تاريخ العراق الحديث حدده مفهومان تحريضيان : الوطنية والعمالة

2٬471

تاريخ العراق الحديث حدده مفهومان تحريضيان : الوطنية والعمالة

كيف تضل الشعوب طريقها

كان عدد سكان العراق حوالي مليونين ونصف عند وصول البريطانيين إليه خلال الحرب العالمية الأولى، ومدنه لم تكن سوى واحات حضرية صغيرة وسط عالم محكوم بالعشائر وبقيمها البدوية. كان المثقفون والضباط العراقيون الذين تعلموا في اسطنبول والمنتمون إلى ولايات بغداد والموصل والبصرة قد وجدوا أن هناك هوية تجمعهم يحددها العيش في بلاد وادي الرافدين بعد  تصاعد مد التيار القومي التركي الذي آل إلى الانقلاب العسكري وعزل السلطان عبد الحميد سنة 1908 عن الحكم.

كانت هذه الولايات الثلاث بيد البريطانيين وكان بإمكانهم أن يقرروا ما يشاؤون فيها. في البدء سادت فكرة بين المسؤولين البريطانيين أن يحكموا هذه المنطقة بشكل مباشر مثلما هي الحال في الهند لكن ثورة العشرين التي كانت عبارة عن مزيج من تمرد واسع بين القبائل مع أعمال احتجاج في المدن رجح الكفة لمن كان مع فكرة استقلال العراق من المسؤولين البريطانيين وتعيين فيصل ابن شريف مكة ملكا عليه. كذلك تمكنت هذه الدولة المنتصرة أن تصد طلب تركيا بضم الموصل إلى أراضيها. بدلا من ذلك بادر الإداريون البريطانيون إلى جمع أجزاء كانت تعيش عزلتها تحت سلطة رؤساء القبائل وبعض العوائل وتفتقد إلى روابط اقتصادية كافية تجمعها بعضها ببعض.

منذ لحظة تشكل الدولة العراقية حُدِّد الموقف من المعاهدة التي فرضتها بريطانيا على الحكم العراقي الملكي كمقياس وحيد لتقييم سياسيي ذلك العصر، فمقابل تصديقها من البرلمان العراقي وعدت بريطانيا بعدم السماح للدولة التركية بأخذ الموصل. وإذا أمعنا اليوم بهذه الاتفاقية التي وقفت النخبة السياسية المعارضة ضدها والتي بفضل موقفها نُعتت بـ “الوطنية” سنكتشف أنها تضمن مصالح الطرفين (خصوصا وان العراق ككيان سياسي واحد ما زال في طوره الجنيني الأول) فمن غير الممكن تصوره أن يأتي البريطانيون ويقيموا دولة على خرائب ظلت تتراكم لسبعة قرون ونصف مقابل لا شيء. وفق الصيغة الأولى للمعاهدة كان الإشراف على شؤون الدفاع والسياسة الخارجية والمالية والأمن الداخلي بيد بريطانيا من خلال مستشاريها داخل الوزارات المعنية. وهذا سيتم حتى يصبح العراق دولة عضوا في عصبة الأمم. بالمقابل نُعت أولئك الذين كانوا حريصين على إبقاء الموصل جزءا من العراق، وحريصين على بناء المجتمع المدني خطوة خطوة بـ “العملاء” وهذه التسمية لن تنتهي حتى بوقوع انقلاب 14 تموز 1958 الذي فتح الطريق لـ “الوطنيين” العسكريين لتسلم السلطة. ثم البدء بطرد المدنيين من لعب أي دور سياسي فيها مرورا بالدخول في صراع دموي بينهم لينتهي بتصفية معظمهم على يد بعضهم البعض وليفتح الطريق في نهاية المطاف إلى حزب عروبي صغير كي يصل إلى السلطة عبر انقلاب عسكري جرى في فبراير 1963 وخلال فترة الحكم القصير الذي استمر تسعة أشهر كانت تصفية حزب وطني آخر ذي نزعة أممية وأعني الحزب الشيوعي هو الهم الأساسي للسلطة الجديدة التي تناست كل تلك الشعارات الديماغوجية التي بنت شعبيتها والمتمثلة بتحقيق الوحدة مع مصر وسوريا. لكن هذا الانقلاب العسكري لم يكن سوى تمرين قصير لانقلاب أكثر خطورة   سيدخل العراق بعده في عدة حروب كارثية، داخلية وخارجية وهذا هو انقلاب 17 تموز سنة 1968 الذي فتح الطريق لوصول الاستبداد الدموي في أقصى تمثلاته والذي جسده صدام حسين.

