جاذبية الصفر” للؤي عبد الإله ملمح أسطوري في ملحمة عراقية

تمكن المؤلف من توثيق أحداث بلده والمحيط بسلاسة من دون أن تبدو الحقائق مقحمة في النص أو تحوله إلى سرد جاف

على رغم أن الحرب والاغتراب يلعبان دور الخيط الذي يشد فصول الرواية بقوة إلا أنها عبارة عن 28 طبقاً يتنوع محتواها وأسلوب صياغتها وطريقة سردها وإيقاعها ودرجة التوتر بين الشخصيات التي تتماشى بتوازن محسوب مع كثافة الأحداث التي يشهدها العالم الخارجي من حولهم.

933
اندبندنت عربية

الخميس 27 أبريل 2023 12:33
داليا محمد (صحفية)

في مصادفة قدرية عرضية قد لا تبدو ذات أهمية، قام مسافر عائد من برلين إلى لندن بأخذ حقيبة شخص آخر كان معه في الحافلة نفسها، لكن هذه الحقيبة لم تكن تحتوي على أموال أو مجوهرات ثمينة، وإنما لوازم سفر بسيطة ومجموعة من المظاريف التي حولتها من مجرد حقيبة رثة إلى شيء يشبه صندوق الدنيا بسحره وتنوع محتواه، يفتتح الروائي لؤي عبد الإله روايته الثانية “جاذبية الصفر” الصادرة حديثاً عن دار دلمون الجديدة بهذه الحادثة التي تأخذنا مثل شريط سينمائي إلى صميم حياة صاحب تلك المظاريف وهي عبارة عن رسائل موجهة إلى صديق قديم، والتفاعلات بينهما ومع شخصيات في دائرتهما المقربة ضمن مجموعة من المنفيين العراقيين في بريطانيا الآتين من خلفيات متنوعة وتمتد تجاربهم على أجيال عدة، ويكونون النافذة التي نطل منها على أحداث كبرى غيرت حال العراق والعالم بأسره إلى الأبد.
شخصيات مرسومة بعناية
في هذه الرواية التي تركز على العشرية الأخيرة من القرن الماضي والأحداث الجسيمة التي شهدتها، من غزو العراق للكويت عام 1990 والحرب الشاملة المدمرة التي شنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها بعد ذلك وسقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار المعسكر الاشتراكي، نرى كل هذه التغيرات من خلال تفاعلات مجموعة من العراقيين الذين جاءوا إلى لندن بحثاً عن وطن يكون نقطة ارتكاز بالنسبة إليهم وحاضناً لأحلامهم بالعدل والحرية والمساواة التي كانت على ما يبدو أثقل من أن يحملها العراق، لكنهم وجدوا أنفسهم يطوفون منعدمي الجاذبية في هذا الجزء من العالم بينما يشدهم ثقل الطفولة والشباب والصبا والذكريات التي عاشوها في فترات مختلفة منذ وجودهم في هذه الدنيا وحتى مغادرة الوطن. ندخل حياة هذه الشخصيات على لسان “الدكتور يوسف”، وهو الاسم الذي اختاره ناقل محتوى هذه المظاريف لكاتبها، الرجل الدمث صاحب البيت الأشبه بالملجأ والملاذ الآمن الذي يسجل حوارات تدور بينه وبين “المرسل إليه” الذي تعمد الكاتب عدم كشف هويته بصراحة، وهو فنان تشكيلي مبدع