أشك أنني كنت سأصبح كاتبا لو أنني لم أقم في وهران

2٬080

يعترف الكاتب والمترجم العراقي لؤي عبد الإله، أنه ما كان ليصبح كاتبا لو أنه لم يجئ إلى الجزائر ويقيم في وهران بالذات، حيث عمل في التدريس ضمن البعثة العراقية لنحو 10 سنوات قبل أن يغادر إلى لندن عام .1985 ويؤكد عبد الإله في حوار أجرته معه ”الفجر” بلندن، حيث يقيم منذ 23 عاما، أن مغادرته للجزائر تركت فجوة ما زالت قائمة في سياق حياته
ما زالت تحضرني غصّة فقدان الشاعر الجميل بختي بن عودة

وأنه يشعر بانتماء مزدوج يتراوح ما بين الجزائر والعراق، مشددا أنه ”لو قدّر له أن يختار فسيعيش بين بغداد ووهران·· خريج كلية الرياضيات بجامعة بغداد·· أصدر عبد الإله مؤخرا روايته الأولى ”كوميديا الحب الإلهي” بعد 3 مجموعات قصصية·

بعد ثلاث مجموعات قصصية نشرت أول رواية ”كوميديا الحب الإلهي” التي تتحدث عن الشيخ الأندلسي محيي الدين بن عربي وأفكاره ·· لماذا كل هذا الانتظار؟

لم يكن هناك أي انتظار· الفارق بين كتابة مقالة أو دراسة وبين كتابة عمل قصصي (سواء قصة أو رواية) هو أنك في الحالة الأولى تتخذ قرارا للقيام بذلك، ثم تشرع ببحثك· بينما في الحالة الثانية، هي تجري على مستويات أكثر تعقيدا (أو هكذا الحال معي)· أولا هناك فكرة ما تمر على الذهن، لتتحوّل بعد فترة إلى نوع من الهاجس الداخلي، ثم يتناولها العقل الباطن، ليشارك في نقلها من شكلها المجرد إلى شكل قصصي، كل ذلك يحدث بعيدا عن قرارات الكاتب· هناك قصص ظلت تسكنني سنوات قبل التمكّن من سكبها على الورق· الفارق ما بين القصة والرواية هو في عدد الثيمات الخاصة بهما· ففي حالة القصة هناك تيمة واحدة يجري نسج الخيوط حولها إلى الحد الذي تختفي عن الأنظار ويبقى النسيج· مثلما هو الحال مع خياطة السترة التي لا يمكننا معرفة بواطنها إلا بقلبها وتفكيكها، وهذا قد يعني إتلافها! في حالة الرواية هناك مجموعة من الثيمات تترابط مع بعضها البعض فتجبرك على اختيار طريق مخالف لطريق كتابة القصة· هذا الترابط هو ليس اختياريا؛ بل هو ثمرة السباحة في مجرى الحياة والسماح لقلبك وعقلك في المضي معه مستقبلا كل ما يأتي إليك·

لذلك لا أجد أن هناك فرقا بين القصة والرواية إلا بكونهما صنفين أدبيين يشتركان في عناصر معينة ويختلفان في عناصر أخرى· والزمن الذي تأخذه الرواية من ناحية الحجم قد يكون مماثلا لزمن القصة· ”كوميديا الحب الإلهي” استغرقت ما يقرب من عشر سنوات والقصة الأولى التي نشرتها في مجلة الآداب ”طيور السنونو” تطلّبت ما يقرب من سنة· ربما ليس في الكتابة فقط، بل في التفكير والتأمل بتفاصيلها·

بشكل عام، أنا منجذب أكثر للقصة القصيرة، فهي المجال الذي يتيح للكاتب التحرر أكثر من مادة التاريخ، والاقتراب أكثر من الفن؛ بل هي تتيح التحرر حتى من المكان· في المجموعة القصصية الأخيرة ”رمية زهر” تنحو بعض نصوصها إلى التحرر من المكان وبناء مناخ قريب من الحلم مع الالتزام بثيماتها الفردية·

أي ”غواية” أغرتك لدخول عالم الكتابة الأدبية وأنت المتخرج من كلية العلوم ببغداد في اختصاص الرياضيات؟

