لعبة الأقنعة

2٬049

(1)

تسترجع الغرفة أخيرا نفسها أمامه، ها هو يهبط في مظلة شديدة البطء حتى تلامس قدماه سطح الفراش الناعم. تلتقط عيناه الفوضى المتمثلة بقطع الملابس المتناثرة على السجادة والسرير، وعند الجدار المقابل له كانت تجلس بروب النوم الزهري، أمام طاولة الزينة، منشغلةً في إزالة طبقات الماكياج السميكة عن وجهها، وإلى جانبها استلقت باروكة الشعر الأشقر. جاء صوتها غريبا عنه:

«تقدر أن تجلب وئام من المدرسة؟»

«بالتأكيد.»

وبدلا من النهوض، غطى رأسه تحت اللحاف، وراح أنفه يبحث عن عطر نسائي غادره تواً، بينما مضت ذاكرته تسترجع عبثا تفاصيل الصباح. كان يشاهد آنذاك خيطا سرابيا يتنقل أمامه بين حركتين متناوبتين: الانطفاء والاشتعال؛ الظهور والاختفاء.

 

 

(2)

قبل أن تلتقط أذناه رنين الجرس تسربت إليه رائحة عطر نسائي غامض، جعلته يُخرج رأسه من تحت اللحاف، ويستغرق في استكشافها متلذذا. سمع صرير المفتاح الدائر في قفل الباب الخارجي فتصاعدت نبضات قلبه.

لا بد أنها لوسي، فالرسالة التي استلمها على هاتفه الجوال مساء أمس تكشف عن هويتها، بالرغم من توقيعها باسم فرنسي مثير: شانتال. «هل ستعمل زوجتك غدا؟» ولم يحتج إلى أكثر من دقيقة ليجيبها، فنوال كانت في فراشها، وليس مستبعدا أنها غفت الآن.

«نعم.»

«متى  ستعود؟»

«حوالي الثانية.»

أصابه هلع وهو ينصت إلى ضربات الكعبين الثاقبين أثناء عبور لوسي مدخل الشقة، إذ لم يمض على خروج زوجته من البيت سوى دقائق، ولم تزل آثار عطرها مبثوثة في الفراش، فكأن الجارة الفاتنة كانت تراقبها من النافذة. توقع انفتاح الباب على مصراعيه في أي لحظة لتظهر أمامه مرتدية كعادتها بنطلون جينز وجزمة، وعلى رأسها بيرية فرنسية ذات لون فاقع. بدلا من ذلك حل صمت مفاجئ في المكان، منحه فرصة لالتقاط أنفاسه، والنهوض من سريره.

لم تنشأ علاقته بالجارة الشابة التي تسكن بالضبط فوق شقته إلا بفضل نوال، فحالما  منحتهما البلدية إياها، راحت زوجته تتودد لكل ساكني المبنى عند التقائها بهم صدفةً. ولم يمض سوى وقت قصير حتى بدأ يشاهد بعض النساء يترددن إلى بيته.  تصيح نوال بإصرار حينما يعبّر عن استيائه: «هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنك أن تتعلم الإنجليزية بها.»

كان رد فعل الجيران تجاه إغواء نوال لهم مختلفا، فهناك من تحصن أكثر فأكثر من تقربها، وحالما كانوا يشاهدونها يمضون في خطى سريعة وهم يرددون بابتسامة مصطنعة «إنه جو لطيف اليوم، أليس كذلك؟» لكن شعبيتها كانت كبيرة بين الآخرين، خصوصا بين الأمهات العازبات وكبار السن الوحيدين.

تسربت إلى سمعه طقطقة صحون في المطبخ. لا بدّ أن لوسي تعد لها كأسا من القهوة الايرلندية ولا بد أنها ستجلب كعادتها واحدا  له. تقول له كلما التقيا: «أفضل مكان أشربها فيه سريرك.» وحينما سألها ذات مرة إن كانت تتناولها مع جون أيضا في الفراش، صمتت لحظة: «حينما نلتقي فكر فيّ فقط فأنا لا أفكر إلا بك». لكنه لم يتمكن من تحقيق ذلك يوما. فصديقها يحضر معهما حتى في أكثر اللحظات حميمية.

قبل تعرّفه إليها أثار انتباهه أولا قدوم جون شبه المنتظم في عطلة نهاية الأسبوع إليها. وبوجود طفل معها، ظن في البدء أن الآباء لا يعيشون مع أسرهم هنا، لكن بفضل المعلومات التي ظلت نوال تنقلها له عن “صديقاتها” توصل إلى حقيقة ظل يشك بصحتها حينما كان في بلده: يمكن للنساء هنا أن يصبحن أمهات  بدون زواج.