تجمعه صداقة من أيام الطفولة المشتركة بـ “الدكتور يوسف” على رغم التناقض بين الاثنين، فأحدهما شديد الانفتاح على العالم الخارجي والآخر انطوائي منغلق على نفسه. ربما يكون “أسعد” عاشق الخمرة وصاحب الدفتر الأحمر المخصص للنكات أكثر الأبطال تأثراً على المستوى الشخصي من الأحداث العالمية، على رغم أنه يبدو أقلهم اكتراثاً ومتابعة للأخبار، لكن أثر الكحول السريع عليه الذي يجعله يمر بمراحل مثل تحطيم الأيقونات يبين لنا مقدار الأذية التي تعرض لها وروعة الحكمة الفطرية التي يتمتع بها مثل إيمانه بأن “كل آلامنا وأفراحنا قائمة على أفكار”. تتولى “هاجر” مسؤولية التمثيل الأنثوي المركزي في العمل، بسحرها وفتنتها وغموض ماضيها، وعصابيتها ومزاجيتها وشغبها ولا ترى جدوى في الماضي، بل هي مقتنعة بضرورة استشارة طبيب نفساني للتخلص منه. “الدكتورة عالية” رحبة الصدر وحسنة المعشر، أشبه بحاضنة تجمع في منزلها هؤلاء المهاجرين الذين كان عبد الإله حريصاً في انتقاء أسمائهم بحيث لا تلمح إلى أي انتماء طائفي أو قومي والموازنة بين نسبة الحضور الأنثوي والذكوري بين الأبطال وتمثيل أجيال مختلفة قادرة على عكس مراحل زمنية ممتدة على مدار حوالى 80 عاماً. لدينا أيضاً “ماهر” الذي بدا التوتر في علاقته مع “جليل” الثوري واضحاً منذ بداية الرواية، “ولا يطيق أحدهما الآخر” على رغم انتمائهما إلى مجمع الآلهة الإغريقية فوق جبل الأوليمبس التي لا تبذل جهداً لكسب حب البشر، بل على الآخرين أن يبذلوا المستحيل لكسب رضاها. يتم تمثيل الجيل الأقدم بشخصية “عمّو”، قديس من عصر آخر كرس حياته كلها للنضال ويشعر أن كل الرفاق في العالم مسؤولون عن الهزيمة وهو أولهم، وعلى رغم امتلاكه نظرية عن وجود كون متواز آخر بجاذبية أقل مما هي على كوكبنا الأرض تكون فيه الحياة أرحم إلا أن اكتئابه مما يجري حوله لم يحل بينه وبين دخوله سرداباً من الإحباط الذي لا يرحم وتبدد الوهم الذي تشكل لديه ولدى أبناء جيله بعد انتهاء حرب فيتنام بأنها آخر حرب مدمرة ستشنها البشرية ضد بعضها. عندما نتحدث عن عمل يتناول حرب الخليج فبالتأكيد سيرد فيه ذكر الرئيس العراقي السابق صدام حسين، لكن المؤلف هنا حوله إلى شخصية قصصية مثيرة للاهتمام نتعرف على طفولته وعمله في رعي الخراف وبيع الفاكهة لراكبي قطار الموصل – بغداد والظروف التي حولته إلى ذلك الديكتاتور الذي بدا لسنين طويلة عصياً حتى على الموت، ويجري الكاتب مقاربة بينه وبين ستالين الذي سيصبح لاحقاً مثله الأعلى والتشابه الكبير بين الرجلين اللذين أفلتا من قدر رسمه لهما وليا أمريهما ويجمعهما شعور بأن وجودهما لم يكن مرغوباً به وهما صغيران.
