تأملات في معرض “طقوس العبور” حقيقتنا وحقيقة العالم تفلتان من أيدينا*

3٬200

(1)

تعكس رواية “ذئب البوادي” لهرمان هسه، حال بطلها هاري هللر أثناء فترة انتقالية حاسمة في حياته، فعلى صعيد العمر كان آنذاك قريبا من الخمسين؛ تلك السن المنفتحة على آفاق مختلفة عما سبقها، ومعها نجده انفصل عن زوجته وعن أصدقائه، وراح يتنقل بين الفنادق والنُزل حاملا معه مئات من الكتب. في هذه الفترة الانتقالية، تراود هاري هللر الرغبة القوية بالانتحار لفشله في التوفيق بين متطلبات الفنان الساكن في داخله في هيئة ذئب البوادي ومتطلبات الانسان الاجتماعي الميال إلى عالم الأسرة والأصدقاء، وما يمنحه المناخ البورجوازي الذي ترعرع فيه من دفء؛ من جانب آخر، فهو يعيش فترة انتقالية بين القرن التاسع عشر، وما زرعه ذلك القرن في نفس هاري هللر من ارتباط بالقيم الجمالية الكلاسيكية المتجسدة بموسيقى موتسارت وأشعار غوته، وبين ضجيج القرن العشرين وسحره، حيث شوارع المدن تعج باعداد كبيرة من الناس، وحيث صخب الجاز يسري في الدماء، ومع هذا القرن يدخل الراديو والغرامافون والسينما والسيارات، فتتحقق وسائل اتصال وامتاع هائلة قياسا بإيقاع الحياة في القرن السابق.

بعد بلوغ البطل مأزقا لا مخرج منه سوى الموت، يفتح القدر أبوابه، حينما يتعرف على هرمينة الغانية في إحدى الحانات، ومعها ومع صديقها عازف الساكسفون بابلو سيقاد هاري هللر إلى ممارسة كل الطقوس التي تمكنه من الاندماج ثانية بالآخرين، فيكتشف من خلالها مباهج عالم الحواس، التي كانت تقف خصما لعالم المثل والجمال داخل روحه: المصالحة بين قطبي عالم المثل وعالم الحواس؛ بين الماضي والحاضر؛ بين الذئب والانسان… ستجري معظم تلك الطقوس في مسرح سحري أنشأه بابلو بعد انتهاء الحفلة التنكرية، التي دعي هاري لها، وسيمر البطل في لحظات رعب ولحظات غيرة ولحظات سعادة… سيشاهد حياته عبر مشاهد صامتة، فنتازية، يختلط فيها الحلم بالواقع، ليكتشف من بعد، أنه ليس كما قال غوته يحمل شخصيتين في داخله؛ بل ما لا نهاية من الشخصيات تنتظر دورها للخروج إلى مسرح الحياة.

(2)

يحاول منظمو معرض طقوس العبور في قاعة التيت اللندنية تقليد ذلك المسرح السحري، الذي بناه هرمان هسه في روايته ذئب البوادي، فالتجول داخل القاعات يقود من منطقة مضاءة، بشكل مبالغ فيه، إلى أخرى معتمة لا مخرج لها، أو ينتقل الزائر من أمكنة فسيحة إلى أخرى ضيقة تجبره على التلامس مع جاره، عدا عن ذلك، فالفنانون المشاركون في المعرض استخدموا مواد هائلة التنوع والعدد، فمن استخدام النحت على الخشب والحجر إلى الصب بالجبس، ومن استخدام قارورات وسوائل كيميائية إلى إدخال الفيديو، ومن التطريز والخياطة والحفر واللصق على سطوح متنوعة، إلى مئات القطع الملتقطة من أمكنة مجهولة.

التنوع والتشرذم في الابداع الفني التشكيلي هما الصفتان الأساسيتان اللتان ميزتا العقد الأخير من القرن العشرين أكثر من أي فترة سابقة، كذلك فإننا نجد الكثير من الفنانين منغمسين في أنماط جديدة من الممارسة الفنية. هنا في قاعة التيت، كان في الإمكان تلمس ذلك بشكل واضح ومثير للغاية.

