جاءت رواية فرانكشتاين في لحظة تاريخية مهمة كان الغرب يمر بها، فهناك من جانب صعود الفكر العلمي الذي رسخه مفكرو عصر التنوير خلال القرن الثامن عشر والذي بفضله اكتسبت العلوم التطبيقية منهجية قائمة على التجربة والاختبار؛ أي سيادة العقل على العاطفة، ومن جانب آخر بروز الحركة الرومانتيكية منذ اوائل القرن التاسع عشر والتي كانت تنادي بالعودة الى الطبيعة وبضرورة تحقيق الانسان لرغباته وقدراته من دون معوقات خارجية؛ أي سيادة العاطفة على العقل. وكان للشعراء الانجليز مثل برسي شِلي واللورد بايرون وجون كيتس دور مهم في ترسيخ ملامحها عبر أشعارهم وعبر خياراتهم الحياتية. ولم تكن ماري بعيدة عن هذا الجو، فزوجها الشاعر شِلي كان منغمرا بمشروع كتابة مسرحية تحمل عنوان مسرحية المؤلف الاغريقي اسخيلوس المفقودة: “بروميثيوس طليقا”، وفيها جسد روح التمرد لدى هذه الشخصية الاسطورية التي سرقت النار من المجمرة الالهية ومنحتها للانسان فعوقبت على يد كبير الآلهة الاغريقية زيوس بشده على صخرة وهجوم نسر عليه كل يوم ليلتهم كبده المتجدد عقابا على تمرده. وحسب تأويل شِلي في مسرحيته الشعرية هذه، فإن لبروميثيوس القوة الكافية لمجابهة زيوس، بدلا من ايجاد نوع من المصالحة معه والتنازل له كما اشارت بعض الكتابات القديمة عن مسرحية أسخيلوس الأصلية.
صدرت رواية “فرانكنشتاين” في طبعتها الاولى عام ١٨١٨ من دون الإشارة الى اسم المؤلفة التي لم يتجاوز عمرها العشرين، في وقت ما زال شكل الرواية الكلاسيكي الذي أرساه الرواد الكبار مثل بلزاك وستاندال وفلوبير وديكنز لم يتحدد بعد، فلا أحد منهم كان نشر أي رواية حتى ذلك الوقت.
ولذلك فان الحبكة التي استندت اليها ماري شلي تعتمد على تقليد شهرزاد في سرد حكاياتها واحدة بعد الاخرى، فهناك الشاب القبطان روبرت والتون الذي يسعى الى تحقيق اكتشاف طريق بحري ينقله من القطب الشمالي الى منطقة دافئة، وخلال رحلته يتواصل مع اخته عبر المراسلة، ثم هناك فرانكنشتاين الذي ينقذه بحارة هذه السفينة فيبدأ بسرد حكايته مع مخلوقه المسخ لقبطان السفينة والتون، وخلال ذلك القص نسمع حكاية المسخ في ما عاناه من البشر على لسانه، ليعود صوت القبطان لاحقا في تواصله مع أخته.
في الرواية هناك إشارة لقصص السندباد البحري، وهذا ما يجعل فكرة خروج الجني من قارورة الصياد ثيمة أساسية في الرواية، بعد تمويهها بإطار العلم والتكنولوجيا اللذين بدآ يرسمان ملامح عصر البخار، جنبا إلى جنب مع بروز النظريات الاولية عن الكهرباء المكتشفة للتو، وعن قدراتها التي ما زالت غامضة في عقول العلماء والباحثين.
غير أن عدم معرفة ماري شلي بالاسس العلمية التي يمكن معها تحقيق ترقيع أجزاء تعود لجثث عديدة، لخلق كائن جديد ثم بث الحياة في الكائن، جعلها تختصر كل هذه العملية بالفصل الرابع من الرواية، بشكل غامض، ومن دون تقديم اي آلية أو مبررات مقنعة، فبعد صفحات قليلة نرى هذا الكائن واقفا بجانب خالقه الطالب الجامعي فرانكنشتاين فيهرب الأخير منه.
ما يترتب على الحكاية هو قتل المسخ لأخ فرانكنشتاين الأصغر وعروسه انتقاما على خلقه إياه بعد ان لاقى نفورا ورفضا كاملين من الناس جعلته يعاني من الوحدة، عدا عن الإساءات التي كانت تلحق به من قبلهم مقابل مساعدته لهم.
لن ينجح فرانكنشتاين في التخلص من المسخ الذي خلقه لان قدرات الأخير الجسدية في الركض وقطع البراري والبحار من دون واسطة نقل تجعله أقرب لسوبرمان منفلت العقال في شروره، ولن يهلك هذا المسخ الا بعد وفاة فرانكنشتاين تحت وطأة الندم واليأس.
لم تلق رواية فرانكنشتاين نجاحا كبيرا عند صدورها، فالرواية الواقعية الصاعدة جذبت أوسع القراء اليها حيث شكلت المتعة الشعبية الاولى آنذاك، ولعل ذلك كان وراء عدم الإعلان عن اسم مؤلفتها حتى في الطبعة الثانية ولم يتم الكشف عن اسم ماري شلي الا في الطبعة الثالثة عام ١٨٣٨.
بشكل عام، لم تحظ ماري شلي بالشهرة والنجاح الكبيرين اللذين تمتعت به الكاتبات انذاك على قلتهن مثل الأخوات برونتي وجورج إليوت على الرغم من اصدارها سبع روايات اخرى.