لم يأت وصول الأخير إلى الحكم عبر قفزة مفاجئة بل عبر انحراف تدريجي عن الهدف الأولي: بناء الشروط الأولية للمجتمع المدني العراقي التي انغمرت الدولة العراقية في تحقيقها بهذا الشكل أو ذاك خلال الفترة الأولى من حياتها والتي تقع بين عامي 1921و 1958. لكن المعارضة التي لاقتها على يد الفئات “الوطنية” منذ البدء ظلت تتصاعد وتتلون. ولم يتعلم أولئك القادة المعارضون أي شيء من تاريخ وجغرافيا منطقة العراق، فحقيقة وقوعه بين أكبر دولتين تحدانه شرقا وشمالا، حدد سمات تاريخه خلال القرون الستة الأخيرة.

لكن أولئك الذين ظل أبطال المعارضة “الوطنية” يعتبرونهم “عملاء لبريطانيا” و”رجعيين” كانوا هم وراء تحقيق استقلال العراق سنة 1932 ودخوله إلى عصبة الأمم كأول بلد عربي مستقل، وقبل ذلك تمكنت النخبة الحاكمة من التخلص من الانتداب البريطاني وتقليص “المعاهدة” إلى حدود وجود قاعدتين جويتين بريطانيتين ووجود معاهدة دفاعية بينهما.

حينما يتأمل المرء الفلسفة التي كانت تحرك سياسيا مثل نوري السعيد يكتشف أن المبدأ الذي كان يقف وراء قراراته هو “العراق أولا” وهذا يعني الأخذ بنظر الاعتبار الأواصر التاريخية والجغرافية المتميزة التي تجمع العراق بجارتيه تركيا وإيران إضافة إلى الانطلاق في صياغة المواقف السياسية من الواقع الاثني والقومي للعراق. فحينما كان وزيرا للخارجية سنة 1935 صاغ نوري السعيد اتفاقية وافقت عليها إيران بعد ضغوطاتها المستمرة المطالبة بنصف شط العرب  وما ترتب عليها من توتر بين البلدين في بداية الثلاثينات. ووفق هذه الاتفاقية تأخذ إيران 4 أميال من شط العرب انطلاقا من مدينة عبادان، بالمقابل يحتفظ العراق ببقية شط العرب. لكن ذلك أثار حفيظة الضباط العروبيين ضد الاتفاقية من منطلق أنه خيانة لعرب الأحواز داخل إيران. مع ذلك تمكنت الحكومة اللاحقة التي فُرضت على الملك غازي بعد تسلم بكر صدقي قيادة الجيش من كسب مصادقة البرلمان عليها. وكان ذلك كافيا لاغتيال صدقي وإسقاط الحكومة وإلغاء الاتفاقية على يد الضباط العروبيين: صلاح الدين الصباغ وحسين فوزي  ومحمود سلمان وآخرين.

