انشغالات غير مألوفة في مجموعة قصصية عراقية
لا يهتم المؤلف بخصوصية المكان والهوية الشخصية بل يركز اهتمامه على هندسة الأقصوصة وإخراجها
فؤاد التكرلي
«رمية زهر» مجموعة قصصية في 92 صفحة، صدرت عن دار «المدى» للثقافة والنشر ـ سورية ـ سنة 1999، وهي من تأليف الكاتب العراقي لؤي عبد الإله.
يجب أن أعترف منذ البدء بأني اكتشفت هذه المجموعة القصصية بعد قراءتي الثانية لها، ولقد أدهشني ألا أنتبه مسبقاً لما فيها من براعة قصصية تلفت النظر منذ الوهلة الأولى، وتشير إلى شخصية أدبية ذات نزوع خاص جداً في التعبير عن ذاتها.
تضم هذه المجموعة عشر أقاصيص، تنحو أغلبها منحى معيناً هو بالضبط عكس ما كنت أعتبره نموذجاً فنياً يمكن أن يُعترف به، للأقصوصة العربية عموماً، والعراقية خصوصاً، فالأستاذ لؤي عبد الإله، في محاولاته القصصية العشر هذه، يترك وراءه الأجواء المحلية وخصوصية المكان والهوية الشخصية، ويركز جلّ اهتمامه على هندسة الأقصوصة وإخراجها وما يمكن أن يجلبه ذلك الجهد الفني من متعة للقراء. لقد أعادت إلى ذهني هذه الأقاصيص المتميزة، طريقة الكاتب الأمريكي الشهير «أو. هنري» في معالجته المعروفة لكتابة الأقصوصة، سوى أن لؤي عبد الإله بدا لي وهو في أرقى تجلياته (في «عائلة فقيرة» و«رمية زهر» و«أحمر.. أسود» و«غبار الذهب»)، مالكاً لمستوى من الفن القصصي الذي تعمقه أفكار ذات أبعاد غير مألوفة، لم تلاحظ لدى الأديب الأمريكي. فما أن تتحرك المادة الخام البسيطة في ظاهرها، لدى لؤي عبد الإله، حتى تتناوشها، خفية، تلك التأملات التي يحسن الكاتب دسها بين الثنايا، وإذا بما كان مسطحاً وعادياً يتنامى ويتخذ له سمكاً ذهنياً يرتفع بالأقصوصة إلى مستوى آخر مختلف، ذي تأثير لا ينكر على القارئ.
أقصوصة «عائلة فقيرة» ذكرتني بأقصوصة أخرى لكاتب معاصر من «تشيلي» يدعى «انتونيو سكارميتا» نشرت ترجمتها الفرنسية في ملحق جريدة «الموند» قبل سنوات بعنوان «الإنشاء». لا تشابه بين الأقصوصتين إلا في شيء واحد.. كتابة الإنشاء من قبل طفل. تدور حوادث الأقصوصة التشيلية سنوات السبعين في زمن الاستبداد، حين كان «بينوشيه» يفعل بالشعب ما يشاء، وهكذا ومن أجل أن تتعرف السلطة الديكتاتورية على كل ما يجري في البيوت، وخلف الجدران، فقد حضر، ذات يوم، ضابط من المخابرات برفقة معلم المدرسة إلى إحدى المدارس في مدينة «سانتياغو» وطلب من التلاميذ الصغار أن يكتبوا إنشاء بعنوان «ما يفعله أفراد عائلتي في المساء»، يدرجون فيه كل ما يفعلون.. هم وأفراد عائلتهم: الآباء والأمهات والاخوة والاخوات.. وعن أي شيء يتحدثون ويتناقشون، ومن يحرر أحسن إنشاء يقلده الرئيس «بينوشيه» بنفسه ميدالية ذهبية.
من الواضح أن الأمر ليس أمر إنشاء يكتبه التلاميذ الصغار، ولكنه وسيلة، لا يمكن وصفها بالنظافة، للتجسس على ما يتحدث به أبناء الشعب في السر، وما يتناقشون حوله أو يفكرون به. ولقد صاغ «سكارميتا» الأقصوصة فنياً وركّب المادة الخام المحلية بحيث أخفى غرض السلطة الحقيقي بستار شفاف سرعان ما يرى القارئ من خلفه الغاية السوداء من طلب كتابة الإنشاء.
«عائلة فقيرة» ـ أول أقصوصة في المجموعة ـ فيها موضوع إنشاء كُلفت بكتابته طفلة بريئة موزعة النفس. إنها حائرة، ولكن ليس بسبب الإنشاء فحسب، بل بسبب المأساة التي أحاطت بأمها وأبعدتها عنها حين أصيبت بمرض في عقلها. لذلك تكتب سطوراً قليلة، تجمع بين التهكم والفجيعة، «فكل افراد العائلة فقراء.. السائق والطباخ والمربية والحدائق… الخ». إنها طريقة الأطفال التي اتخذها لؤي عبد الإله للتعبير عن المآسي المغطاة بستار لا يخفيها. ويحضرني في هذا المجال قولٌ للفيلسوف الانجليزي «جون ستيوارت ميل» إن «الفنان لا يُسمع، بل يُختلس السمع إليه اختلاساً».
وما افهمه من ذلك هو أن علينا ـ كقراء ـ أن نخترق واجهة الأعمال الأدبية / الفنية، ونتتبع الخط الخفي الحقيقي لمقصد الفنان الأديب.
