الشاعر الإسباني خوزيه أنكِل فالِنتي: هل هناك حقائق لا يكشفها غير الشعر؟

3٬457

عطَّلت سنوات الحرب الأهلية الإسبانية (1936- 1939) مسار الشعر في إسبانيا حتى منتصف القرن الماضي، فالكثير من الشعراء قُتلوا خلالها أو تشتتوا في المنافي، مما حدا بالشاعر ليون فليب أن يعلن من منفاه في المكسيك بأن “الشعر تخلى عن إسبانيا”.

بعد انتهاء الحرب خرجت إسبانيا منهكة والكتّاب كانوا يواجهون الرقابة والقمع على يد نظام الجنرال فرانكو.

في هذا السياق أصبحت الاهتمامات السابقة قديمة ونائية، والشعر أصبح مجزَّأً، إذ راح الشعراء يجربون مقاربات مختلفة لإعادة صياغة نتاجاتهم، فالكتّاب المعارضون للنظام طوروا شعرا احتجاجيا، وآخرون وجدوا ضالتهم في السوريالية او الوجودية أو غيرهما. وقد سعى الكثير منهم إلى تبني أسلوب مباشر بديلا عن الأساليب القديمة التي بدت لهم مصطنعة وتفتقد خاصية البساطة التي يتميز بها الخطاب العادي. وأخيرا بدأ يظهر إجماع هش يرى أن الشعر هو حول التواصل بالدرجة الأولى، وتناول الهموم الاجتماعية والسياسية.

في هذا المشهد الأدبي المجزَّأ، نشر شاب تخرج للتو من جامعة مدريد ديوانه الشعري الأول: “بصيغة متفائلة، 1953-1954″، إنه خوزيه أنكل فالِنتي. وقد فاز هذا الديوان بـ “جائزة أدونيس” للشعر، ثم كسب ديوانه الثاني: “أشعار للعازر، 1955-1960” “جائزة النقد”.

وعلى الرغم من أن فالِنتي كان في البدء مؤيدا لفرانكو، فإن فقدان والده حظوة النظام آنذاك، دفعه لاختيار المنفى مكانا للعيش، فذهب أولا إلى جامعة أكسفورد حيث درَّس  الادب الإسباني، وحصل هناك على شهادة ماجستير، ولاحقا أقام في جنيف وباريس حيث عمل مترجما لمنظمة الصحة الدولية واليونسكو.

عام 1972 جرت محاكمة فالنتي غيابيا من قبل محكمة عسكرية إسبانية بسبب انتقادات وجهها للجيش. وقد عاد إلى إسبانيا عام 1986 بعد وفاة فرانكو بعشر سنوات، حيث استقر في الاندلس.

توفي الشاعر الإسباني فالِنتي في جنيف بمرض السرطان عام 2000 عن سن الواحدة والسبعين.

يرى فالنتي الشعر بأنه “كشْف لجانب من الواقع لا يمكن الوصول إليه إلا عبر المعرفة الشعرية. وهذه المعرفة تُنتَج عبر اللغة الشعرية وتحقُّقُها  يكون في الشعر.”

ومع اطلاعه الواسع والعميق لأعمال الروائيين والشعراء من العصر الحديث فإن إتقانه للغات الرومانس السابقة للإسبانية المعاصرة مكنته من الإطلاع على الموروث القديم، كذلك ساعد اطلاعه العميق للإفلاطونية المحدثة وما أنتجته من أشعار وتأويلات فلسفية عبر القرون الوسطى على إغناء قصيدته بأبعاد جديدة توصلها بالديانات والثقافات العالمية المتعددة. ولعل ذلك واضح في الكثير من قصائده. تقول الأكاديمية المغربية فتيحة بن عبد الله، في أطروحتها عن الشاعر الإسباني فالِنتي إنه “عبَّر عن نفس الرؤيا التي نطلق عليها اسم البرزخ من خلال استرداد وإقرار وحدة المتضادات : الجسدي والروحي، المرئي وغير المرئي، ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله.”

