بابل.. بين الأسطورة والواقع
في معرض ضخم بالمتحف البريطاني
برج بابل، لوحة زيتية تعود إلى عام 1595 للفنان لوكاس فان فالكنبورتش
لندن: لؤي عبد الإله
ظلت مدينة بابل التي تبعد عن بغداد مسافة 85 كيلومترا إلى جنوبها، مصدراً ملهماً لمخيلة أجيال كثيرة من الفنانين والكتاب والمؤرخين وعلماء الآثار. وهذا ما انعكس في فيض كبير من الأعمال الفنية والفكرية الكبيرة إضافة إلى إنتاج أفلام وموسيقى في عصرنا الحديث تستلهم القصصَ التي رويت عن هذه المدينة المندرسة. لكن المعرض يسعى من خلال عكس ما تم كشفه من أسرار للمدينة المختفية عن الأنظار على يد علماء الآثار خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، جنبا إلى جنب، مع كل ما قيل وكتب من أساطير، أو ما أبدع من رسوم ومنحوتات، إلى تحديد الخيط الفاصل بين الواقع والأسطورة: بين ما نسجته المخيلة البشرية وبين ما أثبت وجوده حقا على أرض الواقع. ويركز المعرض على فترة مهمة من تاريخ بابل. وهذا يبدأ من وصول نبوخذ نصر الثاني إلى الحكم عام 605 قبل الميلاد حتى سقوطها بيد الملك الفارسي داريوس عام 539 قبل الميلاد. وخلال فترة حكم نبوخذ نصر جرى أهم حدث نقلة وانعطافا في مسار التاريخ البشري، وهذا يتمثل باحتلال نبوخذ نصر الثاني لأورشليم عام 587 قبل الميلاد، وما نجم عنه من تدمير لها ونقل ما يقرب من 3000 شخص من سكانها إلى بابل، وهذا ما عرف بالسبي البابلي، لكن نتائج هذا الحدث اللاحقة تمثلت في كتابة التوراة في بابل وأرض وادي الرافدين بشكل عام وما تركته النصوص المستلهمة من حضارة تلك المنطقة من تأثير على التطور البشري اللاحق في مختلف المجالات. فكل ما عرف عن بابل حتى بدء الحفريات بخرائبها منذ منتصف القرن التاسع عشر مستند بالدرجة الأولى إلى ما جاء بالتوراة وما كتبه أولئك الرحالون والمؤرخون الإغريق الذين مروا ببابل أيام عزها.
هذا التركيز على بابل خلال فترة حكم الملك نبوخذ نصر الثاني (605 ـ 562 قبل الميلاد) تمثل في سرد حكايات 100 قطعة أثرية وفنية تمت استعارتها من متحفي باريس وبرلين. وهذه تتضمن جدرانا من قرميد فخاري اكتسب لونا أزرق، وهو مأخوذ من «بوابة عشتار» و«طريق المواكب»، إضافة إلى الكثير من الألواح المكتوبة بالخط المسماري والتي تنقل شيئا ما عن تاريخ تلك الفترة. ومن باريس جاء وصف دقيق لمقاييس الزقورة التي كانت وراء استلهام فكرة برج بابل، والتي جاء ذكرها أولا في سفر التكوين. كما يجد الزائر لوحاً آخر يصف بالتفصيل طقوس بداية العام الجديد والذي كان يجري عادة على طريق المواكب وحوله. كما تمت استعارة بلاطة من السعودية تكشف تفاصيل ما تم تدميره من تماثيل ومنحوتات على يد الإدارة الفارسية بعد سقوط بابل.
من خلال تقسيم المعرض، ذي السقف المرتفع، إلى حجرات أصبح سهلا على الزائر التنقل من موضوع إلى آخر، وعند الاقتراب من المعروضات المعلقة على الجدران ينبعث صوت من الأعلى ليشرح بصوت كاف فقط لمن هو بجانب الجدار تفاصيل ما يراه. وهناك حجرة خاصة بالنبوءات التي أطلقها النبي أرميا بعد سقوط أورشليم يبشر بدمار بابل، وقدوم شعب من الشمال ينفذ هذه المهمة. وليس مستبعدا أنها كتبت بعد وقوع السقوط الفعلي.