«رمية زهر» هي الأقصوصة المتألقة الأخرى في المجموعة التي شدتني إليها. انها المثال الذي كنت أقصده حين أشرت إلى التأملات اللامألوفة التي يغلف بها المؤلف مادته الخام فيمنحها دلالة فنية مختلفة. هذه الأقصوصة التي جاءت في صفحات تتعرض إلى أكبر فجوة في الوجود البشري وهي الاختيار. فما دام الانسان الفرد ـ في مسيرة حياته ـ لا يملك إلا أن يختار طريقاً واحداً يسلكه مضطراً، تاركاً الاختيارات الأخرى، أو الطرق الأخرى، فإن نفسه تبقى مشتتة يتملكها الجزع من احتمال الخطأ في الاختيار. ورغم أن من الصعب أن ندخل فلسفة «كيركجارد» الوجودية في هذا المجال، إلا أن روح الأقصوصة تبدو قريبة من افكار الفيلسوف الدانماركي عن الاختيار والجزع، ورمية الزهر هي أسطع تعبير فني ـ لعل كيركجارد لم يفكر به ـ عن حالة الإنسان في الدنيا هذه. ولن أتطرق إلى فحوى المادة الخام التي شكل منها الاستاذ لؤي عبد الإله أقصوصته تلك، لأنّ من أسباب قوتها وتأثيرها أن يمكث القارئ جاهلاً ما سيؤول إليه مأزق الاختيار بين الأحمر والأسود.
الأحمر والأسود يتكرر مرة أخرى في أقصوصة كابوسية تحمل عنوان «أحمر.. أسود» وهي، بشكل ما، ميتا ـ أقصوصة، ففيها يبدأ كاتب بكتابة اقصوصة يستوحي أحداثها من تخطيطاته العشوائية على الورق اثناء ما يكون منغمساً في التفكير، وإذ تتطور حوادث النص المندغم مع التخطيطات، يبرز له وجه ذو مواصفات خاصة يدخل الرعب إلى قلبه فيتوقف عن اكمال ما كتبه ويمزقه ويمزق الصور التي خططها.. إلا أن الوقت يكون قد فات، وتأتي ضربة النهاية، مخيفة منسجمة مع بداية الكابوس. في أقصوصتي «غبار الذهب» و«سر الأفعى» اختلاف بسيط عن بقية أقاصيص المجموعة، غير مشعور به تماماً، إذ ينحو المؤلف نحو تثبيت جو محلي عربي إلى حد ما، ويغير من نسق وشكل المادة الخام، إلا انه يحتفظ «بالنهاية/ الضربة» التي ميزت أقاصيص المجموعة.
يختط لؤي عبد الإله لنفسه خطاً قصصياً فنياً، ولا أقول أسلوباً، كان قد بدأ بأعمال الكاتب الأمريكي «ادكار ألن بو» واشتهر به كاتب أمريكي آخر هو «أو. هنري» بمستوى أدبي أقل، ثم حاوله كثيرون بعد ذلك.
وقيل ان طريقة «بو» الفنية هذه في ابتكار المواضيع القصصية التي كانت جديدة في بداية الثلث الثاني من القرن التاسع عشر، ادت في تطور لاحق الى نشوء القصة البوليسية. وفي ظني، ان هذا التفسير، بمطلقه، غير مقبول، فلا يصح ان نجعل اديبا كبيرا مثل «بو» مؤسسا للروايات البوليسية التي تنتشر في الوقت الحاضر، والتي، رغم ما تجلبه من متعة، تبقى سطحية، خارج المؤلفات الادبية المحترمة. انما يمكن، مع التحفظ، ان نعتبره قد فتح طريقا جديدا او اوحى بمنهج غير معروف في تشكيل واختيار المادة القصصية الخام.
ما اريد ان اقوله بشأن محاولات عبد الإله هو ان هذا النمط من الاقاصيص في مجموعة «رمية زهر»، الذي اخالفه عموما في الرؤية الفنية، هو نمط حديث في القص العربي، فيه من العمق والانضباط الفني ما يمنح القارئ متعة رفيعة حقا. واعتقد ان ذلك يتأتى، بالضرورة، من وعي صحيح بغاية الفن القصصي الاخيرة، ومن تملك للكتابة السلسة المطواعة، دون اهمال تلك الناحية الغامضة في ذات الكاتب.. الموهبة.
يتبقى بعد هذا ان نضيف بأن كل هذه المعطيات لا تنتج آثارا ذات قيمة دون عمل دؤوب وامعان تفكير وصبر، فأفكار هذه الاقاصيص ومثيلاتها لا تتساقط مجانا من الفراغ، بل هي تحتاج الى ذهن نشيط، محتشد بمعلومات معينة تساعد على تركيب المعادلة الفنية، بحيث تتوازن تماما دون ثغرة من الشك تسبب سقوط البناء كله. لذلك وجدت في اقصوصة «رمية زهر»، بتشابك الافكار فيها مع المادة الخام الاساسية وبتوازن معادلتها الفنية، انجازا قصصيا رائعا ولافتاً للنظر.
من خلال هذه المجموعة القصصية المتميزة، جاءني الاقتناع، مرة اخرى وليست الاخيرة، بان الفن القصصي لا حدود له، ولا يتوجب علينا ان نقيده بقوانين صارمة تخنقه بدل ان تحييه. هنالك اجواء ومجالات لم تكتشف لحد الآن في هذه القارة المجهولة التي يحكمها هذا الفن، ومن الخير لنا ولأدبنا وفننا القصصي ان تتفتح نفوسنا للجديد المتزن ولادبائنا الشباب من ذوي المواهب الذين يحاولون، بوعي وبحذر، ان يتجاوزوا من سبقهم بانتاج ثري جاد.