يكتب توماس كريستنسن الذي ترجم نماذج من شعره إلى الانجليزية في مقدمة كتابه “منظر طبيعي مع طيور صفراء” إن الشاعر فالِنتي بعد نزع الأسلوب الباروكي من الشعراء الإسبان القدامى تبنى بعضا من ثيماتهم وصاغها بلغة حادة وواضحة وقائمة في الحاضر.” مع ذلك فإنه ظل دؤوبا على الإطلاع العميق للأدب والفكر الحديثين وهذا يظهر كثيراً في استشهاداته كتاباته النثرية إذ إضافة إلى كافكا، هناك أسماء مؤلفين آخرين من بينهم فريدريك هولدرين، وجيمس جويس وخوزيه ليما وبول سيلان وادموند جابيز.

ومع أن فالنتي لم يُقصِ الشأن الاجتماعي تماما من أشعاره، فإنه يراه ثانويا في الأهمية مقارنة بالاستكشاف الميتافيزيقي والفلسفي.

وفي هذه النماذج الشعرية القليلة نتلمس بعضاً من بصماته ورؤاه وكشوفاته، دون أن ننسى ضياع الكثير من عناصرها عبر الترجمة بما فيها الوزن والقافية والنسيج اللغوي الأصلي الذي كتبت به.

 

 

أول ليلة

وسِّعْ قلبكَ

اِجعله يُفلِس، اِجعله يَعمى،

حتى يولدَ فيه

الفراغ القوي

لما لا يمكن أبداً تسميته.

 

 

الليل يهبط

الليل يهبط .

القلب ينزل

سلالمَ لا متناهية،

أقبيةً شاسعة،

كي لا يجد غير الأسى.

هناك يستريح، هناك

يضطجع؛ هناك، مهزوماً،

يُضجِع كينونته.

يستطيع الإنسان

حملها على كتفيه

للصعود، بشق الأنفس، إلى أعلى ثانيةً

صوب الضوء:

هو يستطيع أن يمشي إلى الأبد،

يمشي…

أنت القادر على ذلك،

اِمنحنا قيامتنا اليومية!

 

قصيدة

كل الأشعار التي كتبتُها،

تعود إليّ ليلاً

فتكشف أسرارها الأشد حلكة.

ثم تقودني

عبر ممرات بطيئة مملوءة

بظلال بطيئة ممتدة إلى عالم مبهم

لا أحد يعرفه

وحين لا يكون بإمكاني

العودة تسلِّمني المفتاح للغزٍ

في هيئة سؤال من دون جواب

فيُشعِل الضوء في عينيّ العمياوين.

…….

أوجُ الأغنية.

البلبل وأنتَ

أخيراً سِيَّانِ.

 

مدخل إلى الرشد

عزلةٌ.

خوفٌ.

هناك فراغٌ

خاوٍ، هناك مكان

من دون منفذ.

هناك أعمى

يجتاحه شوق بين نبضتي قلب،

بين موجتين

من أمواج الحياة هناك أمل

في أن تكون جميع الأبواب

مفتوحة  على مصاريعها.

بين العين والشكل

هناك فجوة

قد يقع البصر عليها.

بين الإرادة والفعل تهبط

محيطات من الحلم.

بين نفسي  وقدري جدار:

الاستحالة الضارية لما هو ممكن.

 

وسط عزلة كهذه تتظاهر ذراع قوية

بتوجيه لطمة لكنها لا تضرب شيئاً.

في فراغ ما، في مكان ما – أين؟

وضد هجوم مَن؟

 

النفس لا تتعلق بأي شيء إلا بذاتها،

ضد الخوف، ضد التهديد، وضد التشاؤم.

 

 

المزهرية

المزهرية التي تحتوي  على أسمى

شكل للواقع،

خُلقت من التراب،

كي تستطيع العين تأمل النضارة.

 

المزهرية الموجودة لغرض الاحتواء،

تفشل في الاحتواء فتتفتت،

ميتة. شكلها

موجود فقط هكذا،

رنانة عبقة.

المزهرية العميقة

ذات المنحنيات الدقيقة،

جميلة ومتذللة:

مزهرية وقصيدة.

 

إقرار

يجب أن أموت.  ومع ذلك، لا شيء

يموت، لأنْ لا شيء،

لديه ايمان كافٍ

بقدرته على الموت.

اليومُ لا يموت،

بل هو يمرّ؛

ولا الوردة،

بل هي تذبل؛

والشمس تغرب،

لكنها لا تموت.