حوار سردي 
باستثناء الفصل التمهيدي الأول حيث يطلعنا راو يعتمد صيغة المتكلم فقط على حادثة تبديل الحقائب ونيته كشف محتويات المظاريف للقارئ، يستخدم عبد الإله أسلوباً متفرداً في سرد بقية فصول الرواية الثمانية والعشرين، حيث اعتمد على الحوار بين كاتب الرسائل والمرسل إليه وحواراتهما مع بقية الشخصيات فتتعاقب ضمائر المتكلم والمخاطب. والغائب على نقل القصة إلينا، مكنه هذا التكنيك من جعل الراوي شخصية أساسية قائمة بحد ذاتها لا يقتصر وجودها على استعراض ما تعيشه الشخصيات الأخرى، إضافة إلى ذلك، ساعد الأسلوب في تعريفنا على كل بطل من منظور بقية الأبطال وعدم الاكتفاء برسمها بريشة الراوي فقط، عندما ترى “أسعد” مثلاً بعيني “الدكتورة عالية” تجده الجوكر المفضل الذي لا تحلو من دونه الجلسات ويستخرج ألطف ما في نفوس الحاضرين، لكنه من وجهة نظر والده ابن عاق يعطي الأولوية لتمضية الوقت مع “الأصدقاء” سكارى الحانات، ولا يكف عن مناكفته وإحراجه أمام الآخرين ويستحق حتى كتابة قصيدة هجاء عنه، كذلك يبرز الحس الفكاهي للكاتب في دعابات متناثرة عبر صفحات الرواية الـ 516 لتؤكد لنا القدرة البشرية على تحويل الظروف السوداء إلى كوميديا تخفف من وطأتها وقتامتها، مثل “بدا لي كأنه مشرد في طوره الأول، إذ ما زال يرتدي معطفاً لم تبلَ خيوطه تماماً، بينما لم تزل هيئته توحي بأنه لم يتخذ، بعد، الشارع مسكناً ثابتاً له”، إضافة إلى عبارات تبقى عالقة في ذاكرة القارئ بفضل التشبيهات الاستثنائية التي تحتويها مثل “ظلت الفيديوهات الحربية القصيرة تؤدي هذا الدور بتصويرها قاذفات أنيقة لحظة إلقائها قنابل على هيئة سكاكر من دون معرفة النقطة المستهدَفة، أو صواريخ تسبح بمرح كالدلافين في الهواء” أو بسبب دلالاتها التي تجبرك على التأمل فيها مثل “لم يتعلم [صدام] اليوم السباحة، ولكنه تعلم كيف ألا يغرق” و”لا أستبعد أن يكون بعضهم شارك في تلك الاعتصامات أمام السفارة [الأميركية] خلال سنوات الحرب الفيتنامية قبل عشرين سنة، وها هم يُخرجون مرة أخرى لافتاتهم التي دفنوها تحت أسرة أحفادهم ليعودوا إلى المبنى نفسه”. على رغم أن الحرب والاغتراب يلعبان دور الخيط الذي يشد فصول الرواية بقوة إلا أنها عبارة عن 28 طبقاً يتنوع محتواها وأسلوب صياغتها وطريقة سردها وإيقاعها ودرجة التوتر بين الشخصيات التي تتماشى بتوازن محسوب مع كثافة الأحداث التي يشهدها العالم الخارجي من حولهم. ومثل الافتتاحية السينمائية للرواية، وصعود التوتر الدارمي فيها بشكل تدريجي وصل إلى درجة تقطع الأنفاس في الفصل الخامس والعشرين ثم انخفاضه بانسيابية إلى أن تبلغ الحكاية خاتمتها التي تكشف لجميع أبطالها أن الحياة هي ببساطة فيلم، وظف عبد الإله تقنية الفلاش باك لمعرفة ماضي شخصياته بخاصة في الفصلين الثاني والرابع ليطلعنا على العلاقة التي نشأت بين كاتب الرسائل والمرسل إليه منذ المرحلة الابتدائية.