يتابع من النافذة المحظوظ جون قبل مغادرته المنطقة، وإلى جنبه تقف لوسي وطفلتها.«أراك حبيبتي في الأسبوع المقبل»، ثم تطلب الأم من صغيرتها «قولي باي»، قبل أن يحرك صديقها سيارته ويمضي إلى شؤونه الأخرى.

أصبحت ليلتا الجمعة والسبت مصدر توتر وتشويق. فبدون إرادته كانت أذناه تستيقظان بعد منتصف الليل لتتابعا أي نأمة تصدر من السقف، متجاهلتين في الوقت نفسه أنفاس نوال الثقيلة. أحيانا تخترق عينه الثالثة العازل الفاصل بين الغرفتين لتحلق فوق جسدي لوسي وجون  فتنقل ما يدور بينهما بحيادية مطلقة. ثم تحضر إليه صورة جون مودعا صديقته، خفيفا مثلما جاء، «أراك حبيبتي…»

بالعكس من جون يجد هو نفسه مقيدا إلى نوال، ففي أعماقه تتعايش عاطفتان متناقضتان تجاهها: حينما تغيب عن البيت طويلا ينتابه شعور بالوحشة والانقباض وحينما تحضر يسكنه شعور بالملل والرغبة بالفرار. كأنها أصبحت له في آن سجنا وآصرة بالعالم الخارجي. ماذا سيعني كل هؤلاء الجيران له  بدونها؟

«هل تعرف أن سوزان أصبح عندها بوي فْرَينْد؟ّ» تخبره بطريقة محفزة للفضول.

«في هذا العمر؟»

«نعم، لكنها تقول إنها تشعر بالحرج معه أمام أحفادها.»

«لماذا؟»

«سمعه ضعيف جدا.»

ومنذ ذلك الوقت دخل “أدي” صديق سوزان الجديد حيز تفكيره، وراح يتابع قدومه المتعثر إلى البناية، حاملا أحيانا باقة ورد في يد وفي اليد الأخرى عصاه.

ارتفع صوت المسجل من غرفة الجلوس، صادحا بأغان رومانسية شهيرة.  تنتمي إلى عصور بعيدة لا يعرف عنها شيئا. كانت لوسي حريصة على تعريفه بأسماء المغنين الذين لم يسمع عنهم أي شيء من قبل: فرانك سيناترا، ألا فيتزجرالد، جيم ريفز. بل كتبت له كلمات الأغاني. تقول ضاحكة«عليك أن تحفظها وتغنيها لي.»

لكن ذاكرته هربت من تلك اللحظة لتنقله إلى لحظة أخرى: ها هو صدى الأغاني نفسه يتسرب من السقف، من وقت آخر يعود إلى ما قبل ثلاثة أيام، حينما حضر جون إلى بيت لوسي، ولا بد أنها وضعت الكاسيت نفسه بعد تناولهما العشاء: إنهما الآن يرقصان ككائنين تلامسا للتو، مخلصين تماما لسحر اللحظة: بلا ماض أو مستقبل يشدهما. يصيخ السمع أكثر فأكثر، تتحرك أقدامهما على إيقاع الموسيقى البطيء، ولا بد أن الأضواء كانت خافتة وذراعاه التفتا حول ظهرها، في وقت تشابكت أصابع يديها ببعضها وراء رقبته.

استلقى على السرير، ومن خلف عينيه المغمضتين برزت ملامح وجهه غريبة عليه. كأن قناعا تلبسه شبيها بوجه جون. قالت له نوال ليلة السبت الماضي في الفراش: «أنت متوتر جدا اليوم. هل هناك سبب لذلك؟» دمدم متبرما من السؤال وهو يدير ظهره إليها: ” أبدا. كل شيء على ما يرام”. قالت ضاحكة:«أنا أعرف سبب انزعاجك. حممت وئام اليوم بدون أن أحممك.» صاح محتجا: «أنا مرتاح تماما. إنها أوهامك فقط.» ولم تمض سوى دقائق حتى انقطع  صوتها تاركة إياه  لهواجسه. ظلت عيناه مفتوحتين في العتمة المطبقة بينما راحت أذناه تتسللان بدأب إلى السقف. في لحظة مجهولة، جاءته صرخة نسائية مختنقة بعد أن تفتتت عبر الاسمنت والفولاذ والحجر إلى همس مسحوق، ففجرت في أنفاسه غصة عميقة.

