في ضيافة الشيخ معروف: لا مكان آمن في بغداد إلا مقابرها

2٬168

وصلني قبل أيام قليلة خبر وفاة خالي سعدون، ومن دون أن يوصي بأي شيء قبل رحيله، عرف أفراد أسرته وأقاربه ما هي أمنيته: أن يُدفن في تلك البقعة الصغيرة التي بنى دكة صغيرة عليها تقع بين قبر ابنه البكر الذي قُتل غدرا قبل عقد تقريبا، وأخته الكبرى التي غادرت الحياة في أشهر الحرب الأخيرة مع إيران.

أشك أن خالي يعرف أي شيء عن معروف الكرخي أكثر من كونه وجها بارزا ارتبطت المقبرة، التي تضم عظام أقاربه باسمه، أو قد يكون صاحب الأرض نفسها، فهو لم يقرأ في حياته كتابا، ولم يُشغل ذهنه بفكرة خارج حاجاته الأولية، وتجاوزَها قليلا إلى إشباع متع حسية كان يتنافس فيها مع أبنائه الذكور أو يُشركهم فيها، وتظل مادة أولية لأحاديثه في سنواته الأخيرة، مع تكالب الأمراض على جسده.

كل ما يعرفه أن أقاربه من جهة الأم امتلكوا حقا بالأقدمية للإقامة الدائمة في هذا المربع الصغير الذي لا يزيد عن 100 متر مربع من مقبرة الشيخ معروف؛ النساء جلبن أزواجهن معهن  والرجال جلبوا نساءهم معهم.

ومع اختناق المقبرة تماما بساكنيها بعد كل الحروب التي استهلكت ماكنتها دماء أعداد كبيرة من سكان بغداد (حالهم حال الجميع في شتى أنحاء العراق)، أصبح ممكنا فقط للمقيمين القدامى استقبال أبنائهم وأحفادهم ليخففوا عنهم وحشة الوحدة.

فحين كان خالي سعدون يحضر خلال السنتين الأخيرتين إلى المقبرة قبل حلول فجر أول أيام العيد، كان يرافقه جيل جديد من الشباب الذين هم أبناء أخوته وأخواته وأحفاد خالاته. ومن الدكة التي أصبحت ملكيته الوحيدة (دون طابو) في هذا المكان الموحش المترب، الخالي من أي أثر للأشجار، يستطيع أن يحدد هوية كل قبر حال إشعال الزوار الشموع حول ذويهم الراحلين. فعلى بعد أمتار  قليلة عنه ترقد أمه التي دُفن جثمانها فوق رفات أبيها، السيد حسن، المعروف باتباعه إحدى الطرق الصوفية المولعة بإقامة الذكر، غير أن الشاهدة التي بجانب ذلك القبر لا تحمل سوى اسم جدتي التي ترملت وهي دون سن الأربعين، ولم تعرف من سنوات حياتها الباقية سوى مسؤولية أبنائها الستة. ولعل هذه الحالة هي القاعدة، فالسيد حسن نفسه يقيم فوق رفات أبيه أو أمه، وهلم جرا.

لا أظن  أن خالي سعدون سمع بأبيات المعري التي كأنها تصف ما كان يجري خلال عقود وقرون من حياة هذه البقعة الواقعة في صوب الكرخ:

ربَّ لحدٍ قد صار لحداً مراراً   ضاحكٍ من تزاحم الأضداد

ودفين على بقايا دفين        في طويل الأزمان والآباد

ينتابني شعور قوي بأن خالي كان يؤمن (وقد يكون لا شعوريا)، بشكل ما من أشكال الأنيمية، فالموتى يبقون أحياء بشكل آخر، في قبورهم، ولذلك هو لا يجد حرجا أن يشعر بالألفة حين يسلّم على أخوته وأبناء خالاته ويتبادل الطرائف عما فعلوه خلال حياتهم. لعل الخيط الفاصل بين الحياة والموت بالنسبة له ليس سوى في الشكل فقط، أما مضمونهما فواحد، وقد يكون ذلك وراء مخاطراته الكثيرة وجرأته ونزقه التي كانت تضعه من وقت إلى آخر أمام احتمال موته.

في اليوم الذي أعقب مقتل ابنه، اتصل بي هاتفيا، ليخبرني بالفجيعة، ولعلي كنت تحت الصدمة أكثر منه، إذ سمعت تسجيلا لقراءة سورة ياسين يتسلل عبر الهاتف، لكنه انتقل في مكالمته إلى مواضيع عادية أخرى لا صلة لها بما كان يجري في بيته آنذاك.

هذه اللامبالاة أمام الموت جعلته يخوض سلسلة عمليات جراحية خطيرة، لكنه ظل يمر من واحدة إلى أخرى بسلام، فيعود إلى أرجيلته وبيرته المثلجة وحكاياته الممتعة عما جرى له خلال سنوات حياته، بعد إعادة ترتيبها وجعلها مسلية لضيوفه، لكنه هذه المرة وبامتلاء مستشفيات بغداد بالمصابين بفيروس كورونا، ما كان بالإمكان أن يحصل مثل المرات السابقة على أي  من العناية الصحية.

لا أظن أن خالي يعرف أن معروف الكرخي توفي عام 815 ميلادية، وأن ضريحه أصبح جزءا من مسجد بناه الخليفة العباسي الناصر لدين الله سنة 1225 ميلادية، وأعيد تجديده مرارا، فهو من أوائل رواد التصوف البغدادي، وأصبح قطبا بعد وفاة شيخه، داود الطائي.