تعود تسمية “طقوس العبور” إلى ما عُرف من شعائر تمارسها بعض الشعوب البدائية إلى يومنا الحالي على أبنائها عند بلوغهم مرحلة المراهقة، إذ يُعزل هؤلاء لفترة زمنية معينة ويُمرَّرون في تجارب، قد تكون فردية أو جمعية، تتضمن الرسم أو الحفر أو الوشم على بشراتهم. قد يقوم المشارك بهذه الطقوس بتناول طعام خاص بالمناسبة، وقد يتيه في البراري. خلال تلك الفترة يكون ممارس الطقوس ممتلئا بمشاعر الكبرياء والتسامي والاستبصار، وما تسعى إليه طقوس العبورهذه هو تحقيق القطع الكامل مع مرحلة الطفولة الآيلة إلى الزوال، والدخول إلى عالم الكبار وتحمل المسؤوليات المنوطه بهم.

في كتابه “طقوس العبور”، يكتب الانثروبولوجي الهولندي أرنولد فان غنب عما يسمى باللحظات الحرجة في الحياة لدى الشعوب البدائية، والمراسيم التي ترافقها. هذه الطقوس، حسب رأيه، تتحرك خلال ثلاث مراحل: الانفصال، التحول والاندماج. وفي فترة التحول، يكون المرء موجودا في منطقة حدودية.

في المعرض نجد أن الفنانين معنيون فقط بهذه المرحلة الانتقالية؛ بالهامش الفاصل. ذلك المكان غير المحدد الذي يجعل المرء غير مرئي: ظل سلبي في طور التحقق. الأعمال المعروضة، نجدها في معظمها، مرتبطة بشكل مباشر بوجود الفنان نفسه، فعلى سبيل المثال، نجد صور جونز كوبلانز الفوتوغرافية ملتقطة لجسده الهرم، وكأنه عبر التضخيم والتركيز على أجزاء معينة، يقوم بخلق أشكال تجريدية ذات أقنعة مختلفة. لا بد أن الكثير من المتفرجين صُدموا بهذه الصور العملاقة، إذ من المعتاد أننا لا نشاهد أجسادا هرمة؛ فكل الصور الفوتوغرافية للأجساد العارية ممتلئة بالجمال والفتوة، ناهيك عن الصور التي تنقلها الأفلام ووسائل الإعلام، والتي تسعى إلى ترسيخ فكرة غياب الترهل والهرم الجسدي. يكتب عالم النفس الفرنسي لاكان عن تجربة مشاهدة الطفل صورته في المرآة لأول مرة باعتباره طقس عبور من نوع خاص، إذ بهذه المشاهدة يكتشف الطفل وحدته وحقيقة وجوده. ولعل الفنان جون كوبلانز يستطيع تحقيق تقبل شيخوخته وهو يتجاوز السبعين، بكشفه للكاميرا خفايا جسده بحرية مطلقة، ليقوم من بعد بإعادة تقطيعها وترتيبها وفق منظور ورؤية حياتيين متميزين، في الوقت نفسه، يمكن المتفرج إسقاط تجربته على هذه الصور (إن شاء ذلك) والاشتراك مع الفنان بطقوس الاكتشاف والتجاوز. بعد بلوغه الستين، وبعد ممارسته الرسم والكتابة النقدية الفنية حقبة طويلة، قرر جون كوبلانز تبني مهنة التصوير. في معارضه المنجزة خلال العشرة أعوام الأخيرة، ركز هذا الفنان على جسده كموضوع للبحث عما يجمع الإنسان الحالي بالمجتمعات البدائية من أواصر تتنقل عبر اللاوعي الجمعي أو ما يسمى بالذاكرة الوراثية.

أما عروض منى حاطوم فمعظمها من صنف فني راح يترسخ منذ الستينات تقريبا يسمى بفن الفكرة Conceptual Art، وفي هذا الأسلوب يسعى الفنان إلى التعبير عن فكرة ما عبر استعماله حقلا واسعا من المواد الخشنة كأدوات الاستعمال العتيقة او أي لقى منبوذة تم العثور عليها بالصدفة، إضافة إلى استعماله الأعمال الفنية السائدة كالمنحوتات أو الرسوم أو الكولاج وغير ذلك.

تختلف درجة التعريف عن الفكرة في مباشرتها من فنان إلى آخر. هناك من يتوسل، لإنشاء فكرته، طرائق أكثر مجازية وإيحاء، في حين نجد من يعبر عن فكرته بطريقة مباشرة واستعراضية. في عرض سابق لها يحمل عنوان “طاولة المفاوضات” وضعت منى حاطوم طاولة مستطيلة منخفضة وسط حجرة صغيرة، وعلى طرفيها المتباعدين وضِع كرسيان متقابلان، وفوق الطاولة استقر كيس شبه شفاف، في داخله جثة ضحية، ولم تكن تلك الجثة سوى جسد الفنانة نفسها.