إذا سألتك أن تعدِّد لي عشرين روائيا معروفين عالميا، من الأحياء والموتى ستفاجأ بأن أكثرهم جاءوا من حقول أكاديمية بعيدة نسبيا عن كليات الآداب واللغات: فهناك المحامون والمعماريون وسائقو السيارات والرياضيون والفيزيائيون والأطباء والأنثروبولوجيون والأركيولوجيون والنحاتون والجواسيس وغيرهم· لهذا السبب قد لا يكون غريبا بالنسبة لرياضي متواضع مثلي أن يجرّه مغناطيس الكتابة القصصية على الرغم من تعلقي بالرياضيات· حتى اليوم هناك حلم يراودني أن أعود يوما وأكمل دراستي العليا في حقل الرياضيات التجريدية بعد توقفي عنها وانصرافي إلى الأدب·

انتقلت إلى الجزائر عام 1976 للتدريس ··كيف كانت إقامتك في مدينة وهران بالذات·· وأي ذكريات ما زالت تحتفظ بها؟

للجزائر موقع خاص في كياني، ولوهران بالذات مكانة في روحي، ومغادرتي لها تركت فجوة ما زالت قائمة في سياق حياتي· حينما غادرت الجزائر عام 1985 لم يكن يدور ببالي أنني لن أعود إلى أشيائي التي تركتها ورائي أو أنني لن ألتقي بالأصدقاء مرة أخرى·
أستطيع أن أعترف اليوم أنني مدين للجزائر بالتحوّل تماما إلى الكتابة القصصية· وهذا من دون شك كان بفضل المناخ الرائق المملوء بالآمال الذي كانت الجزائر تعيش فيه· البحر وأجواء العمل الحميمة والصحبة الجميلة مع زملاء وطلاب وأصدقاء كانت كلها وراء إعادتي إلى الكتابة التي تركتها منذ أيام الدراسة الجامعية· لا بد أنني كنت مسكونا بكامو وكاتب ياسين وسعدي يوسف ومالك حداد والطاهر وطار في خطواتي داخل هذه المدينة التي غيّرت للتو أسماء شوارعها وخرائطها وإشاراتها وأسماء محلاتها بين ليلة وضحاها، متبنية هوية ولغة جديدة·

لعلّي أستطيع القول إن الشبوبية التي كانت تتداخل في هواء وهران وتدفق الحيوية في دماء الشباب وهم يمضون على جبهة النهر أو في شارع العربي بن مهيدي أو على الشواطئ الكثيرة الممتدة بجوار المتوسط، كانت توحي بعالم متحرّر من قيود ماضيه مثلما هو الحال مع الشرق الأوسط، والعراق مثل على ذلك· هناك تعود أحداث مر عليها أكثر من ألف سنة وكأنها جرت أمس لتستمر في صياغة الحاضر· أو تلك القيود التي تمثلها العادات والتقاليد فتدفع الشباب صوب نشاط واحد مقبول اجتماعيا: العمل السياسي والارتباط بالأحزاب السياسية· هنا في وهران بدا لي العالم وكأنه خلق للتو، غضا وجميلا وبريئا ومتدفقا· هل أقول إنني تذوّقت البهجة الحقيقية في وهران لأول مرة في حياتي؟ البهجة المتحرّرة من التاريخ والماضي والأحزاب السياسية المتحاربة· ولا بد أن ذلك جعلني أعيد النظر بتجربة حياتي في العراق حتى تلك اللحظة· وأصبحت الكتابة في البداية وسيلة لفهم أسباب الأزمة العميقة التي كان يعيشها العراق في النواحي السياسية والثقافية والاجتماعية·

أشك أنني كنت سأصبح كاتبا قصصيا لو أنني لم آت إلى الجزائر وأقيم في وهران· فهذا النوع من الكتابة يحتاج إلى نوع محدد من النشوة الروحية وتوق عميق للحياة بمتعها الأولية البسيطة: لون السماء والبحر والبيوت ذات السقوف القرميدية الحمراء والأمسيات الحافلة بالموسيقى والجدل· كانت وهران آنذاك مدينة كوسمبولوتية بجدارة· فالكثير من الكوادر اليسارية الغربية والمشرقية جاءت إليها وعملت في معاهدها وجامعاتها ومصانعها· فأنت بدلا من أن تسافر لاستكشاف شعوب أخرى أتاحت وهران فرصة للالتقاء بأفضل الشخصيات الملتزمة من شتى أنحاء العالم· كان هناك أطباء من أمريكا اللاتينية ومهندسون من ألمانيا الغربية وأساتذة من فرنسا وغيرهم·

