السيد بْروك وأولاده
(1)
لم أكن أظنّ، عند دفعي الباب الدوار، أني سأدخل مدينة مسحورة لا تمتّ بصلة لما هو قائم خارجها، بل تراءى لي وكأني أدخل في حلم تدور أحداثه في مكان وزمان مجهولين: أمامي “كاونتر” أبنوسيّ، ذو سطح صقيل أجرد إلا من طوق ورود حمراء ذابلة، وبدلاً من اصطفاف زجاجات الخمر فوق رفوف مثبتة على الجدار، كما هو الحال في بارات لندن، نُصبت شاشة بيضاء تصل حتى حافة السقف العالي، وعليها تتحرك ببطء سيارات فارهة سوداء اللون، يرافقها غناء كورال بلغة غامضة وموسيقى جارفة.
حاولتُ الخروج لكن حركة الباب تجمدت، فما كان أمامي إلا التقدم بتأنٍّ في تلك المتاهة الخالية من أي أثاث إلا طاولة مستديرة وضعت وسطها، وتحيطها أربعة كراسي، إلى يميني امتدت على طول الواجهة الزجاجية السميكة ستائر المخمل غامقة الزرقة، ويساراً، كان هناك فراغ شامل، إذا اعتبرنا تلك الشموع الاصطناعية المثبتة على الجدران جزءاً من الإضاءة الباهتة التي تعمق الإحساس بالعزلة عن ذلك العالم الصاخب المجاور له بمشاته وسياراته ومطاعمه وحاناته.
على مهل ينفتح ذلك الباب الوحيد، فيظهر رجل بدين نوعاً ما. بدا لي للحظة، وهو يخطو صوبي، كأنه كائن خلقته مخيلتي تحت وطأة جنون محض، لكن وقع خطواته المنتظمة على الأرضية الخشبية، متبوعةً بنبرة صوته الأليفة، أعادت لي صنارة العقل. مدّ لي يده وهو يردد: «أهلاً بك…شكراً على مجيئك في الوقت المحدد».
لا أستبعد الآن أن يكون هناك “بروجكتور” مسلّط على الطاولة الصقيلة التي جمعتنا، مما سمح لي بالتمعُّن في وجهه المتورّم الخالي من الغضون، عدا ثلاثة خطوط أفقية تبرز على جبهته العريضة، كلما تلاشت ضحكته.
«أنت السيد بروك»؟ سألته، سعياً إلى استجماع أفكاري.
«نعم. أنا إدوار جيمس بروك»، قال مبتسماً. «يمكنك أن تناديني “إد”».
أزحتُ عينيّ عن وجهه صوب أعلى الجدار القائم وراءه، للتخفيف من النفور الذي يصيبني عادة حين أجد جسدي شديد القرب من جسد رجل آخر لا تجمعني به أية آصرة. واجهتني لوحة زيتية كبيرة معلقة فوق الباب الداخلي ينيرها مصباح خفي.
«هذه صورتك»؟ سألته، فارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة جعلت عينيه الزرقاوين تختفيان وسط أجفانه المتهدّلة.
«إنها صورة بروك الحقيقي»، قال وهو يدير رقبته بصعوبة صوب الصورة للحظة، «هو جدي الرابع. مؤسس هذه الشركة».
«أنت تشبهه بشكل عجيب».
«هو إذن شخص محظوظ»، قال ضاحكاً، «لقد استطاعت جيناته أن تبقى حية عبر أربعة أجيال، فابني البكر جون يشبهني أيضا ».
تلفتُّ حولي بإمعان هذه المرة مدققاً النظر في البورتريهات المعلقة على الجداريْن المتجاوريْن، استحضرت ذاكرتي بعضاً منهم، لظهور صورهم مراراً في الصحف والمجلات، فهم من الشخصيات البريطانية البارزة التي عاشت خلال القرنيْن الماضييْن، وإذا كان هناك شيء يجمعهم فهو الموت.
