السفاح) عن الفرق بينه وبين شخصية الزعيم فيصل الى نتيجة (ان رجاله اذا كانوا يعذبون لغرض أنتزاع المعلومات فأن الزعيم سيعذبه لغرض الأنتقام فقط : انه أفضل تجسيد للمنتقمين جميعاً في العالم).
سلطة الماضي
الماضي هنا يطل علينا بعدة صور فهو تارة استذكار يقوم به شخوص الرواية عن بغداد عن عوائلهم عن ذكرياتهم وعن حنينهم وتتمظهر مأساة المنفى في أجلى صورة لها في شخصية بيداء الضعيفة المترددة التي بقيت تفتقد الملاذ الآمن (بغداد، الحنو الأبوي ، الذكريات الحميمة التي حاولت جلبها معها عبر البوم الصور ) هذا الملاذ الذي فقد الى الأبد. اوحضور الماضي الى الحاضر (المنفى) عبر رسائل.
وتارة عبر قيام الروائي بقطع مفاجئ لأحداث الرواية والدخول في تفاصيل سياسية في داخل العراق عن شخصية المبدع والزعيم واللجان الثورية والجيش الثوري والحمر وهي كلها رموز لأحداث وأشخاص وأحزاب حقيقية لم يشأ لؤي عبد الأله الأشارة اليها الا عبر أسماء مستعارة .
واحيانا يطل علينا عبر افكار الأشخاص عن هذا الماضي كما في المقارنة التي تحضر الى ذهن حياة بين ابيها في بغداد وعشيقها توماس في لندن فهي ترى في أبيها الذي يموت ألماً لماحدث لها من اغتصاب وعشيقها الذي هجرها ليتزوج من امرأة اخرى تحقق له مطامحه عالمان متناقضان اولهما محكوم بقانون الجاذبية الذي يجره الى القبر والثاني محكوم بقانون أنعدام الجاذبية الذي يدفعه الى الأعلى، الأول محكوم بقيم مطلقة والثاني بقيم نسبية يُفصّلها كل شخص حسبما يشاء وهذا هو الفرق بين قيم الوطن والمنفى.
وبرغم ان اطلالة الماضي هذه تبقى كمسلمات قدرية مسلطة لايمكن محوها أو تجاوزها في شخوص المبدع ،الزعيم ، الأب، بغداد ، الله ،اوحتى الحوادث التأريخية والسياسية في التأريخ الحديث أوالموغل في القدم، الا ان شخوص االرواية جميعهم هم أولاً وأخيراً من يمتلكون حرية تغيير اتجاهاتهم وأتخاذ قراراتهم وهم المسؤولون عن أفعالهم ليس هناك انسان مهما كان ضعيفاً ومتردداً لايمكنه أن يقرر أو أن يتخذ قرار اننا في النهاية نحن من نحدد توجهاتنا ونحقق ذواتنا ومصائرنا وماهيتنا.
الماضي له حضور في كل شخص من شخوص الرواية لكنه طغيان هذا الحضور يختلف من شخص الى اخر فشهرزاد اقرب الى الانسجام مع نفسها وواقعها لطول المدة التي قضتها في المنفى، الماضي بالنسبة لها مجرد ظلال ،بينما بيداء بقيت في انشدادها الى الماضي القريب والبعيد باحثة عن تعويض ما عن خسارة حقيقية خصوصاً بعد ان تسلل الى روحها ببطء، اللامعنى لتتحول علاقة الأستكانة التي تربطها بزوجها (عبدل) غير ذات جدوى بموت سليم ابنها غير السوي .
ماهية الانسان في هذه الرواية ليست معطاً مسبقاً أوثابت انها تتشكل وفق صيرورة متصاعدة فالكائنات هنا متحولة.
الرواية تطرح هذه الثيمة وثيمات أخرى مبثوثة هنا وهناك في متن النص تنثال احياناً بشكل أفكار وتصورات فلسفية وأحياناً بشكل تساؤلات وجودية وربما رغبات يمكن أن تمر في ذهن أي أنسان وقد نجح الروائي في أقتناصها وتوظيفها بشكل فني جميل .
اضافة الى ذلك استخدم الروائي قصة الومضة او القصة القصيرة جداً التي قد تجدها مبثوثة هنا وهناك في متن النص الروائي فلننظر مثلاً الى الحوار بين بيداء والطبيب النفساني في صفحة 343 ( قال الطبيب : تعلمي ان تعبري عن رغباتك بصوت عال بدلاً من كبتها في نفسك.
كانت نبرته تخفي لغة أخرى تستطيع أن تؤولها الآن : اذا أحببت ان تلتقي بي سراً يمكنني ترتيب ذلك .انا اشتهيك . لكنها التزمت الصمت وكأنه شعر بخطورة كشفه أكثر مماينبغي ليتدارك متراجعاً بنبرة نصف مازحة: عليك أن تتجنبي الخوض في تجارب عاطفية عنيفة .وبدلاً من طرح السؤال الذي ورد في خاطرها :كيف ؟ أكتفت بهز رأسها ) ان هذا النص يمكن أن يشكل وحدة قائمة بذاتها اذا أقتطع من النص الأصلي كما أن القسم الرابع عن (صالح وروايته) يمكن أن يطور الى رواية قائمة بذاتها .
ان القفشات والضربات المتواترة هنا عبارة عن كم هائل من الافكار المكثفة وظفت بشكل ماهر من دون أن تكون خارجة عن السياق الطبيعي للرواية.
لؤي عبدالاله يستخدم ثقافته الموسوعية لخلق رواية عن اشخاص يخلقهم بنفسه انها رواية افكار وهو لاينسى كونه كاتب قصة قصيرة في الاساس.
السؤال الذي يمكننا ان نطرحه في مجال الفن هل الكائنات التي يخلقها الروائي بغض النظر عن موقفنا منها هي مستوفية لشروط الجمال فنياً هل هي مقنعة؟
ربما كانت شخصية عبدل قبيحة ولكن هل هي جميلة ؟
ربما كانت شهرزاد لايمكن البقاء معها أكثر من اربع وعشرين ساعة مستمرة ولكن كشخصية روائية هل هي مقنعة جمالياً ؟
نعم اعتقد ان جميع شخوص الرواية (عبدل ،بيداء ،شهرزاد،صالح، سلمى …حتى سليم وغيره ) كانوا مقنعين جميعاً انهم شخصوص حقيقية ومقنعة من الناحية الجمالية كائنات حية تنمو وتتصرف وتتطور ككائنات حية ونجح الروائي في ايهامنا.