مع ظهور خلايا الشيوعيين السرية في الأربعينات وبروز التيار القومي العربي عبر حزب الاستقلال المجاز حديثا أصبح الشارع وسيلة لإسقاط أي حكومة مهما كانت “تقدمية”. فالنموذج الذي يسعى الشيوعيون إلى تحقيقه هو نظام الاتحاد السوفياتي الحديدي الذي لا يرى في النظام الديمقراطي أكثر من كونه ديكتاتورية للبورجوازية وما يدعو إليه هو ديكتاتورية البروليتاريا التي تحققت عبر ديكتاتورية الحزب والتي انتهت بديكتاتورية الأخ الأكبر الرفيق ستالين. بينما كان العروبيون لا يرون في حقائق الجغرافيا الصارخة للعراق والطبيعة الاثنية والقومية والطائفية المتعددة حاجزا أمام تذويب العراق ضمن كيان عربي لا يأخذ بنظر الاعتبار السمات الخاصة لهذا المجتمع أو ذاك، لطبيعة ودرجة تطوره أو لتاريخ تكونه الخاص. وهاتان القوتان أضيفتا للتيار “الوطني” بعد إضافة عبارة “التقدمي” لهما أيضا. بالمقابل أضيف للتيار “العميل” عبارة أخرى “الرجعي”.

بعد الإصلاحات الواسعة التي تحققت على أثر انتهاء الحرب العالمية الثانية والتي تمثلت بإجازة ثلاثة أحزاب وتقسيم العراق إلى 100 دائرة انتخابية بدلا من ثلاث مثلما كان عليه الحال قبل ذلك  وإجراء انتخابات جديدة على مرحلتين بدلا من واحدة. هبّت القوى “الثورية” بعد سنوات قليلة في ما عُرف لاحقا بـ “الوثبة” احتجاجا على توقيع معاهدة بورتسموث التي خفضت المعاهدة السابقة إلى حدود أضيق. وإذا كان رئيس الوزراء صالح جبر قد ظن  أنه سيُستقبل استقبال الأبطال عند عودته إلى بغداد بعد توقيع هذه المعاهدة فهو كان على خطأ تماما إذ وصلته الأخبار عن انفجار “الشارع” العراقي واندلاع المظاهرات الصاخبة وأعمال الشغب بعد تحريض النخبة السياسية “التقدمية” ضد المعاهدة حتى قبل معرفة فحواها. كأن هذه النخبة المعارضة تتصور أن لعبة الديمقراطية تعني استثمار الشارع الذي لم يمض على شقه وتبليطه وقت طويل كي تجيَّش المظاهرات غير الشرعية عليه وليتم بواسطة ذلك إسقاط هذه الحكومة المدنية أو تلك ولم يترتب على ذلك سوى إعلان الأحكام العرفية.

بل حتى حينما أراد نوري السعيد أن يفصل مجلس الإعمار الذي تأسس سنة 1947 عن السياسيين وجعله بيد الاختصاصيين التكنوقراط مع تكريس 70 بالمائة من واردات النفط إليه هبت المعارضة ضده لوجود خبيرين أحدهما أميركي والآخر بريطاني ضمن أعضائه البالغ عددهم سبعة أفراد. الطريف بالأمر أن أفضل تقرير منتقد للسياسة الإعمارية لتلك الفترة جاء على يد الخبير البريطاني لورد ساتلر الذي طالب بتكريس جزء أكبر من واردات مجلس الإعمار للخدمات المدنية مثل المدارس والمستشفيات بدلا من التركيز على توسيع الأراضي الصالحة للزرع ومشاريع الري وبناء السدود.

كانت آخر “حماقة” ارتكبها نوري السعيد تحت وطأة مبدأ العراق أولا هو عقد حلف دفاعي يضم تركيا وإيران وباكستان إليه وبفضل ذلك تمكن من أن ينهي المعاهدة مع بريطانيا وأن يضمن علاقات مستقرة مع الجارين التاريخيين للعراق. لكن ذلك لن يكون سوى آخر إسفين يدق في جسد النظام الملكي إذ اعتُبر سببا قويا لتوسيع نقمة التيار “الوطني” ضده وأعطى مبررا إضافيا لتحرك الضباط الأحرار والقيام بانقلاب 14 تموز 1958 الذي فتح بوابة الشقاء على مصراعيها لعدة أجيال ولِدت قبل وبعد ذلك الحدث الكبير.

 

 

اقرأ ايضاً