وكأن الكلمة الاخيرة التي انفجرت في رأسي، وراحت تتكرر بإيقاع مدوٍّ، انتقلت عدواها إلى رأس مضيفي:
«أي خدمة أستطيع تقديمها لك»؟
«وصلتني رسالة من شركتكم حول التأمين على الحياة… وأعجبتني الامتيازات فيها كثيراً».
«أنا سعيد بما تقوله. أرجو أن تخبرني عما أعجبك في عرضنا».
أخرجتُ الرسالة من حقيبة الكتف الجلدية التي ترافقني دائماً: «أعجبني أن التأمين لديكم لا يتطلب شهادة طبية، وهو مفتوح لمن هم ما بين سنيّ الثلاثين والثمانين. كذلك القسط زهيد جداً: خمسة جنيهات شهرياً، لا شيء».
ها أنذا أراه يُخرج نظارته من جيب سترته السوداء الداخلي، ويفرش الإعلان الذي سلّمته إياه على الطاولة.
«آه، إنها ليست منا، بل من شركة الإعلان المسؤولة عن الترويج لشركتنا، ويبدو أن النسخة التي وصلتك سقطت عنها كلمة هي مفتاح الرسالة بالكامل». أضاف بعد صمت قصير: «إنها كلمة “جنازة».
«تريد أن تقول لي إنكم تعرضون التأمين على الموت لا الحياة»؟
«ليس تماما أيها السيد، فالموت هو جزء من الرزمة التي يتسلمها كل حيّ سواء كان إنساناً أو طيراً أو حيواناً. إنها باختصار تأمين على الجنازة».
لا بدّ أنه قرأ امتعاضي وهذا ما لم يكن متوقعاً لو كان الشخص من أبناء جلدته. بدأ صفير خافت يتناهى إلى سمعي، منبعثاً من صدره مع كل زفير يطلقه.
سحبتُ الورقة من بين يديه وأدرتها صوب عيني: «ماذا تقصدون بهذه العبارة: اِتركْ مبلغاً من المال لمن تحبهم. هل تدفعون شيئاً لأهل المتوفى».
«لا ! ولكن أن لا يكلف الراحل من يحبهم نفقات جنازته هو نوع من الإدّخار لهم، أليس كذلك؟».
قلت ساخراً: «وماذا عن النقطة الثانية: “راحة البال من أنَّ.. جنازتك مغطاة مالياً”»؟ أضفتُ متداركاً خطئي: «أنا أعتذر لأني لم أقرأ هذه الكلمة المفقودة في الإعلان.. مع ذلك كيف تتحقق راحة البال للمتوفى؟».
«راحة البال قبل الوفاة طبعاً. أن يكون المرء مطمئناً من أنه لن يكون مديناً لأحد… ».
«أعتذر إذا كان تصرفي فظاً. أنت تعرف أننا نختلف في الأسلوب لكن الداخل… ».
«لا تقلق».
وحين رآني على وشك النهوض للمغادرة. بادر مبتسماً:
«إذا أحببت أن تبقى قليلاً، لتناول الشاي فمرحباً بك».
(2)
شرح لي السيد بْروك ما ظل يتردد في فضاء القاعة من موسيقى وتراتيل تمس شغاف القلب، لكأنها تتنقل ما بين الألم والرجاء والدعاء: «إنه قداس للموتى ألّفه موتسارت ولم يكمله»، قال المضيف، وأنا أرتشف جرعة من الشاي الممزوج بالحليب فتخفف من حلاوة قطعة البسكويت بالشوكولا، التي ازدرتها للتو فوق لساني.
«بين زبائننا، هذا القداس هو الأكثر شعبية، يليه “أفا ماريا” لشوبرت، ثم قداس فيردي».
«هل هناك من يفضل الموسيقى العصرية بين زبائنك»؟
«نعم، هناك حالات قليلة، وهؤلاء ربما من الملحدين. فكيف تفسر تفضيل البعض لأغنية فرانك سيناترا المتباهية: “عملتها بطريقتي الخاصة” على قداس موتسارت المملوء تضرعاً للرب بالراحة الأبدية».
