عبد المحسن القطان: الرؤيوي الحافر في الصخر
غادرنا هذه الايام دون ان يثير أي ضجيج إعلامي كما هو الحال مع نجوم السياسة والفن، عبد المحسن القطان، باني “مؤسسة عبد المحسن القطان” الخيرية التي أنشأها الراحل عام ١٩٩٤ بماله الخاص وجعلها جمعية خيرية فلسطينية- بريطانية لينزع عنها ظاهريا البعد السياسي.
وهذه المؤسسة كرست نفسها منذ لحظة ظهورها على التعليم داخل الضفة الغربية وغزة، وما أعنيه بالتعليم قائمة طويلة من النشاطات الرتيبة البطيئة التي تتطلب أولا انشاء البنى التحتية الضرورية، ثم تدريب الكوادر لإدارتها، وبعد ذلك بناء شبكة واسعة من المساهمين في دعم مشاريع هذه النشاطات.
وعلى حد علمي، كان تدريب المعلمين ابتداء من الروضة وانتهاء بالمدرسة الثانوية واحدا من المهام التي قامت بها مؤسسة القطان، وقد ساهم في دورات التدريب العديد من أبرز خبراء التعليم في الغرب من خلال جمعيات مستقلة معنية بتطوير أساليب التعليم الحديثة، وعَبر عمل دؤوب ومنظم وتراكمي تم تدريب عدد كبير من المعلمين والمدرسين الفلسطينيين، وتشجيع أولئك المتفوقين للحصول على منح دراسية في جامعات غربية للتخصص في ميدان التعليم.
كم اصبحت الدورات الصيفية للمعلمين والمعنيين بالتعليم نموذجا متقدما على ما هو سائد في العالم العربي وتجاوز إنجاز مؤسسة القطان من حيث النوعية ما حققته المؤسسات التعليمية العربية الرسمية خلال أكثر من قرن في هذا المجال.
بالمقابل، طورت مؤسسة القطان وسائل التعلم والتعليم الذاتي بشكل مثير للانتباه: فبانشاء مركز عصري للطفل الفلسطيني في رام الله يضم مكتبة واسعة تضم الكتب الورقية اضافة الى وسائل التعليم الرقمية، ومن خلال هذا المركز، تم تحفيز أهالي الصغار للالتحاق بدورات تساعدهم على تقديم المساعدة لأطفالهم اضافة الى تعميق عادة القراءة والبحث لدى الاطفال وأهاليهم معا. ولكي تعم الفائدة جميع المناطق البعيدة وفر هذا المركز المكتبة المتنقلة على حافلة تصل الى الصغار والكبار هناك وبشكل منتظم.
كل هذه الجهود الدؤوبة اليومية والبطيئة هي من أجل جعل القراءة والتعلم عادة متأصلة لدى الصغار والكبار معاً.
مركز الطفل التابع لمؤسسة القطان جنبا الى جنب مع مركزي تطوير العلوم والمركز المعني بدعم الثقافة والفنون ساهمت بدأب في خلق تحول نوعي ( لا ثورة لأنني اخشى من هذه الكلمة التي تشير الى تحول سريع لكنه قصير الأمد وغالبا ما يؤدي إلى كوارث على المدى البعيد) في التعليم وتطوير فكر يستند الى التحليل والاستقراء والمعرفة الموثَّقة العلمية من دون ان تكون طرفا في الصراعات السياسية والأيديولوجية التي تغص فيها فلسطين وباقي البلدان العربية.
كأن عبد المحسن القطان قد ادرك في لحظة مظلمة كانت تعيشها المنطقة العربية بعد غزو صدام حسين للكويت وما ترتب عليه من صراعات عربية- عربية وتفتت قوى المقاومة للمشروع الاسرائيلي الاستيطاني الممنهج بان ضجيج الكلام والسلاح لأمة متخلفة في التعليم والمعرفة العلمية لن يحقق اي نجاح في المواجهة الحضارية القائمة بين الوجود العربي- الفلسطيني وإسرائيل.
الطريقة الوحيدة التي ارتآها عبد المحسن القطان هو في انشاء مجتمع منتج ومبدع يساهم في العمل الإبداعي الواسع المتحقق اليوم في العالم المتقدم في المجالات العلمية والتقنية والثقافية والفنية بدلا من ان يكون مجرد مستهلك فقط.
فكأنه كان يحلم وهو يردد عبارته التي ظل يكررها في العديد من المناسبات المناسبات، “زرعوا فحصدنا ونزرع فيحصدون”، بأجيال قادمة لن تراها عيناه وربما لن تراها أعين أبنائه، لكن أحفاده سيرونها وهي تحصد ثمرا كثيرا.
كم نحن بحاجة الى أشخاص يقتدون بالفقيد عبد المحسن القطان الذي ادرك في لحظة مظلمة من التاريخ العربي المعاصر ان الخروج من النفق لن يحققه نمط التفكير الثوري الذي ساد في عالمنا العربي بعد وقوع عدد من الانقلابات العسكرية والمتمثل بالايمان بان الثورة قادرة على حقن الطفل لحظة ولادته بإبرة تجعله يركض مباشرة على قدميه بدلا من المرور بمراحل تربيته التقليدية من عناية رتيبة طويلة وتغذية دؤوبة، خطوة بعد خطوة.
اضافة الى ذلك، الإيمان المطلق بان التعليم القائم على إعمال العقل بدلا من الحفظ، والتشرب بالمنهجية العلمية في التفكير هي طريقنا لمقاومة القوى الهادفة الى زوالنا ثقافيا.
أستحضر وأنا أشاهد صور عبد المحسن القطان القليلة على النت، خلال زياراته المنتظمة لمراكز مؤسسة القطان قول السيد المسيح هذا: “الحق الحق أقول لكم، إِنْ لم تقع حبة الحنطة في الارض وتمت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير”.
كم من البذور الصالحة للزرع ترَكَت بذرتك وراءها أيها السيد المحسن؟
نحن بفضلك ننتظر غابة وارفة بالاشجار والأطيار والثمار سيراها احفادنا.
طوبى لك وطوبى لأبناء فلسطين السائرين على خطاك.