تتبنى الفنانة الفلسطينية منى حاطوم في “طقوس العبور” جسدها كموضوع لعرضها الذي يحمل عنوان “الجسد الغريب”. لكنها تمضي خطوة أعمق من تلك التي قطعها جون كوبلانز، إذ تستعين بالأطباء والتقنيين كي يزرعوا داخل جسدها كاميرات ميكروسكوبية، فتلتقط صورا لعينها من الداخل، لمعدتها ولمناطق نائية أخرى. مع تقطيع وتضخيم بعض الأجزاء، وبتنظيم العرض داخل غرفة اسطوانية ضيقة ومعتمة يتم إسقاط فيلم الفيديو على الأرض في شكل دائري. هنا عدد المتفرجين الممكن استيعابهم لا يتجاوز العشرة في أحسن الأحوال، ويكونون في شبه تلاصق. ومع حركة الكاميرات التي تمضي عميقا بين الأحشاء والسوائل، يمكننا سماع نبضات القلب الحادة مختلطة بأنفاس منى حاطوم الصاخبة. ولن يستطيع المتفرج أن يقاوم الاحساس بالقرف والنفور مما يشاهده، فكأن منى حاطوم تعرض أمامه دواخل جسده. وقد يخرج المتفرج من حجرة منى حاطوم الضيقة ساخطا ومنبهرا معا، ولعل الفضول سيجره إليها من دون إرادته مرة ثانية وثالثة، وليعيش صدمة مشاهد الفعل المتكرر المحايد… هل يمكن التصور أنه وسط كل هذه السوائل ونبضات الأحشاء المنتظمة والحشرجات الصاخبة، تتنامى الأفكار والرغبات والمسرات والآلام، أو أن لحظة الالتقاء المفاجئة بجسده الداخلي الغريب تخلق شيئا من التغيير غير القابل للتعريف فيه.

(3)

بعكس جون كوبلانز ومنى حاطوم اللذين جعلا جسديهما مادة أولية للعرض، اهتم الاميركي بيل فيولا والألماني جوزيف بويز بالتعبير عن رؤاهما عبر وسائط أخرى. فالأول يستخدم الكمبيوتر والفيديو وتقنيات حديثة أخرى للتعبير عن أفكار روحية صرف، إذ يلتقي مع الرؤية الصوفية بوحدة الوجود، ومن وجهة نظره يجد أن الانقسام القائم بين الطبيعة والإنسان هو انقسام بين الانسان وذاته نفسها، إذ ما يراه المرء خارج وجوده، له ما يماثله في داخله، والرؤية للخارج ليست فعلا تقوم به العينان فقط بل هي فعل يشارك به كيان الانسان كله: جسده وروحه. يقول بيل فيولا: “الصراع الحقيقي الذي نشهده هذه الأيام ليس بين القناعات الأخلاقية المتعارضة، بين النظام القضائي والفرد، أو بين الطبيعة والتكنولوجيا، بل هو بين دواخلنا وحياتنا الخارجية، وأجسادنا هي المساحة التي يدور عليها الصراع. إنها مشكلتنا الفلسفية القديمة: جسد- عقل، أصبحت في وضع بيئوي حاد، حيث غاب عن إدراكنا بأن الطبيعة كأجسادنا، وهي شكل من أشكال العقل”.

العرض الذي شارك فيه بيل فيولا: “الزائل” يتحدد في صالة معتمة يدخلها المتفرج فتواجهه جدران شبيهة بشاشة التلفزيون المفتوح بعد انقطاع البث عنها، واكتسابها لونا رماديا معتما، كأنها لوحة مرسومة بلون واحد. هنالك شيء ما نستطيع رؤيته لكنه غير كاف لتحديد ماهيته، أصوات في هيئة غمغمات وضجيج من دون كلمات منطلقة من عدة أفراد. كأن المتفرج يجد نفسه أمام جدران تنبئ بتقديم حكاية ما، لكن ليس هناك شيء محدد. وبعد الانتظار الممل قد يفكر الزائر في الخروج لكنه سيجد أن الحجرة لا منفذ لها وعليه أن يعود من حيث أتى. فجأة تنفجر صورة رجل مسن يرتدي قبعة بيسبول على أحد الجدران، ثم تظهر امرأة بملابس بيضاء غارقة مثله في أفكارها، وتقوم برفع ذراعيها قليلا إلى الأعلى. يظهر رجل آخر مريض المظهر، يتكئ على عصا، وحال امتلاك صورهم وضوحا وقوة، تنفجر وتغيب تماما في العتمة. يحدث ذلك في اللحظة التي نكون فيها متلهفين للتعرف أكثر على تلك الشخصيات التي ظهرت لحظات أمامنا، فنشعر بأننا قد خُدعنا، ولن تترك الهمهمات المتبقية في أنفسنا سوى الخوف. هل يقلد تألق الناس وانطفاؤهم مشهدا من مشاهد الألعاب النارية؟ وهل ان الحياة لا تمنحنا الفرصة للتعرف على الآخرين بأي حال من الأحوال لسرعة زوالها؟ أو أن وجود تلك الشخصيات التي انشددنا إليها ما زال حاضرا حولنا رغم غيابها المادي والصوري؟

