العراق.. الرقص على حافة الهاوية؟

2٬360

صحيفة الشرق الأوسط

الخميـس 06 ذو الحجـة 1424 هـ 29 يناير 2004 العدد 9193

كم كان مشهد دجلة مثيراً للفرح وأنا أراقبه يتهادى فخوراً بمياهه التي تقلصت عنه لفترة طويلة. يقول الكثير ممن التقيتهم في بغداد، إنها السنة الأولى التي يرون فيها النهر الخالد مترعاً بهذا الشكل، فأعينهم اعتادت على مشاهدة جزر تغطي قاعه دائماً في الوقت الذي راحت المياه تنسحب عن ضفتيه مما كان يسمح لهم أن يخوضوا وسط مياهه بسهولة في هذا الوقت من السنة. كأن مشروع «وادي الرافدين»، كان على وشك الموت، إذ بفضل استمرار تدفق الفرات ودجلة فوق أرضه تواصلت الحضارات منذ أكثر من عشرة آلاف عام، وفوقها تم اختراع الكتابة والشعر والعجلة والقانون والموسيقى وغيرها.

يقول بعض الاصدقاء في بغداد إن سياسة تركيا في بناء سدود كثيرة فوق منابع دجلة والفرات كانت السبب الأساس وراء هذا الانخفاض المروع في نسبة مياههما. وإذا كان هذا الزعم صحيحاً، فإنه من كان يستطيع تغيير هذا الإصرار التركي عن مجراه سوى الولايات المتحدة؟ أتذكر ان المسؤولين الأتراك قبل أكثر من عقد، طرحوا على نظرائهم العراقيين فكرة مقايضة الماء مقابل النفط العراقي!.

قد يكون لازماً الاعتراف بهذه الحقيقة المريرة: مشروع وادي الرافدين رهينة بيد مَن يمتلك منابع دجلة والفرات، ولا توجد قوة في العالم تستطيع أن تفرض على تركيا احترام القانون الدولي المتعلق بالمياه سوى الولايات المتحدة، فالسدود ما زالت تبنى على منابع هذين النهرين بمساعدة أوروبية. ويؤكد بعض البغداديين (بدون وجود دليل قاطع على ذلك)، أن لون الماء الذي تدفق في الفترة الأخيرة، يشير إلى خروجه من قماقم السدود التي ظلت تخنق رافدي العراق.

لم يكن استرجاع دجلة والفرات لعافيتهما هو الإنجاز الإيجابي الوحيد من الحرب، أو تبنّي الولايات المتحدة التغيير السياسي في العراق ورعايته باتجاه نظام ديمقراطي، بل انها كانت الطرف الذي أجبر الحزبين الكرديين المسيطرين على المنطقة الكردية لإيقاف التناحر الدموي بينهما، وبدلا من المعارك التي استهلكت آلاف الضحايا من الطرفين، استطاعت الولايات المتحدة أن تجبرهما على التعايش والتنسيق في ما بينهما لصالح الأكراد عبر اتفاقية وقِّعت بينهما سنة 1998.

واليوم، وبعد الآمال التي زخرت في نفوس الكثير من العراقيين المقيمين في المنفى لاحتلال الأكراد موقعاً فعالاً وأساسياً في بناء الوطن، راح بعض زعماء الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، يطرحون موضوعة الأرض الكردية مقابل الأرض العربية، بدلا من الحديث عن ارض عراقية وشعب عراقي، ثم الحديث، لا عن الاعتماد على إحصاء يجرى اليوم لمدن العراق وقراه لتحديد أي فئة تشكل أكثرية قومية جارفة تتولى إدارة الحكم الذاتي، بل على إحصاء عام 1957.