ارتفع صوتها مناغيا من الحجرة الأخرى: «هازم، كَمْ أون، وَيرْ آرْ يو؟» وحينما كررت جملتها ثانية بنبرة أقوى حاول أن يرفع جسده من السرير لكن بدون جدوى. تسرب إليه خدر معاكس تماما في قوته للرغبة المتأججة في أنفاسه. راح يردد كلمات متقطعة بإنجليزية متعثرة: «انتظري قليلا، أنا في طريقي إليك». لكن صوت لوسي ظل يتردد بنبرة متغنجة لحوحة: «كَمْ أونْ، هازم… كم أون».

التفت إلى ساعة التنبيه الموضوعة فوق الكومودينو. كانت الدقائق تثب فوق سطحها بخفة متناهية. تسرب إليه شعور بالاضطراب جعله أكثر عجزا عن الحركة. لم تبق أمامه سوى ساعة قبل عودة نوال. ولا بد أن عليه إخبار الجارة المتلهفة إلى ظهوره بهذه الحقيقة.

جاءته ثلاث طرقات خافتة على الباب، ومن ورائه تسرب صوتها عذبا:

«هل يمكنني الدخول؟»

«تفضلي.»

تملكه دوار وهو يراقب انفتاح الباب ببطء. كان الضوء المتسع خلفها يجعله عاجزا  أكثر فأكثر على تمييز ملامحها  من موقعه، حيث غطت الستارة الزرقاء نافذة الحجرة  تماما. تفككت الأشياء حوله إلى كسر عائمة في فضاء دوار. انعكست فوق سطح المرآة الملصقة بواجهة خزانة الملابس شرارة ضوء، للحظة واحدة، مكنته من مشاهدة صورته، لكنها اختفت وحلت محلها صورة جون. أغمض عينيه. غمره صوت المطر الناعم الرتيب القادم من وراء النافذة متناوبا  مع أصوات  نسائية قادمة من أزمنة أخرى. اكتشف في تلك اللحظة أن أذنيه تمكنتا من الوصول إلى شقق أخرى، مخترقتين قوانين الطبيعة. ها هو يلتقط شهقات الحب واحدة واحدة. وحينما فتح عينيه تفككت صورة لوسي أثناء اقترابها من السرير إلى صور أخرى. إنه الآن محاصر بفتيات المبنى جميعا.

 

 

(3)

لا بد أنه غفا قليلا. بدت الغرفة هذه المرة أمامه شديدة الترتيب. كان كل شيء في مكانه. ولم يبق أي أثر لجارته، بينما تشبع الهواء برائحة الحبق الأليفة. تلمس استلقاء نوال بجانبه. ومن دون الالتفات إليها رآها تمعن النظر إليه. شعر بالضيق. كان في تلك اللحظات يراها وكأنها معلقة بين السماء والأرض. لكنه بدلا من مد يده إليها مطمْئنا مضى أكثر فأكثر في إغماض عينيه والتزام الصمت.

برغم تفوقها عليه في كل شيء تفتقد نوال البوصلة التي تحدد بها اتجاهها. وكأن وراء هذه الطاقة روح طفلة تنتظر من يوجهها. ففي كل ما تقوم به من إنجازات باهرة هناك هاجس مقلق يحركها: هل ستحظى بإعجابه؟

«كيف كان العرض اليوم؟» قالت  وهي تداعب صلعته الواسعة. كاد يقول لها: «أي عرض؟» لكن ذاكرته استرجعت شريط المفاجآت التي ظلت زوجته تُعدّها له.

قالت نوال: «ابق في الفراش إذا أحببت. أنا سأذهب إلى المدرسة». وقبل أن تنهض من السرير أضافت بنبرة معاتبة: «أنا بدأت أغار من لوسي». قال بدون أن يفتح عينيه: «لكنك هي.»

«أنا أعني لوسي الحقيقية.»

«هل هناك واحدة حقيقية وأخرى زائفة؟» تمتم بصوت واطئ.

جاءه صوتها وهي تتطلع في المرآة وتمرر قلم الفحم فوق أهدابها:«هل تعرف أنهما انفصلا؟»

«مَن؟»

«لوسي وجون.»

«هل تعنين أنه لن يأتي لزيارتها كل نهاية أسبوع؟»

«العلاقة التي بينهما أعقد مما تتصور.»

قالت لحظة مغادرتها غرفة النوم بنبرة حازمة: «لا أظن أن لوسي ستزورك بعد اليوم… إنها حزينة جدا على جون». ومن فوق المرآة التقط حازم مشهدا خاطفا بعث الاضطراب في أوصاله:  كانت نوال تمسح الدموع  بخفة عن عينيها.

 

اقرأ ايضاً