في عرضه السابق الذي أقامه عام 1992 في قاعة التيت اشتغل بيل فيولا على ثلاثة أحداث كان سجلها على كاميرا الفيديو ثم عالجها فنيا: عملية احتضار امه وعملية ولادة طفله ثم سباحته أو طوفانه فوق سطح الماء. يؤكد فيولا في أعماله فكرة العودة الأبدية، فكأن تلك الغمغمات هي لأولئك المنتظرين على الضفة الأخرى عودتهم من جديد. هنا نجد المفارقة في أحسن تجلياتها: بين ارتباط الفنان بالديانات الشرقية واستخدامه أحدث التقنيات العلمية لتمثيلها فنيا في آن واحد.

كان لتجربة مواجهة الموت أثر كبير على الفنان جوزيف بويز، إذ اسقطت طائرته أثناء الحرب العالمية الثانية في منطقة القفقاس، وظل لأيام عدة وسط الثلج جريحا ومعرّضا للموت، حتى اكتشفه بعض التتار الرحّل، الذين قاموا بإنقاذه من الموت بتغطيته بالزيت وتدثيره باللباد. بعد انتهاء الحرب وانتهاء فترة الأسر القاسية، تحول بويز من الطب، دراسته السابقة التي لم يكن أكملها عند تجنيده، إلى دراسة النحت. ومع بداية الستينات، أصبح جوزيف بويز واحدا من الوجوه الفنية المعروفة بأسلوبها الخاص، وبرفضها الدوغمائية في الفن والحياة. ما سعى إليه بويز طيلة حياته هو توظيف الفن كي يلعب دوره القديم في تفجير طاقات الانسان المقفلة. يكتب بهذا الخصوص معبرا عن هذه الفكرة : “كل انسان يمتلك داخل ذهنه بناء هو أثمن شيء في الوجود: مشاعره والإرادة الحرة”.

ظلت تجربة إنقاذه ومادة اللباد التي لفه بها أبناء القفقاس ذات أهمية خاصة طيلة حياته، وكأن تلك التجربة هي طقوس العبور، التي ساعدته على الوصول إلى اكتشاف أواصر خفية تشده للآخرين، فنجد الفنان حتى وفاته معنيا بمشاكل العصر وأزماته، وساعيا إلى التعبير عنها فنيا. في معرضه الأخير الذي أقامه بعد زيارة نابولي المنكوبة بالزلزال سنة ،1980 تبرز صور مدهشة معبرة عن هشاشة عالمنا. سيقارن ما تركه الزلزال بالمدينة، مع ما أحدثته الثورتان الرأسمالية والشيوعية من تأثير على الوجود البشري، وسيسمي معرضه الذي ادمِج هنا مع عروض “طقوس العبور” الأخرى بـ “انهيار العالم الذي ينتمي إلى الماضي”.

أمامنا تستلقي قطع الزجاج المهشم، بلا مبالاة، حاملة في طياتها حدثا مروع، لكننا الآن، وعلى رغم وقوعنا تحت رحمة الصمت والانتظار، نشاهد في الجانب الآخر طاولة قديمة تقف قوائمها الأربع على القناني الفارغة، وعلى سطح الطاولة تستقر بيضة بشكل عمودي: بين الخراب الهائل يسكن الأمل(امكانية تحقيق المستحيل) على مبعدة بضع خطوات.

تقول جوليا كريستيفا الكاتبة والمحللة إن المعرض عكس حال الأزمة التي يعيشها الانسان الغربي المعاصر ممثلة بالدرجة الاولى بتحول الفرد إلى روبوت من جانب آخر فنحن كلنا تحولنا إلى مجرد صور ضمن صور التلفزيون وألعاب الفيديو وغيرها. حقيقة العالم وحتى حقيقتنا تفلت من اليد.