خلال كل سنوات عيشي في الجزائر لم أذهب إلى أوربا سوى مرتين ولأغراض عائلية· فما كان في الجزائر أجمل من أن يعوضه أي بديل في العالم·
الشيء المؤسف أن التواصل مع أصدقائي في وهران قد انقطع لحد ما باستثناء التواصل المتباعد مع أجمل وأطيب صديق تعرفت عليه في حياتي: عمار يزلي·
لقد جاءت كوارث التسعينيات لتوقظني من وهمّي بأن الجزائر(ودول المغرب العربي بشكل عام) محصّنة ضد الماضي· لكن الماضي الذي انتقل إليها من الشرق الأوسط تمكّن أخيرا من التغلغل في روحها، ليدخل أبناءها في نفس المعمعة القائمة في الكثير من مجتمعات المشرق· كم أتمنى أن يكون ذلك مجرد كبوة، تتجاوزها الجزائر وتسترجع تشبثها بالحاضر والمستقبل والحياة·

أي أفق أدبي وثقافي وفّرته لك لندن؟

من الصعب أن أحدّد بالضبط ما وفّرته لي لندن· لا بد أن الشعور العميق بالنفي هو الذي تشكل في أعماقي: النفي من العراق جنبا إلى جنب مع النفي من الجزائر· فلسنوات كنت عاجزا عن مغادرة بريطانيا· لكن فرص العمل في مجالات أخرى كالكتابة إلى الصحف والمجلات العربية والتدريس لساعات متفرقة في بعض المعاهد المخصصة للراشدين أتاحت لي ارتباطا مزدوجا بالوسطين العربي واللندني· كذلك كان الشعور العميق بالمجهولية في مدينة تمتد أفقيا بقطر يصل إلى 80 كيلو مترا، يجعلك قادرا أن تعيش في مسكنك لأشهر من دون أن يطرق شخص ما بابك· إضافة إلى ذلك، بدأت أتحوّل في قراءاتي تدريجيا إلى الإنجليزية وهذا ما فتح لي بابا واسعا للتعرف على الكثير من الكتّاب الذين سبق لي أن قرأتهم مترجمين بشكل غير مكتمل إلى العربية· الشيء الأساسي الذي توفر في حياتي هو الاستقرار، لا بالمعنى الشخصي، بل لأول مرة أعيش في بلد لا تتغير سياساته كل سنتين أو ثلاث ليدفع بأبنائه ذات اليمين وذات الشمال· وبالتأكيد لم يكن ذلك ثمرة لجهود الأفراد؛ بل هو ثمرة زمن طويل استمر قرونا تم خلاله تشكل الدولة ومؤسساتها العريقة· لذلك، فمن يريد أن يقارن الحاضر السائد في العراق أو في أكثر من بلد عربي قد يحتاج إلى العودة إلى بريطانيا القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر ليفهم أن ما تحقق اليوم لم يأت هبة من دون أن يأخذه مساره التاريخي· حينما تدخل إلى مكتبة جامعية تكتشف الفيض الهائل من الكتب التي يمتد حيزها لعدة قرون· هنا يجلس الكتّاب الموتى والأحياء يتطلّعون إلى القرّاء العابرين متوسّلين أن يمدوا أيديهم لكتبهم الساكنة وسط هدوء الأبدية البارد·
تشتغل في الصحافة في لندن إلى جانب الترجمة ··في اعتقادك هل العمل الصحفي مكمّل للعمل الأدبي أم بالعكس استنادا إلى الطبيعة الاستنفاذية للطاقة الفكرية من طرف الصحافة؟
بالتأكيد هو ليس مكمّلا وليس معاكسا للكتابة الأدبية· إنه مثل أي عمل آخر· المعادلة الأساسية : هو كم يبقى من الوقت في يديك للقراءة أو لعائلتك وأصدقائك أو للكتابة؟ وكيف يتمكّن المرء من استخدام وقته الحر بطريقة رشيدة· إنه جهد مضن هنا في لندن، مع اتساع المدية والوقت الذي نقضيه في التنقل·

إلى جانب الكتابة الأدبية، لك إسهاماتك أيضا في الترجمة الأدبية، حيث ترجمت ”خيانة الوصايا” لميلان كونديرا إلى العربية ··لكن لم نشهد لك شيئا آخر بعد ذلك؟