أمانة تاريخية
غالباً ما يؤخذ على الرواية التاريخية أو التي تجري أحداثها في حقبة محددة أنها تفتقر إلى الدقة، حيث يقوم المؤلف بتحريف الأحداث لدعم حبكته الروائية أو المسار الذي تسلكه شخصياته وإعمال خياله بالطريقة التي تخدم مادته على أفضل وجه، لكن ما فعله عبد الإله في “جاذبية الصفر” كان العكس تماماً، حيث وظف الحدوتة الإنسانية في الرواية لتوثيق وقائع تاريخية ونقاط التحول العالمية التي شهدتها شخصياتها. بفضل الإطار الذي اختاره الكاتب ويتعايش ضمنه أبطاله مع الأحداث من خلال اطلاعهم على الأخبار عبر الإذاعة أو شاشة التلفزيون أو مناقشتهم ما كانت تنشره الصحف في الفترة التي يتناولها الكتاب، تمكن المؤلف من توثيق الأحداث بسلاسة بارعة من دون أن تبدو الحقائق مقحمة في النص أو تحوله إلى سرد جاف للمعلومات، ولم يكتف بذكر العناوين العريضة لوقائع أثرت في شخصياته وفي العالم كله على حد سواء، هنا ربما تتجلى الخلفية الصحافية للمؤلف التي تبرز الجهد الهائل المبذول في مراجعة المصادر والالتزام بالأمانة والدقة وسرد الأحداث بترتيبها الزمني الصحيح والاهتمام حتى بأدق التفاصيل مثل أحوال الطقس وفصول السنة وتوثيقها بحقائق وأرقام أو تصريحات من أشخاص كانوا في سدة المسؤولية وقت وقوعها من الناطق باسم البيت الأبيض إلى وزير خارجية بريطانيا مروراً بمن كانوا شهود عيان عليها، مثل طيارين أسهموا في الغارات الجوية أو القس جيسي جاكسون الذي ساعد في إطلاق سراح بعض الأميركيين الذين كانوا محتجزين لدى السلطات العراقية أو قائد قوات التحالف الدولي في الكويت ضد القوات العراقية.
لمسة أسطورية
يبدو حضور الأسطورة في “جاذبية الصفر” مثل ضيف هادئ يعرف تماماً متى يجب عليه أن يتحدث وينتقي بعناية ما يريد قوله، فهو لا يريد أن يسيطر وجوده ويطغى ولا أن تكون مداخلاته لمجرد المشاركة في الحديث. من مقولة هوميروس التي قدم بها عبد الإله لروايته “الآلهة تحوك النحس لشعب ما كي تملك الأجيال اللاحقة شيئاً ما تغني عنه” مروراً بالمقارنات بين الآلهة الأرضية التي تمتاز بخصلة التخلص ممن يسعى إلى التنافس معها، وتلك الأسطورية التي تتشارك معها في غضبها وحقدها وغيرتها وانقسامها بين مساندة الغازي ودعم الشعب المحاصر وصولاً إلى تشبيه العراق بالغابة في ملحمة “جلجامش” والعائلة المالكة بحارس الغابة الذي قتله “أنكيدو” في أحداث ثورة 14 يوليو (تموز) عام 1958 وإسقاط شخصيتي “جلجامش” و”أنكيدو” على الضابطين الرئيسين في الحركة. حتى غلاف الكتاب للفنان العراقي قاسم الساعدي يشبه لوحاً مسمارياً طينياً قديماً أو ختماً بابلياً أو رسومات جدارية توثق أسطورة ما بنمنماته وتفاصيله الدقيقة وأشكاله الهندسية الغريبة. قد يبدو التاريخ الدقيق والأسطورة وقصص الاغتراب الشخصية عناصر لا يمكن جمعها في عمل واحد، لكن ها نحن أمام هذه المنسوجة الخلابة متعددة الألوان والخامات التي حاكها عبد الإله بمهارة “أراخني” ربة الأشغال اليدوية في الأساطير الإغريقية. لؤي عبد الإله، من مواليد بغداد عام 1949، حاصل على بكالوريوس في الرياضيات من جامعة بغداد. عمل في التعليم قبل مغادرة العراق في منتصف السبعينيات متوجهاً إلى الجزائر للعمل في التدريس ضمن البعثة العراقية. استقر في لندن سنة 1985 حيث عمل ما بين الترجمة والتعليم والكتابة. من أعماله: العبور إلى الضفة الأخرى (مجموعة قصصية) عام 1992. أحلام الفيديو (مجموعة قصصية) عام 1996. رمية زهر (مجموعة قصصية) عام 1999. كوميديا الحب الإلهي (رواية) عام 2008. لعبة الأقنعة (مجموعة قصصية) عام 2015.
اقرأ ايضاً