غير ان حظوظ النجاح انقلبت لروايتها البكر بعد مرور اكثر من قرن، وبعد ظهور السينما فكان انتاج اول فيلم صامت مقتبس من فرانكنشتاين عام 1910.
ومنذ ذلك التاريخ والافلام السينمائية المقتبسة عن رواية فرانكنشتاين تتوالى اذ بلغت حتى عام 2005 عددا يربو عن 75 فيلماُ، ناهيك عن عدد لا محدود من العروض المسرحية والموسيقية وكتب الروايات المصورة والألعاب.
غير ان تاثير الرواية تجاوز كثيرا حضورها الكبير في السينما والمجالات الفنية الأخرى، فهي كانت الحجر الاساس الذي تأسس عليه صنف ادب الخيال العلمي منذ اوائل القرن العشرين.
وما منح الرواية، التي تغلغلت في مخيلة الفتاة ماري شِلي في البدء ككابوس، تلك القوة على التأثير بعد مرور أكثر من قرن هو التماثل المجازي بين علماء القرن العشرين والعالِم المُتخيَّل فرانكنشتاين، فهم يشبهونه في ذلك الطموح باختراق المجهول ظنا منهم أنهم سيخدمون البشرية، وهم في جهودهم المضنية تمكنوا من اكتشاف الذرة أولا، ثم مضوا خطوة أبعد بالتمكن من اطلاق ما بداخلها من أشعة قاتلة بعد تفجير نواتها، فكانت هناك كوارث هورشيما وناكازاكي وتشيرنوبل التي راح ضحيتها عشرات الالوف من البشر. وفي مجال علم الوراثة ساعد الكشف عن الحمض النووي والجينات على بروز الهندسة الوراثية كحقل خصب يساعد على تحسين شروط العيش، لكنه في الوقت نفسه قابل للاستغلال وإطلاق مسوخ كثيرة تتجاوز بمسافة بعيدة مسخ فرانكنشتاين، اذ ما عادت هناك ضرورة لتكرار محاولات بطل رواية ماري شلي الساذجة في تجميع اجزاء الجسم البشري وتخييط بعضها ببعض بل بالامكان تحقيق ذلك من خلال التلاعب بجينات بويضة مخصبة او حتى بخلية عادية كما هو الحال في الاستنساخ الوراثي الذي بدأ باستنساخ نعجة أطلِق عليها اسم دولي عام ١٩٩٦.
الحقل الثالث الذي استثمره أدب الخيال العلمي هو الفضاء والكون، فمع اكتشاف العالم الامريكي إدوين هابل، عام ١٩٢٩، توسع الكون المتواصل، وما تبعه من اكتشافات لمجرات ونجوم يضاهي عددها عدد حبات الرمل على الأرض أو أكثر، بدأ العلماء يبحثون عن امكانية وجود كائنات حية اخرى تسكن كواكب مناسبة لشروط الحياة.
وعلى الرغم من كثرة وتنوع روايات وأفلام الخيال العلمي فإننا نجد أن معظمها يكرر العقدة الأساس والجوهرية في رواية فرانكنشتاين، وهذه تتمثل في تورط علماء الفضاء أو الوراثة أو الذرة بالمضي خطوات بعيدة في اكتشافاتهم النظرية، ثم انتقالهم الى تطبيقها على أرض الواقع دون معرفة نتائجها على الامد البعيد، وهذا تحت تاثير إغراء المال أو سطوة فضول مهووس أو هيمنة وهم ما بأن الاختراع سيصب في خدمة البشرية، ثم تأتي النتائج عكس ما كان يتوقعه هؤلاء العلماء.
في فيلم “الحديقة الجوراسية” المقتبسة من رواية تحمل نفس العنوان يستثمر المؤلف مايكل كريشتون حقل الهندسة الوراثية فيحذرنا من عواقبها المحتملة، وهذا يتمثل عندما ينجح فريق من العلماء بتحويل خلية دم من ديناصور بقيت داخل قرادة احفورية محفوظة داخل عنبر، الى ديناصورات من كل الانواع وما يترتب عليه من إعادة الحياة لكائنات انقرضت قبل ٦٥ مليون سنة فتصبح مصدر تهديد للجنس البشري على الأرض.
لعلي أجد في ماري شِلي شهرزاد أخرى عاشت عصراً قريباً لنا: عصراً بلغ به الإنسان مفترق طرق: بين العلوم والتكنولوجية المقنِّنة لحرية الانسان ونوازعه، وبين ما تمنحه من قدرات للانسان في تغيير قدره وقدر ملايين البشر من حوله.
ولعلي أجد في رواية فرانكنشتاين حكاية أخرى من حكايات شهرزاد بصيغة أحدث: إنها حكاية صياد السمك الذي وقعت في شبكته قارورة مختومة وحين فتحها خرج منها جني عملاق اراد قتله. لكن صيادنا أقدر من فرانكنشتاين في النجاة عبر الحيلة حين شكك بحقيقة خروج الجني من القارورة فما كان من الأخير الا أن عاد الى القارورة، ليثبت صحة دعواه، فأسرع الصياد بإغلاق غطائها.
فهل بالامكان إعادة الديناصورات الى حمضها النووي وإعادة الطاقة النووية الى ذراتها؟
لؤي عبد الإله