الصوت المزودوج في رواية “In the Country of Men” (في أرض الرجال)

2٬746

لؤي عبد الإله

الصوت المزودوج في رواية “In the Country of Men” )في أرض الرجال)

 للكاتب الليبي- البريطاني هشام مطر

منذ أول سطر يضعنا الكاتب في إشكال يتمثل بإحالتنا إلى زمن آخر بعيد عن الزمن الذي يجري فيه سرد الحكاية: «اذكر الآن ذلك الصيف قبل إرسالي إلى الخارج. كان ذلك سنة 1979 والشمس كانت في كل موضع، حيث استلقت طرابلس باستسلام تحتها، وحيث مضى كل انسان وحيوان وحشرة يبحثون بلهفة عن ظل، يتمثل في تلك البقع الرحيمة المحفورة، داخل بياض يغطي كل شي». إذن يأتي الصوت من رجل يسترجع تلك الأحداث التي جرت خلال ذلك الصيف الصاخب هناك في تلك المدينة المتوسطية.

هذا الاختيار، سمح لهشام مطر أن يجعل صوت الراوي أحيانا يتماهى مع صوت الصبي ابن التاسعة، وأحيانا نتلمس نبرة لشخص ناضج يستطيع أن يحلل ما كان يجري في نفس البطل، إذ أن الرواية مكتوبة بضمير الشخص الأول. لذلك نحن نجد السرد أشبه بآلتين موسيقيتين  مختلفتين تتناوبان في عزفهما لسوناتا واحدة.

كذلك سمح له سرد الحكاية على لسان البطل من فترة زمنية بعيدة إلى كسر تسلسل الأحداث التي تنقلها الرواية. وهذا ما يمنحها منظورا غير خطي لا تبدأ من ألف وتنتهي بياء. بل الاحداث تتداخل في مسارها، فما حدث قبل أسبوع يظهر اليوم والعكس صحيح. كأن الكاتب كان يتبع صوت البطل- الراوي، وهذا ما خلق شدا إضافيا للقارئ، لأن كل فقرة بالقدر الذي تضيء جانبا من الحكاية تخفي جانبا آخر. وهذا يستمر حتى نهاية العمل. حينما يظهر البطل أخيرا وهو في سن الرابعة والعشرين ويعيش بالقاهرة، منتظرا قدوم امه بعد فراق عنها استمر 15 عاما.

قد تحضر في ذهن القارئ أثناء تواصله مع هذا العمل رواية الكاتب الراحل عبد الرحمن منيف: «شرق المتوسط» التي صدرت عام 1972 وكسبت آنذاك اهتماما كبيرا. إذ يتناول كلا العملين موضوع الاضطهاد السياسي داخل الانظمة الشمولية. مع ذلك، هناك فارق جوهري بينهما: فشرق المتوسط التي تتحدث عن دولة عربية مجردة وفي وقت غير محدد، تتحدث «في أرض الرجال» عن ليبيا، وعن طرابلس بالأخص وعن فترة محددة هي صيف 1979. لكن اهم اختلاف بينهما يكمن باختلاف مركز ثقل كل منهما. ففي رواية عبد الرحمن منيف يتحدد هذا المركز، الذي تتنامى الأحداث حوله، باشكال التعذيب الجسدي التي يتلقاها البطل رجب اسماعيل  داخل السجن، بينما مركز ثقل رواية هشام مطر يتحدد بالعلاقة المعقدة التي تجمع الأم بابنها. وهي على ما يلازمها من غضب واحتقان وكره ويأس علاقة حب عميقة، تنشأ بين هذا الصبي الوحيد سليمان وامه التي أجبرت على الزواج من أبيه في سن الرابعة عشرة. ومع قضاء الجزء الأكبر من أيامه في السفر بصفته تاجرا، يقضيان هما الوقت بانتظاره في عالم شبه مقطوع عن الآخرين. وتحت وطأة يأس مطلق تعتاد الأم على الكحول الذي تشتريه سرا من صاحب مخبزة. وتحت تأثيره تمضي في إخباره عن مصابها: كيف حدث الزواج، وكيف حملت به. لكنه الآن أملها: فهو مثلما تكون النهايات في قصص ألف ليلة وليلة سيأتيها لاحقا على حصان أبيض ليعيدها إلى النقطة التي غادرت مراهقتها منها، حيث أجبرت على ترك مدرستها ليقتحم رجل عمره ضعف عمرها حياتها فيستولي على كل أحلامها.

يأتي صوت الراوي في وصف هذه العلاقة التي جمعته بالأم بسطور مدهشة: «إذا كان الحب يبدأ من نقطة ما، وإذا كان قوة خفية يتم إخراجه على يد شخص ما، مثل ضوء ينعكس من مرآة، فإنها ستكون ذلك الشخص بالنسبة إلي. هناك غضب وشفقة، وحتى قدر من الكراهية، لكن كان هناك دائما حب ودائما بهجة تحيط ببداية الحب».