أردتُ تلطيف الجو بالتعبير عن إعجابي بالفكرة: «لا بد أن هناك زبائن كثيرين اشتروا بوليصة التأمين… ». وكدت أنفجر بضحكة شيطانية مدوية، لولا ارتفاع صوت بْروك بحماسة غير متوقعة: «نعم، نحن أول من طرح الفكرة على السوق قبل تدخل الوسطاء والمضاربين والبنوك الكبيرة. أكثر زبائننا هم من الكهول والمتقدمين في السن، أما الشباب فما زالوا يسخرون من الفكرة. أنت تعرف أن الإنسان يكون طائشاً في هذه السن، ولا يعرف أن العمر محكوم بمتتالية هندسية: كلّما تقدم به العمر تسارعت الأيام».
وكأن صمتي كان موافقة وتشجيعاً له كي يفتح قلبه: «الكثير من الناس يتجنبوننا، وكأننا نحن صانعو الموت. والحقيقة هي أننا نشبه الأطباء. هم يعملون للتخفيف عن آلام الأحياء وإطالة أعمارهم ونحن نعمل لتخليدهم بين أحبائهم من خلال جعل المناسبة راسخة في ذاكرتهم طوال حياتهم لما فيها من أبهة ووقار وتبجيل. كذلك فنحن نُرضي زبائننا بتنفيذ وصيتهم بدقة. بعضهم يحدد حتى أسماء المشيعين وماذا يجب أن يرتدوا، وآخرون يطلبون خدماتنا بعد رحيلهم مقابل مبلغ إضافي صغير. فأنت تعرف أن أحباءهم ستجرهم مشاغل الحياة اليومية بعيداً عن الموتى، لذلك فنحن ننفذ ما يريدونه من غسل منتظم لأضرحتهم، والعناية بالزهور التي تحيطها…نحن بقينا نخدم المجتمع بصمت جيلاً بعد جيل لأن مؤسس أسرتنا كان يؤمن إيماناً عميقاً بأن الموتى هم القوة وراء استمرار الحب في قلوب البشر: هل تستطيع أن تتذكر شخصاً متوفى من دون أن تتعاطف معه لأنه يذكّرك بأنه ما عاد إلا ذكرى بالنسبة إليك… حضوره في أحلامك هو لتنشيط ذاكرتك وحفظها من العطب… نحن لا نفرق بين زبائننا سواءً كانوا أحياء أم أمواتاً.. أستطيع أن أريك أفلام الفيديو لبعض الجنازات التي تعهدنا بها… وقد تغير رأيك».
(3)
«هل كل هؤلاء… »؟
وكأن “إد”، كما بدأتُ أناديه بعد أن جمعتنا وجبة سمك القدّ والبطاطس المقليين وزجاجتي البوردو، أصبح أكثر قدرة على إدراك ما أسعى إلى قوله بجملي الناقصة قبل إتمامها، حينما شاهد عينيّ تتقلبان بين صور المشاهير.
«بعض منهم.. الأغلبية “مروا” على يدي والدي وجدّي. الإنجليز لا يهتمون بعظمائهم الموتى، إنهم يخجلون من التعبير عن مشاعرهم سلباً أو إيجاباً، فالتعبير الحقيقي عن فرحهم أو حزنهم يرونه مبالغة ونوعاً من خفة العقل. أهم شيء بالنسبة إليهم في الأزمات هو القدرة على ضبط النفس بزمّ شفاههم. هل زرت يوما مقبرة “هايد بارك”؟».
«نعم، مرتين».
«هل شاهدتَ قبر كارل ماركس»؟
«نعم أعجبني التمثال».
«هه.. على بعد عشرين قدماً عنه دُفن أول صاحب مطعم صيني في حي سوهو».
«وماذا يهم؟ الموتى هم في نهاية المطاف موتى».
«كيف لا يهم..؟ صحيح أن ماركس ألماني وأنا أكره الألمان لأنهم قتلوا أخي خلال الحرب العالمية الثانية، لكن أفكاره ما زالت مؤثرة في تكوين وعي الكثير من الناس. بالطبع أنا لست واحداً منهم. ما الذي بقي من صاحب المطعم؟ أشك حتى في بقاء مطعمه على قيد الحياة».
