فضيلة الاستبداد الوحيدة
بعد انتهاء فترة حكمه عام 2009، اختفى الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش عن الأنظار، تاركا وراءه لخليفته عجزا ماليا هائلا ترتب عن قراره غزو العراق. إضافة إلى تكاليف إعالة ما يقرب من 35 ألف معاق أصيبوا في العراق خلال خدمتهم العسكرية هناك، وتغطية نفقات عوائل الجنود القتلى الذين يقدر عددهم بخمسة آلاف.
مع ذلك، فإن هذه الخسائر ضئيلة جدا، مقارنة بالخسائر التي لحقت بالعراق، فعدد القتلى بين صفوف المدنيين يقدّر بمليون شخص، عدا عن تشريد لمئات الآلاف من السكان ودمار للبنى التحتية ووضع مستقبل البلد في مهب الريح.
اتضح لاحقا أن إدارة بوش فبركت ملف «الأسلحة الكيماوية» العراقية التي كانت مبرر الغزو، إذ كان لدى وكالة الاستخبارات الأميركية كل المعلومات التي تفيد بأن كل هذه الأسلحة دمرتها السلطات العراقية منذ 1992، وكل الحملة الإعلامية التي شنتها إدارة بوش لإقناع الرأي العام الأميركي بمشروعية الحرب على العراق، كانت مبنية على أكاذيب محضة.
ظهر الرئيس السابق بوش أخيرا، عبر قنوات الإعلام الأميركي، وكنت أظن أنه قضى السنوات الست الأخيرة يعمل (تحت وطأة الشعور بالذنب) للتخفيف عما أدى إليه قراره بالحرب من كوارث وموت وخراب لشعب لم يؤذ يوما قيد أنملة مصالح شعبه أو أمنه.
كانت مناسبة الظهور هي الإعلان عن معرض رسم يعده الرئيس الأميركي السابق لأعماله. فهو منذ مغادرته البيت الأبيض، منكبّ بمساعدة رسام على إظهار «المبدع» في داخله، حسب وصفه. وثمرة هذه الجهود هي مجموعة من لوحات البورتريه مستنسخة من صور عدد من زعماء العالم.
ولعل هذا النوع من «البراءة» واللامبالاة يبعث الرعب أكثر من أي فيلم رعب.
تكمن معادلة النظم الديمقراطية الغربية في هذه الصيغة: الرئيس المنتخب مقيَّد في الشؤون الداخلية بالسلطتين القضائية والتشريعية، لكنه طليق اليد في الشؤون الخارجية التي تدخل ضمن تعبيري «المصلحة الوطنية» و«الأمن القومي». وطالما أنه شخص منتخَب من شعبه، فأخطاؤه تتوزع على الجميع، ولن تكون هناك أي محاكمة له، ولن تتذكر الأجيال اللاحقة فظاعاته.
على العكس من ذلك، نجد أن الطغاة المعاصرين موسومون بما فعلوه، فالكل يتذكر ما قام به هتلر أو موسوليني مثلا من فظائع ضد الشعوب الأخرى. ولكن من يتذكر اليوم المسؤول الأول عن فظائع فيتنام أو هيروشيما أو العراق أو الجزائر أو جنين أو غزة؟
هل ذلك لأن الرئيس المنتخَب يرى في نفسه أداة تمثيل لمصلحة ناخبيه، وبالتالي فليست هناك مسؤولية أخلاقية عليه، حين تدفع الشعوب الأخرى ثمن هذه «المصلحة الوطنية»؟
هل يمكننا، اعتبار التذكر الدائم لفظائع الطغاة وإدانتهم عليها وأخذ العبرة منها نقيصة عليهم أم فضيلة لصالحهم؟ بالمقابل: هل هي نقيصة الأنظمة الديمقراطية الليبرالية الوحيدة، أن يُمنح الرئيس المنتخب سلطة مطلقة في شن الحروب وممارسة الفظائع دون أي حساب لاحقا.
بعد إجراء تحقيق شبه سري لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق عن مسؤوليته في نشر أكاذيب بررت المشاركة في غزو العراق مع الولايات المتحدة، أغلقت القضية تماما ولم تنشر نتائج التحقيق الذي قاده القاضي شيلكوت حتى يومنا هذا، بل لم يجد بلير أي ضير في العودة إلى الأضواء والإعلان ثانية أن ما يحدث الآن في العراق لا علاقة له بغزوه قبل 11 سنة، لا من قريب ولا من بعيد.
روائي عراقي