أنا فقط، الذي لامس

الشمس، والوردة، واليوم،

وله فكر،

أستطيع أن أموت.

 

الوداع

ذهب وانحنى لتقبيلها

لأنه اكتسب قوته منها.

(نظرت المرأة إليه من دون أن تجيب)

كانت هناك مرآة مغبَّشة

تقلد بشكل ملتبس الحياة.

ثبَّتَ ربطة عنقه،

وقلبه،

وارتشف قهوة خفيفة عكرة

شرح خططه

بما يخص اليوم،

أحلام الأمس ورغباته

لما لا يتكرر أبداً.

(تمعنتْ فيه بصمت.)

تكلم مرة أخرى. استرجع صراع

أيام كثيرة وحبهما السابق.

قال إن الحياة شيء لا يمكن التنبؤ به،

(كانت كلماته أكثر هشاشة من أي وقت آخر.)

أخيراً توقف أمام وجه صمتها،

اقترب من شفتيها

وببساطة بكى فوق تينك

الشفتين الآن، والى الأبد، من دون أجوبة.

 

كوني مَداي

جسدكِ قادر على

ملء حياتي،

كما ضِحكَتكِ

قادرة على إبعاد جدار الحزن الأسود عني.

كلمة واحدة منك تحوّل

الوحدة العمياء إلى هشيم.

إذا جلبتِ فمك الذي لا ينضب

إلى فمي، فإني سأشرب إلى ما لا نهاية

جذور وجودي.

لكنك لا تعلمين كم

أستلّ حياة من

قرب جسدك، أو كم بُعدُه  يبعدني عن نفسي،

يقلصني إلى ظل.

أنتِ الضوء والقوة

مثل شعلة متقدة

في مركز العالم.

لا تبعدي أبداً.

الحركات العميقة

لكينونتك هي

قانوني الوحيد.

احتفظي بي.

كوني مدايَ.

وأنا سأكون صورة

سعادتي

التي منحتِنِيها.

 

إشراق

سحبَ جسده

مثل شبح أعمى

لغده الذي لن يأتي أبداً.

دفعةً واحدةً،

في الغابات المفاجئة

اِحترقَ اليوم.

رأى اللهب،

وعرف النداء.

جسده رفع روحه

فبدأ بالمشي.

 

بلا عنوان

أنا شربتُ منكِ، شربتُ، أنا رَشَفتُكِ

كحيوان غاطس في ثنيات

صفائك الغارق تحت الغمر.

دون توقفٍ

هبطت المياه

صوب حناجر الضوء المرتعشة.

أحشاء، طيور، تخفق

فقاعات من جسدكِ

تتغلغل فيَّ.

أنا شربتُ منكِ

حتى انبلج النهار من فمي،

مثل فراغ معتم على الحدود

حيث الصحو يشدو عاليا.

 

مانْدورْلا

أنت داكنة في تقعُّرِكِ

وفي ظلك السري المحتوى،

المنقوش داخلكِ.

أنا داعبتُ دمكِ.

أنتِ أدخلتِني إلى أعماق ليلك الثمل

بالصفاء.

 

المرآة

اليومَ رأيتُ وجهي غريباً جداً،

متخاذلاً وعجيباً

على هذه المرآة.

غليظاً، مع تقدم العمر، أصبح شخصاً آخَرَ،

شديدَ الشحوب، بوجنتين ذاويتين،

وأنف مصوَّب نحو الأسنان،

نوافذ بيتية منهكة،

عادات عقيمة ليست هي إلا مجرد “عادات”.

مسستُ الصدغين: كائن ينبض هناك.

ينبض، آه، الحياة، الحياة!

التفتُّ جانباً، هذا الوجه

كان كذلك طفلا يوماً، في زمن آخر

مع أمّ في الخلفية.

طفلا مع دمى هشة

في بيت مطري شديد الحيوية

في ملعب صغير

-ملائكة بلهاء-

طفل مديني منشغل بألعابه تحت الأشجار.

لكن الآن ينظر إليّ صامتا بدهشةٍ،

دهشةٍ جليديةٍ على مرآة منعزلة.

أين أنا، أسأل نفسي،

ومَن ينظر إليّ

من داخل هذا الوجه، هذا القناع، قناع لا أحد؟

 

 

اقرأ ايضاً