الجواهري: ماذا تفعل الجبال في عصر كعصرنا؟

1٬284

بعد سبعة أو ثمانية قرون، لو أراد ناقد أدبي، إعداد دراسة جديدة عن الشعر العربي الكلاسيكي، فإنه سيكتشف ظاهرة غريبة تتمثل بظهور شاعر في أوائل القرن العشرين، يمتلك نتاجه الشعري الضخم كل سمات ما أبدعه شعراء الطبقة الأولى في العصر العباسي، ولعله يتفوق على بعضهم. هذه الطبقة التي ظهر شعراؤها خلال عمر الدولة العباسية الذي امتد إلى خمسة قرون تقريبا، ما بين منتصفي القرنين الثامن والثالث عشر، وأغلبهم عاش في بغداد. من بين هؤلاء هناك المتنبي والبحتري وأبو تمام الذين اعتبرهم المعري أعظم شعراء ذلك العصر، وبين هؤلاء يقف شاعر القرن العشرين، محمد مهدي الجواهري، بصوره ومجازاته وقاموسه وبحوره وسلاسته أقرب للبحتري من غيره. ولعل الحيرة التي ستصيب ذلك الناقد القادم من المستقبل تكمن في الفجوة الزمنية التي تفصل بين شاعرنا وشعراء العصر العباسي: هناك سبعة قرون تفصل بين العهدين، وهناك عصور مظلمة سادت خلالها مع سقوط بغداد على يد المغول عام 1258، فما عاد هناك فلاسفة وأدباء وعلماء يجولون شوارع عاصمة الرشيد، وما عاد هناك سوق حافل للوراقين والمترجمين. ولم تعد بغداد باريس ذلك العصر بآدابها وفلسفتها ولم تعد لندنَ العصر الفيكتوري بعلومها الطبيعية وابتكاراتها.

مع ذلك، يظهر شاعرنا كاسرا قوانين المكان والزمان، بتلبسه عبقرية شاعرين من ذلك العصر الذهبي البعيد: المتنبي بحكمِه والبحتري بصوره وجزالته وانسيابيته. أتوقف عند هذين البيتين من قصيدة يخاطب الجواهري فيها، ابن الكوفة، شاغل نحويي ولغويي عصره، المتنبي. يقول الجواهري مخاطباً ابن بلده:

فيا “ابن الرافدين” ونِعمَ فخرٌ  بأن فتى بني الدنيا فتانا

حبتك النفس أعظم ما تحلت   به نفس مع المِحَن امتحانا

وكأن شاعرينا اشتركا بقَدَر واحد رغم فاصلة الزمن الكبيرة: كلاهما عاشا الجزء الأكبر من حياتهما بعيدا عن وطنهما العراق، وكلاهما ماتا في أرض غريبة.

في قصيدة عنوانها “ساعة مع البحتري في سامراء”، يقارع الجواهري فيها أستاذه ونده في الوصف والجزالة والجريان الطلق:

ووقفتُ حيث البحتري ترقرقت  أنفاسه فشفعتُهُنَّ دموعا

ولئن تشابهت المَناسبُ، أو حكى مطبوع شعري شعره المطبوعا

فكم تخالَف في المسير جداولٌ  فاضت معاً وتفجرت ينبوعا

لعلي أتساءل هنا: هل جاء شاعرنا الجواهري في القرن الخطأ، في قرن يشبه ذلك الذي عاشه الناس فيه قبل سقوط بغداد بيد المغول حيث الانقلابات والمؤامرات والفظائع تشبه ما جرى ويجري اليوم في العراق، فانشغلنا عنه بالسياسة والتحزبات؟

أم إنه بيتهوفن آخر ولد في عصر خطأ حيث الموسيقى السائدة هي البوب والروك والراب، وحيث لا مكان فيه للموسيقيين العباقرة.

في زمن سيادة ما هو عادي ومتوسط واستهلاكي ماذا تفعل الجبال قبل أن تعيدها البحار إلى أعماقها؟

اقرأ ايضاً