الجانب الآخر الذي تضيئه رواية «في أرض الرجال» هو عالم الصغار: كبرياؤهم وخبثهم، نزاعاتهم وتحالفاتهم، قسوتهم ورقتهم، خياناتهم لبعضهم البعض، ومشاعر الذنب التي ترافق الكثير من أفعالهم الشاذة. كل هذه العناصر تظهر لا بشكل مجرد، بل من خلال رصد دقيق يقوم به الراوي لنفسه حينما كان في التاسعة في علاقاته مع أصدقائه.

ضمن هذا المناخ يأتي أولا اعتقال استاذ تاريخ الفن رشيد، ثم يعقبه بعد فترة قصيرة اعتقال أبيه. وما يتم تصويره هو هذا العالم الغريب الذي يوضع فيه الطفل، وسعي رجال الأمن لانتزاع معلومات منه عن أصدقاء أبيه. فهو لم يفهم سبب حرق أمه لكتب أبيه في فترة تخفيه، فيتمكن من سرقة كتاب واحد عنوانه الديمقراطية الآن ليخفيه في غرفته. ولن يجد رجل الأمن الذي كان يدخل على الخط الهاتفي أي صعوبة في معرفة مكان تخفي أبيه ومساعده، حينما ذكّره بأن ما تشربه امه من «دواء» يؤدي إلى سجنها وما يترتب عنه من فضيحة وعار على العائلة.

ما يميز الرواية السياسية عن الرواية العادية أنها تهدف إلى إصدار أحكام، بعكس الثانية التي يقول عنها ميلان كونديرا بما معناه: إنها المكان الخالي من الأحكام. وهذا ما يجعل الأولى مرسومة باللونين الأسود والأبيض بينما الثانية تحتوي على كل الألوان.

حينما ذهبت أم سليمان إلى بيت جارها الاستاذ جعفر، رجل الأمن الكبير، مع قالب كعك صنعته بنفسها، تصرف بكل فروسية معها، وبفضل الجيرة التي تجمع اسرته باسرتها تحرك لإنقاذ زوجها فرج. ففي تلك الفترة لم يكن كافيا للمرء أن يعترف ويعتذر ليتجنب قتلا بشعا.

تبلغ قمة الرواية، حينما يراقب ذلك الصبي محاكمة الاستاذ الجامعي رشيد، في قاعة مخصصة لكرة السلة، على شاشة التلفزيون، وهنا يقوم الراوي بنقل المشاهد ببرودة تذكرنا كثيرا بأسلوب كافكا في قصته: مستعمرة العقاب. فلن ينفع توسل رشيد ومساعيه لتقبيل أيدي جلاديه من تغيير مصيره الذي ظل ذلك الجمهور الصاخب يلح بتنفيذه. «بدا كأنه يتوسل  بالرجال الذين كانوا يسحبونه إلى حبل المشنقة. ذكّرني بالطريقة التي تقاوم وفقها فتاة خجولة دعوة أصدقاء لها بالرقص، حيث ترفع كتفيها إلى  أذنيها وتهز سبابتها بانفعال أمام فمها».

لكن سليمان يدخل في مأزق آخر عند خروج أبيه من السجن بعد خيانة رفاقه وتدخل الجار الاستاذ جعفر لإنقاذه. فهو لم يتمكن من التعرف عليه، وهذا ما جعله يظن لفترة أن من جاء إلى البيت هو شخص آخر: وحش شديد البشاعة.

تأتي النهاية ضربة قاصمة هيأ لها الكاتب مطر خلال الجزء الأكبر من الرواية، حينما تظهر الأم في غرفة وحيدها لتخبره: «أنت ذاهب في رحلة إلى القاهرة لزيارة موسى واسرته ورؤية الأهرام». ولن ينفع رفض سليمان شيئا فوالدته تمكنت من اقناع والده بفكرة إرساله إلى بيت قاض مصري، تشكلت صداقة عميقة به خلال عمله في ليبيا.

وعلى الرغم من حيادية اللغة في نقل تلك التفاصيل التي رافقت أخذ سليمان الابن إلى المطار، فإنها تزعزع كيان القارئ العاطفي. أيّ إطار نفسي وذهني يتحكم في الأفراد كي يتخلوا عن أطفالهم من أجل إنقاذهم؟

لا تهدف هذه الرواية إلى إصدار أحكام سلبية أو إيجابية، فما يحركها هو كشف قوة آصرة الحب تلك التي جمعت الام بابنها أمام عالم غابت عنه الرحمة.

نسمع صوت الراوي وهو يراقب هبوط امه من الحافلة  في آخر سطور الرواية:«أحرك يدي فوق رأسي، عازما على مناداتها، لكنني لم أتمكن من النطق بكلمة واحدة. ثم فجأة تجيء الكلمة. “ماما” أقولها مرة أخرى وأخرى حتى تراني. “ماما ماما”، وحينما أصل اليها تقبِّل يديّ وجبيني ووجنتيّ وشعري وأصابعي، وتعدل ياقة قميصي”.

لعل هشام مطر، من خلال روايته، وبدون أن يعلم، أعاد ليبيا إلى خارطة لا مكان فيها  للأحكام المسبقة والتعميمات، بعيدا عن لوكربي وفظائع الماضي، خارطة تعبر عن جوهر الانسان  وتجاربه. دعوني اسميها مجازا: خارطة القلب البشري.

اقرأ ايضاً