لكن أغلب اليهود لم يعودوا إلى ديار آبائهم وأجدادهم بعد أن حررهم الملك الفارسي داريوس وفضلوا العيش في أرض الرافدين. وهناك حجرة خاصة بكل اللوحات التي رسمت منذ القرن السادس عشر لبرج بابل. ويمكننا تلمس الفكرة التي تضمنها سفر التكوين وما كتبه لاحقا بعض المؤرخين العرب مثل المسعودي في كتابه «مروج الذهب»، عن نية سكان بابل بناء برج يصل إلى السماء فبلبل الرب ألسنتهم مما دفعهم يتفرقون في شتى أنحاء الأرض بعد أن عجزوا عن التفاهم بلغة واحدة. لكن علماء الآثار لم يجدوا أي أثر لبرج من هذا النوع، فهو على الأكثر محض وهم، ساعد على بناء أسطورة تتكلم عن منشأ الحضارات! كذلك هناك حجرة مخصصة للحدائق المعلقة التي ذكرها رحالون إغريق. وحسب القصص المسجلة، فإن سبب بنائها هو رغبة نبوخذ نصر بخلق بيئة صناعية لزوجته، مشابهة لتلك البيئة الجبلية التي جاءت منها. وإذا كانت الأدلة متوفرة على تمكن الأكاديين آنذاك من رفع الماء من النهر إلى الأماكن العالية باستخدام تقنيات صاغها العالم الإغريقي أرخميدس لاحقا في نظرية عرفت باسمه، فإن الحدائق لم تترك أيَّ أثر لها. هل لعبت عوامل التخريب منذ سقوط بابل باختفائها تدريجيا وبقائها في الذاكرة والمخيلة حية تتجدد عن ذلك الحب العميق الذي حمله القائد القاسي نبوخذ نصر؟
لكن الحقائق المسلم بصحتها أكثر بكثير من الأوهام: فهناك ألواح تشير إلى تمكن البابليين آنذاك من وضع نظام الساعة، حيث قسمت الساعة إلى ستين دقيقة والدقيقة إلى ستين ثانية. كذلك تمكنوا من رسم خريطة فلكية للنجوم والكواكب، مع رسم خارطة للعالم. وكل هذه الكشوف أخذها الإغريق بعد وصول الاسكندر المقدوني إلى الشرق وإسقاطه للإمبراطورية الفارسية واحتلال وادي الرافدين، بعد ما يقرب من قرنين عن سقوط بابل.
عنصر طريف في المعرض، يتمثل في تلك الإشارات للخراب الذي ظلت بابل حتى بعد اختفائها عن الأنظار تعانيه، فهناك صور كبيرة لقواعد أنشئت فوق أرضها وفوق كنوزها المخبأة تحتها. وصور أخرى لنهابين يجولون بين خرائبها بحثا عن كنوزها. في المقابل، يمكن للزائر أيضا تلمس الجهود المبذولة من العديد من المؤسسات الاجتماعية والعلمية الأوروبية في عمليات الصيانة والحفاظ على تلك الآثار الغنية بدلالاتها اليوم. كم يبدو التاريخ لعينا في دروسه: على بعض القراميد المفخورة نقش اسم نبوخذ نصر تأكيدا على أنه وراء بناء تلك المباني المدهشة مثل طريق المواكب وبوابة عشتار، وستحضر إلى الذهن مساعي الرئيس العراقي السابق لإعادة بناء تلك المواقع ونقش اسمه بالعربية لا المسمارية هذه المرة.
«بابل: الأسطورة والواقع» معرض يثير التساؤلات في نفس الزائر، إضافة إلى ما يمنحه من متعة البحث عن مدينة لا مرئية ظلت حتى بعد اختفائها تبعث بإشاراتها عن حضارات وشعوب عريقة أرست ملامح العصر الذي نعيشه اليوم. ويستمر المعرض في المتحف البريطاني حتى يوم 15 مارس (آذار) 2009.