من الجدير الإشارة إلى في مقارنة بسيطة بين ما حملته نهاية القرن التاسع عشر من آفاق جديدة في حقل الإبداع والرؤية الفنية، عبَّر عنها الفنان الفرنسي سيزان، بإنشائه رؤية جديدة للعالم الخارجي، مستندة إلى تفكيكه إلى مستطيلات ومخروطات، افتتح سيزان القرن العشرين بإبداع فضاء جديد مبني على مفاهيم رؤية شخصية ليقود هذا ازدهار التكعيبية أولا، ثم الأساليب الفنية الأخرى التي أسست في الأخير ما يسمى اليوم بالفن الحديث… في هذا الاتساع الهائل لفن الفرن العشرين، نتلمس، على الأغلب نظرة متفائلة لدى الفنان. فحتى في “غيرنيكا” بيكاسو هناك أمل بالمستقبل،وهناك حرص على تناسق وتكامل أجزاء اللوحة… عدا عن ذلك فالفنان معني أكثر بالعالم الخارجي، ومتفاعل معه ومعبر عنه موضوعيا… في هذا المعرض، وفي عروض اخرى قدمت في السنوات الأخيرة، نجد الحالة معاكسة تماما؛ هناك قدر من السوداوية الثقيلة، وتشرذم في العمل: أذرع أو أرجل منفصلة، رؤوس قائمة لوحدها، إلى ذلك فإن الفنان معني بالدرجة الأولى بذاته، بتجربته الخاصة، بجسده… وكأن الفرد مغلف بشرنقة عازلة عن العالم الخارجي. وقد يمكن القول إن هذا المعرض قد عكس حال الأزمة التي يعيشها الإنسان الغربي المعاصر ممثلة بالدرجة الاولى بتحول الفرد إلى روبوت، إذ تحولنا حسب تعبير الفيلسوفة الفرنسية الجنسية، جوليا كريستيفا إلى “مجرد صور ضمن صور التلفزيون وألعاب الفيديو وغيرها، حقيقة العالم وحتى حقيقتنا تفلت من اليد”.

مقابل ذلك، نجد أن حال الاستقلالية التي عرفها الفن منذ بداية عصر التنوير بدأت بالتلاشي وراح الفن التشكيلي يسعى إلى استعادة موقعه السابق في الحياة لكن بشكل آخر. ومثلما هو الحال اليوم في بعض المجتمعات البدائية، حيث الفن مرتبط بالدين والطب، ومثلما كانت الحال في الأزمنة القديمة، إذ كما هو معلوم ظل النحت والرسم مرتبطين بالكنيسة في أوروبا العصور الوسطى، ولهما دور وظيفي، ولم يتحولا إلى نوع من الترف الثقافي، وإلى سلعة يقتنيها الأثرياء إلا مع ظهور البورجوازية التجارية وتضاؤل دور الكنيسة في الحياة العامة.

لعل هذه المعرض مؤشر خفي إلى الاتجاه العام للفن التشكيلي بدءأ من ارتباطه بالعلم والتكنولوجيا والدين (بمعناه الواسع) وانتهاء بتداخله مع الفنون الصورية والصوتية، فكأننا أمام ثورة في مجال الفن، لكنها إلى الوراء للارتباط بعناصر الحضارة الأولية.

وكم يبدو حدث سقوط جدار برلين ذا دلالة خفية وعميقة في هذا المعرض، فكأن الفنان والمشاهد معا يتلمسان بانهياره انهيار ذلك الحلم، وان عليهما أن يبنيا رؤية جديدة للعالم على أنقاض ما تبقى من مختبرات القرن العشرين المروعة. كلاهما في حاجة إلى طقوس للعبور إلى الضفة الأخرى. يقول بابلو لهاري هللر في رواية “ذئب البوادي” قبل إدخاله إلى المسرح السحري: “إنه عالم روحك الذي تبحث عنه وإن الحقيقة الأخرى التي أنت وراءها موجودة داخل ذاتك أنا لا أستطيع منحك أي شيء غير موجود في داخل ذاتك ولا أستطيع أن أفتح أمامك أي معرض للصور عدا صورة روحك”.

في هذه المشاركة الوجدانية مع تجربة الفنان يمكن للمشاهد أن يستثير عالمه الشخصي فهل هذا ما يطمح الفن إلى تحقيقه في القرن الحادي والعشرين.

* صحيفة الحياة، عدد 11931، 22 أكتوبر 1995

اقرأ ايضاً