«وماذا تقترح»؟
«لو أن ماركس توفي في فرنسا، لكان قبره الآن محاطاً بمفكرين وفلاسفة وأدباء كبار. هل شاهدتَ مقبرة “بير لا شيز” في باريس؟ هناك تجد قبور المشاهير أضرحة محاطة بالتماثيل وكل ضريح فيها قطعة فنية».
«نحن لا نستطيع تغيير طبائع الشعوب».
«صحيح، ولكن الناس في كل مكان وزمان يسعون إلى الخلود. هل راقبتَ إنساناً ما وهو يلاعب حفيده. إنه في ذروة السعادة والاطمئنان لأنه نجح أخيراً في نقل جيناته إلى جيلين».
«هذا لا ينطبق على فنّانينا المعاصرين. إنهم ينتجون إبداعاتهم على طريقة ماكدونالدز، المهم أن يكون هناك مستهلكون لها هذا اليوم فقط».
«الاستهلاك هو الضامن الوحيد لبقاء الرأسمالية. إنها مثل سمك القرش: إذا كفّت عن الحركة لحظة واحدة ماتت فوراً، نحن الوحيدون من يقف في وجهها بسعينا لتحقيق خلود ما لزبائننا».
أتذكر أن صمتاً ران بيننا جعلني أتململ تهيؤاً للمغادرة حين فُتح الباب الداخلي بتؤدة، ليظهر الشاب الذي جلب لنا الطعام ثانية. قال “إد”: «هذا ابن أختي جوني. إنه متعدد المواهب: طباخ وسمكري وكهربائي و… ».
«أظن أنني شاهدته في الفيديو… ».
«طبعا ليس بملابسه الكاجوال هذه، بل ببدلة الشغل والقبعة السوداويين، وليس بهذا الوجه البشوش».
«نحن نقول في بلدي: لكل مقام مقال».
«أرجو ألا تعتبر سؤالي تطفلاً إن سألتك… ».
«أنا من بغداد».
«من مدينة علي بابا، والبساط السحري.. هل هي في أفريقيا؟».
«لا، في آسيا».
«اعذرني على جهلي، أنا ضعيف جداً في الجغرافيا. سمعتُ من بعض الزملاء أن خدمات الدفن جيدة فيها.. هل قررتَ..؟ ».
«لم أقرر بعد… هل خدماتكم تمتد للخارج؟».
«عندنا فروع في ثلاثة بلدان أوروبية، يعني أمامك أربعة اختيارات».
«هل الأقساط متساوية»؟
«أرخص قسط إذا اخترت الحرق، لأنك لن تحتاج إلى أرض».
«في رأيك، أيهما أفضل»؟
«لكل منهما إيجابياته وسلبياته.. الحرق على المدى القصير أفضل لأنك ستدفع أقل».
«وكيف هي السوق»؟
«الآن، الناس تميل إلى هذه الطريقة أكثر.. مع ذلك فنصيحتي هي الثانية… أنت على المدى البعيد قد تستفيد أكثر. ربما عظامك تشتريها مؤسسة بحوث طبية من أحفاد أحفادك… وإذا كنت محظوظاً أكثر، قد ينجح العلماء باستنساخك ثانية من تلك العظام نفسها… ».
ساد الصمت بيننا لحظات بدت دهراً، وعلى عيني بْروك الزرقاوين طفحت غشاوة جعلتني أشعر وكأن سنوات عديدة ركضت سريعاً خلال لقائنا. اكتشفت أن لغده أسمك وأوسع مما كان عليه قبل دقائق، حيث اكتسى لوناً زهرياً يتسق مع لون خديه المنتفخين وجبهته وصلعته الأمامية. راح صوته، عبر كلماته الأخيرة، يتغلغل في الفراغ الفاصل بيننا، فترجّعه الجدران الملأى بصور الزبائن الذين راحوا هم أيضاً يقهقهون عالياً، ليطغى ضجيجهم على موسيقى موتسارت الجنائزية.