آرنست هيمنغواي: رجل عجوز على الجسر

2٬465

  آرنست هيمنغواي:

رجل عجوز على الجسر

 

ترجمة لؤي عبدالاله

كان هنالك شيخ ، بنظارة طبية، إطارها من حديد، وملابس جد مغبرة، جالسا  على حافة الطريق. وكان هنالك جسر، عائم على طوافات عبر النهر، حيث راح الرجال والنساء والاطفال والعربات، والشاحنات يعبرون فوقه بدون انقطاع. لاحت العربات المسحوبة بالبغال، وهي تترنح على الضفة الأخرى الشديدة الانحدار، مما جعل الجنود يدفعون بكل قوتهم ضد اشعة الدواليب المتحركة نحو الاسفل. كانت الشاحنات اكثرا ثباتا في صعودها،  وما ان تغادر الجسر حتى تمضي بعيدا، والفلاحون كانوا يجرجرون خطواتهم فوقه، وسط الغبار السميك المتطاير فوق رؤوسهم، لكن الرجل العجوز ظل جالسا في مكانه بلا أي حركة. كان جد متعب للذهاب إلى أي مكان ابعد.

كانت مهمتي ان اعبر الجسر، وامضي قليلا وراءه، لمعرفة مدى اقتراب العدو منه. لم يكن هناك الكثير من العربات آنذاك، في الوقت الذي لم يبق الاّ قليل جدا منالمشاة فوقه، لكن الرجل العجوز مازال في مكانه.

سألته: “من أين جئت؟”

“من سان كارلوس.”

كانت تلك مدينته الأصلية، لذلك فان ذكرها منحه شيئا من الغبطة، جعلته يبتسم.

شرح قائلا: ” أنا كنت أرعى مجموعة من الحيوانات”.

نبست دون فهم ما قاله: “ها…” اضاف الشيخ شارحا: “نعم.. لذلك بقيت في البلدة، للعناية بالحيوانات، انا آخر من خرج من سان كارلوس”.

لم يبد عليه ان يكون راعي بقر او غنم، قلت له وانا اتطلع الى ملابسه السوداء المغبرة، ووجهه الكامد اللون، والى نظارته ذات الاطار الحديدي:” ما نوع تلك الحيوانات؟”

“انها من فصائل متعددة”. قال ذلك، ثم هز رأسه: “كنت مجبرا على تركها”.

 

مضيت اراقب الجسر وريف مقاطعة دلتا ايبرو، الشبيه بالريف الافريقي، متسائلا في نفسي، عن مقدار الوقت المتبقي قبل ظهور العدو أمامي، حيث سيصل الى سمعي اولا ذلك الضجيج الذي يدل على وقوع حادثة، غامضة، يُطلَق عليها باللغة العسكرية: الاحتكاك الاول، والرجل العجوز ما زال متربعا فوق الأرض.

“أي حيوانات كانت معك؟”

“كان لدي ثلاث فصائل.. عنزتان وقط، ثم هناك اربعة ازواج من الحمام”.

“وانت كان عليك ان تتخلى عنها؟

“نعم بسبب القصف المدفعي. الكابتن طلب مني المغادرة بسبب القصف.”

“وانت لاعائلة لديك؟” سألته وانا اراقب نهاية الجسر، حيث ما زال هناك عدد ضئيل من العربات مسرعة في هبوط ضفة النهر.

“لا”، قال الشيخ، “لم اترك ورائي سوى الحيوانات. انا متأكد من نجاة القط. القط دائما حذر، لكنني لا اعلم ما سيحدث للبقية”.

سألته: “ما هو موقفك السياسي؟”

“ليس لدي اي موقف سياسي”، قال الشيخ، “انا عمري ست وسبعون سنة، ورغم ذلك اجبرت على المشي اثني عشر كيلومترا، والآن لا استطيع الذهاب ابعد من ذلك”.

قلت للشيخ:”هذا ليس مكانا جيدا للتوقف عنده.. اذا كنت تستطيع المشي، هناك شاحنات على الطريق المتشعب باتجاه تورتوسا”.

“انا سأنتظر قليلا، ثم اذهب.. اين تمضي الشاحنات؟”

“باتجاه برشلونة”

“انا لا اعرف احدا على ذلك الاتجاه”، قال الشيخ، “لكنني أشكرك كثيرا…شكرا جزيلا مرة أخرى”.

نظر اليّ دون تركيز، بعيون متعبة، ثم تكلم بنبرة قلقة عن شخص قريب له: “القط سيكون بخير، انا متأكد من ذلك، ليس هناك أي مبرر للقلق عليه، لكن البقية… ماذا تظن قد حدث للبقية؟”

“قد تكون جميعها خرجت سالمة من التجربة”.

“هذا ما تظنه؟”

“ولمَ لا؟” قلت ذلك وأنا أراقب الضفة البعيدة، حيث لم يبق أي اثر للشاحنات آنذاك.

“لكن ما الذيستفعله تلك الحيوانات تحت القصف؟”

“هل تركت قفص الطيور مفتوحا؟”

“نعم”

“إذن فالحمام سيطير”.

“نعم بالتأكيد سيطير، لكن البقية؟”

اضاف مستدركا:” من الافضل عدم التفكير بالبقية”.

قلت حاثا اياه على الحركة:”انا سأذهب الآن.. انهض وحاول المشي”.

“شكرا لك”، ابتسم لي، ثم نهض واقفا، لكنه راح يترنح من جانب الى آخر. جلس ثانية، باتجاه معاكس لي، فوق التراب.

“انا كنت معتنيا بالحيوانات فقط”. قال ذلك بنبرة رتيبة، لكنني كنت بعيدا عنه لسماع جملته، المتكررة: “انا كنت معتنيا بالحيوانات فقط”.

لم يكن بالإمكان عمل اي شيء لمساعدته. كان اليوم أحد الفصح، والفاشيون يتقدمون باتجاه ايبرو. وكان نهارا، ملبدا بالغيوم الرمادية الهابطة، الى ارتفاع قليل، مما جعل  طياراتهم جاثمة في مواقعها. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان حقيقة كون القطط تستطيع العناية بنفسها، هو كل ما تبقى عند الرجل من حظ حسن.

 

اقرأ ايضاً