بالمقابل، لا يجد المسؤولون الأكراد أي غضاضة في زيادة عدد مقراتهم في بغداد وجلب كوادرهم إليها، ولمَ لا طالما أن العراق أصبح ملكاً لهم مثلما هو ملك لجميع طوائفه وقومياته؟ كم شعرت بالارتياح عند اختيار هوشيار زيباري وزيراً للخارجية، فلأول مرة شعرت أن هناك وزيراً يمثلني منذ فترة طويلة، ولا بد أن هذا الشعور ساور الكثير من العراقيين العرب. الآن بدأ التمترس حول الفيدرالية القومية للكثير من الزعماء الأكراد مقابل الفيدرالية الإدارية التي يقف وراءها بعض الزعماء الأكراد جنباً إلى جنب مع الزعماء العراقيين. المسؤولون الأميركيون يقفون إلى جانب الفيدرالية الإدارية، فإذا كان الأكراد طرفاً فعالاً في تحديد مستقبل العراق ككل، ومن بينهم قد يصل رؤساء جمهورية أو رؤساء وزراء، وتصبح مؤسسات الدولة مفتوحة لهم مثلما هي مفتوحة لكل العراقيين الآخرين، فما هو البديل عن ذلك؟، إحلال مبدأ الأرض الكردية والأرض العربية محل الأرض العراقية والانطلاق من نقطة خلافية تهدد بنسف تحقيق حلم العراقيين ببناء مشروع حضاري جديد في وادي الرافدين؟ كيف سيقبل العراقي العربي منح كل ارض العراق للأكراد كي يسكنوا ويعملوا فيها في الوقت الذي لن تكون له حقوق مماثلة على الأرض الكردية؟ بغض النظر عما سيسببه هذا الطرح من مشاعر نفور وخيبة لدى العراقيين غير الأكراد من الأحزاب الكردية المتشددة في طروحاتها القومية هناك خطر التدخل الأجنبي الذي قد يدخل العراق في نفق جديد مملوء بالكوارث. هنا يُطرح السؤال مرة أخرى: مَن سيضمن تحقيق وحدة العراق على أساس مبدأ الفيدرالية السائد في ألمانيا، الذي يمنح الحكومات المحلية سلطات واسعة لتطوير محافظاتها؟ كذلك من سيضمن للأكثرية الصامتة التي ظلت مهمّشة لأكثر من نصف قرن أن تحكم نفسها بنفسها عبر من تنتخبهم بشكل دوري؟.

ما يثير الخوف حالياً، ان معظم الأحزاب التي تشارك في مجلس الحكم الانتقالي، هي ذات آيديولوجيات شمولية تتراوح بين الطروحات القومية والطبقية والدينية. ولم يتم تراجع لأي منها عن أسمائها وأهدافها المعلنة: «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية»، «الحزب الشيوعي العراقي»، «حزب الدعوة الإسلامية»، وغيرها. أليس الأجدر بهذه الأحزاب أن تغير على أقل تقدير أسماءها التي تتضمن افاق نظام استبدادي آخر يضع الانتخابات الأولية جسراً للوصول إلى السلطة ثم إسقاطه لاحقاً.

أفكر في الرحلات التي يقوم بها حالياً السياسي الأميركي المخضرم جيمس بيكر، الذي يحظى باحترام دولي كبير، والذي كان معارضاً للحرب ضد العراق، من أجل إلغاء أو تقليص الديون العراقية التي تبلغ حوالي 120 مليار دولار، فبدون ذلك لن يكون هناك أي إعادة إعمار ممكنة في العراق، فالفوائد لوحدها على هذا المبلغ تساوي حوالي 6 مليارات دولار سنوياً، وإذا كان دخل العراق من النفط لا يتجاوز الفائدة السنوية التي يجب أن يدفعها العراقيون ثمناً لحروب الرئيس السابق، فنحن نعرف حجم المشكلة وخطورتها. مع ذلك، لم يجد أحد أعضاء مجلس الحكم البارزين غضاضة في التصريح بأن لإيران الحق بتعويضات تبلغ 100 مليار دولار، على الرغم من أن النظام الإيراني نفسه كان مسؤولاً أيضاً عن استمرار الحرب بعد انسحاب القوات العراقية من أراضي إيران سنة 1982. هنا يحضرني هذا السؤال: هل يعرف هذا المسؤول العراقي حقاً ما يعنيه هذا الرقم من الناحية الحسابية؟

في يونيو (حزيران) المقبل، ستسلَّم السلطة كاملة للعراقيين، وقد ينسحب الجيش الأميركي من العراق، لكن هل هناك ضمانات لاستمرار تدفق المياه في دجلة والفرات مثلما هي الحال الآن أو في عدم العودة إلى النفق المظلم مرة أخرى: أن تنفتح جبهات القتال بين الأكراد والأكراد، بين العرب والعرب، بين العرب والأكراد، أو بين الأكراد والتركمان؟ على الرغم من أن آفاق الاستفادة من الفرصة التاريخية التي منحها سقوط النظام السابق لبناء دولة حديثة بفضل طاقات العراقيين قائمة، فإن ذلك لا يخفي حقيقة وقوف العراق اليوم على حافة الهاوية. بين التشاؤم والتفاؤل الشديدين مسافة قصيرة جداً مثلما هي الحال بالنسبة لإحدى هاتين الإمكانيتين: الدخول في متاهات الخراب مرة أخرى، أو النجاح في بناء عراق ديمقراطي مزدهر حقاً.

اقرأ ايضاً