يذكر المؤرخون أنه ذات مرة كان جالسا على نهر دجلة فمر زورق يحمل عددا من الشباب الذين كانوا يغنون ويشربون الخمرة، فطلب أصحابه أن يدعو عليهم فرفع يديه إلى السماء، وقال: “إلهي وسيدي، كما فرّحتهم في الدنيا أسألك أن تفرحهم في الآخرة!” فقال له أصحابه “إنما قلنا لك: ادع عليهم” فقال “إذا فرَّحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا، ولم يُضركم شيء”.

ولو أنني أخبرته بهذه الحكاية لقال ضاحكا: أنا كنت في ذلك الزورق.

عندما توفي معروف الكرخي دُفن في هذه المقبرة التي كانت تحمل اسما آخر: الشوينزية أو باب الدير العتيقة ، لكن مع مرور الوقت ولتبجيل الناس لهذا الولي أخذت المقبرة اسمه، وهذه حال أكثر المقابر في بغداد، لكل منها شيخ جليل يحمي سكانها.

لكن مقبرة الشيخ معروف، ضمت إليها رفات فقيه ومتصوف كبير آخر ما زال أتباعه منتشرين في العالم الإسلامي، وما زالت كتبه العديدة متداولة؛ إنه الشيخ الجنيد البغدادي المتوفى عام  910 ميلادية، والذي يعتبر من أكثر المتصوفة المسلمين الذين أقاموا صرحهم الفكري على القرآن والسنة النبوية وهذا ما جعله موضع تقدير كل الملل المحافظة منها والمتحررة.

هنا في هذه الزاوية المنسية من بغداد أقيم مسجد فوق ضريحه، تبلغ مساحته 2500 متر مربع، ويتسع لمائة مصل، وتقام فيه صلاة الجمعة وصلاة العيدين والصلوات الخمس.

إذن فأنت الآن لست في صحبة أخوتك وأخواتك وابنك القتيل وأبناء خالاتك فحسب بل في صحبة شيخين جليلين يخففان بمسجديهما اللذين يقفان فوق أعلى نقطة في المقبرة وحشة المكان وسكونه.

كم تبدو هذه المقبرة من الأماكن القليلة التي لم يلحقها الخراب لا على يد الغزاة ولا على يد الحكام المحليين الذي دمروا كل ما يمت بصلة لهذه المدينة التي أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ببنائها عاصمة له عام 762 ميلادية.

في أول الأمر، اختيرت ضفة الكرخ الواقعة إلى غرب نهر دجلة عاصمة لهذه الدولة الناشئة، فبني سور حولها ثم تدريجيا امتد  البناء إلى الجانب الشرقي للنهر: صوب الرصافة.

وكأنه من تلك النقطة الزمنية البعيدة، رمى أبو جعفر المنصور عبر اختيار موقع عاصمته حزمة من الأقدار المخبأة لأجيال، ترجّعت أصداؤها عام 1991، حين تعرضت بغداد لقصف جوي ، مدة أربعين يوما، وخلالها تجاوزت القنابل التي أُسقِطَت عليها ما أُسقِط خلال الحرب العالمية الثانية.

لا بد أن خالي سعدون أحبّ تلك المنارة المقرنصة الغريبة في معمارها التي تضم في قبوها ضريح زمرد خاتون أم الخليفة العباسي الرابع والثلاثين الناصر لدين الله، فهي جمعت المال من أوقاف المدارس القائمة آنذاك وبنت قبل وفاتها عام 1202 ميلادية، هذا الصرح الرائع بالقرب من مسجد معروف الكرخي.

هل حققت زمرد خاتون الخلود لنفسها عبر هذا المعلم أم خلود هذه المقبرة؟ لا بد أن من يراه اليوم دون معرفة لتاريخه سيشك بأن هناك فعلا فاصلة زمنية لا تقاس بالسنين أو العقود بل يقارب الألف سنة بين تاريخ اكتماله ويومنا الحالي.

كم يُشبه سكان ذلك المربع الصغير في مقبرة الشيخ معروف، بنزواتهم وغضبهم وحبهم وأحلامهم، مدينتهم التي عاشوا هم وأسلافهم فيها عبر القرون.

فهذه المدينة جمعت كل التناقضات في حناياها: في طقسها وقسوتها وحنانها وأفراحها وأحزانها.

هل هم مراياها أم هي مرآتهم؟

أقلّب أمامي صور بعضهم في مراحل مختلفة من حياتهم: وهم أطفال يحملون لعبهم الصغيرة، وهم صبية، وهم شباب، ووراء كل صورة هناك حكايات تتردد أصداؤها في رؤوس أبنائهم اليوم، وكأن الحياة تعود في دوراتها عبرهم، وبفضل هذه الجذور يبقى معروف الكرخي والجنيد البغدادي حاملَين في تلك البقعة المنسية مفتاح الباب الموصل للفردوس.

كم هم محظوظون سكان مقبرة الشيخ معروف. كأنها المكان الوحيد الذي ظل آمنا من الدمار في بغداد، جنبا إلى جنب، مع مقابرها الأخرى على طرفي نهر دجلة المتلوي والمتباطئ في اندفاعه صوب البحر.

اقرأ ايضاً