كنت أتمنى أن أترجم الكثير من الكتب التي قرأتها وأحببتها في مجالات عديدة· أنا مهتم بها منذ سنوات مثل الفلسفة والنقد الأدبي وعلم النفس التحليلي وعلم الفضاء ونظرية الكم وتطبيقاتها الحديثة والرواية وغيرها، لكن ترجمتي لكتاب ميلان كونديرا، التي استهلكت مني وقتا طويلا استمر لأكثر من سنة ونصف، وما تطلّبه من جهود لإتقان عدة حقول من بينها قراءة النوتة والعمل مع الموسيقي العراقي أحمد مختار لإيجاد الصياغات المناسبة للمفاهيم الموسيقية بالعربية وإعداد قاموس ملحق بالمصطلحات التي شملها الكتاب، فوجئت بأن كل هذا الجهد قوبل بمنحي عشرين نسخة من الكتاب قمت بتوزيعها على الأصدقاء· فلم أستلم من الناشر أي إشعار عن الكتاب، هل حقق نجاحا ما؟ هل استفاد الناشر ماديا من طبعه؟ هل أعيد طبعه ثانية؟ لا شيء· ويبدو أن هذه هي حال المترجم العربي بشكل عام· أن تعيش في بلد مثل بريطانيا عليك أن تستخدم كل ساعات عملك كي تتمكّن من تدبير أمور عيشك من دون الوقوع في مطب الديون المصرفية·
في حالة توفّر عروض جادة للترجمة من دور نشر محترمة سأعاود مساهمتي، فأنا أعرف كم ساهمت الترجمة في تكويني وتكوين أبناء جيلي خلال سني المراهقة والشباب المبكر· ومترجمون مثل مصطفى سويف وجورج طرابيشي تركوا بصماتهم على تشكل أجيال، أو على الأقل على نخبة منها·

هل تشعر فعلا أنك ”تخون” وأنت تترجم عملا أدبيا؟!

أظن أن الخيانة شرط أساسي لنقل نص أدبي من لغة إلى أخرى، فأنت تجد في غالب الأحيان ضرورة العثور على معادل في اللغة الجديدة، التي هي محمّلة بدلالاتها الثقافية والسيكولوجية والمجازية، إضافة إلى إيجاد الإيقاع المعادل لها في اللغة الجديدة·
المترجم الغربي يعاني أقل بكثير من المترجم العربي، فخلفية لغته الممتدة إلى اللاتينية تعطيه أرضية مشتركة للمصطلحات مع بعض التحوير، بينما نحن نواجه سعيا للعثور على مصطلحات جديدة بالعربية أو أن نأخذ المصطلح اللاتيني ونكيّفه إلى العربية مثلما فعل أسلافنا المترجمون في العصر العباسي حينما حوّروا تعابير مثل الفلسفة والموسيقى لتكون مقبولة من الأذن العربية بينما عثروا على مفردة لا صلة لها بالأصل مثل ”لوجيكا” التي ترجمها ”المنطق”·
الترجمة الأدبية هي إبداع حقيقي في بحر اللغة· أن يتمكّن المترجم من إثارة نفس التأثير الذي تركه النص الأصلي في نفوس قراء اللغة الأصلية لهو إنجاز هائل·

هل تتابع المشهد الثقافي والأدبي في الجزائر·· وما رأيك في حركيته إن وجدت؟

مع الأسف لم أتمكّن من التواصل كثيرا في هذا المجال وهذا تقصير مني· لكن سنوات التسعينيات بكل ما حملته من قسوة والظروف التي مر بها الشرق الأوسط خلال هذا العقد أضعفت جسور الاتصال، فأنا زرت الجزائر مرة واحدة منذ منتصف الثمانينيات ولمدة أربعة أيام، قبل ثلاث سنوات تقريبا، وكانت استجابة لدعوة للحضور في ندوة خاصة بأدب الرحلات·  أستطيع القول إن هناك جزءا من ذاتي يحلم دائما بالعودة إلى الجزائر والعيش في وهران· ولعلّي أقول إن الانقطاع عن الأصدقاء لا يعني بأي حال قطيعة· فنحن في كل لحظة نستحضر كل خيوط حياتنا، وبالتأكيد نستحضر فيها أواصرنا الجميلة بالأصدقاء· في هذه اللحظة التي يحضرني ذكر الأصدقاء الجزائريين تحضرني غصّة فقدان ذلك الشاعر الجميل بختي بن عودة·
قد أستطيع القول إنني أشعر دائما بانتماء مزدوج يتراوح ما بين الجزائر والعراق· ولو قدّر لي أن أختار فسأعيش بين بغداد ووهران·· لا بد أن ذلك لا يعدو سوى وهم· فأنت لا تعبر الجسر مرتين، فالمياه التي كانت تتدفق تحتك ما عادت نفسها· ولعل الكتابة الأدبية هي التعويض عن الزمن الضائع· إعادة صياغة الماضي أدبيا هو العزاء الوحيد·
هناك الكثير الذي كان بودي أن أكتبه عن الجزائر· ما زالت تسكنني مشاريع هلامية تبحث عن فرص وإمكانيات، ولعل المستقبل يحمل في طياته عروضا من هذا النوع·

حاوره في لندن: حميد بن عمار

اقرأ ايضاً