الجزائر أواخر السبعينات: زمن البراءة

2٬937

(1)

كلما حضرت الجزائر إلى ذاكرتي تحضر معها سماء متألقة بزرقة عميقة. ولعل هذه الصورة  تشكلت لحظة وصولي إلى مطار الجزائر يوم 10 أكتوبر 1976، حينما وصلت ضمن عدد كبير من المدرسين المبعوثين من العراق للعمل في الجزائر لفترة لا تزيد عن أربعة أعوام. كانت الطائرة عملاقة من نوع “جَمْبو” وخلال وقت الرحلة التي استغرقت ما يقرب من خمس ساعات ظل الكثير من الصغار والكبار يتنقلون فوقها وكأنهم في قاعة كبيرة. فأكثر القادمين كانوا يسافرون للمرة الأولى جوا ومعهم حضرت أسرهم فكأنهم بهذه الرحلة وهذا التغير الكبير يكسرون قدرا مرسوما لهم للبقاء في نفس المدينة ونفس المدرسة حتى وقت التقاعد وتحت هذه الحالة الانفعالية الممزوجة بين الفرح والحزن: الفرح للذهاب إلى بلد متألق في ذاكرة الحاضرين بفضل أخبار الثورة الجزائرية والحزن لفراق الأقارب والأصدقاء راحت المطالب تزداد على مضيفي الطائرة جعلتهم في الأخير أشبه برقاصات الساعة، في وقت تحولت أرضية الطائرة ملعبا لبعض الأطفال.

أتذكر أننا بقينا في العاصمة ثلاث ليالٍ حيث أقمنا في قسم داخلي خاص للطلبة، قبل أن يتم توزيعنا على مدارس الجزائر. ولم يتحكم بالاختيار سوى الحظ المحض. كانت كل مدينة وبلدة جزائرية رقما في صندوق يانصيب وهمي. وجاءت المفاجأة السارة بالنسبة لي ظهور تعييني في وهران.

قبل التوجه إلى مدينة إقامتي الجديدة قررت البقاء في العاصمة ثلاثة أيام أخرى. كان السبب وراء ذلك عثوري على صديق من بغداد سبق أن وصل إلى الجزائر قبلي بعام واحد. وتحت إلحاحه قمت بنقل حقائبي إلى شقته.

خلال فترة إقامته القصيرة تمكن ناظم من تكوين شبكة علاقات واسعة تتراوح بين عمال مقاه ومطاعم مرورا بكتّاب جزائريين ناشئين يستخدمون العربية وانتهاء بعدد واسع من المغتربين العرب، أغلبهم من العراقيين الذين هربوا من تصفيات أواخر الستينات والتي شنها الحزب الحاكم في العراق ضد التنظيمات اليسارية الداعية للتغيير عبر الكفاح المسلح. ولعل نماذج من هؤلاء كانوا على صلة وطيدة بالروائي السوري حيدر حيدر  بحيث أصبحوا الأبطال الأساسيين في روايته «وليمة لأعشاب البحر». مع ذلك وضمن ذلك العدد الصغير من العراقيين كانت الشكوك تبرز بين بعضهم البعض: من منهم تم اعتقاله على يد رجال الأمن وحُوِّل إلى مخبر ومن منهم تم إعدامه. تعرفتُ من خلال ناظم على مهندس عراقي شاب اضطر لمغادرة العراق هربا قبل ثلاثة أشهر فقط. كان صلاح يعمل في مكتب هندسي صاحبه معماري مشهور. ومن خلال مراقبة ما كان يجري في المكتب اكتشف الماركسي- الوجودي صلاح أن رب عمله يقوم بأعمال احتيال يتضرر منها القطاع العام. وحينما صارحه بادر الأخير بطرده بعد شجار حاد بينهما. وتحت وطأة الشعور بالظلم والمهانة قدم صلاح شكوى ضد المعماري الشهير. ولم تمض مدة طويلة حتى استدعي ليؤدي شهادته أمام محكمة الثورة.  بدا  كل شيء  عاديا له عند ذهابه إلى ذلك الموقع المخيف. ولم يراوده أي هاجس من احتمال تحول المحاكمة إلى كابوس، فهو في نهاية المطاف شاهد ليس أكثر. كانت ملامح صلاح توحي كثيرا بأنه البطل «كاف» في رواية فرانتس كافكا «المحاكمة». ولعل ذلك كان وراء انقلاب مسار المحاكمة سريعا لتأخذ طابعا كافكويا. فجأة انقلب مسار الأمور داخل القاعة: أصبح الشاهد متهما وأصبح المتهم ضحية للشاهد. وطلب من المتهم مغادرة قفص الاتهام في الوقت الذي طلب من الشاهد أن يحل محله.

أطلق سراحه بكفالة على أساس البدء بمحاكمته خلال ثلاثة أشهر. ولا بد أن وجود جواز سفر في حوزته ضربة حظ لن تعوض مما دفعه للسفر فورا إلى الجزائر. حتى حينما كان صلاح يحكي  تلك القصة، بدا لي كأنه مستمتع بذلك القدر، فلولا ذلك لما تمكن من القدوم إلى الجزائر. إنه الآن يعمل في مكتب هندسي كبير، وفر له شقة جديدة في حي القبة. وأصبحت بعد 3 سنوات ملاذا لاستقبال أسر يسارية كثيرة هربت من العراق بعد وصول صدام حسين إلى الرئاسة وبدئه بحملة دموية ضد الجميع بمن فيهم الكثير من رفاق دربه الذين عارضوا إزاحته للرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر والحلول محله بدون الرجوع إليهم.

كانت دماثة ناظم النادرة وراء نجاحه في إقامة كل هذه العلاقات، إضافة إلى قدرته في تبديل اتجاه الحديث من مكان إلى آخر بطريقة مثيرة للدهشة: فأن يدور حديثه مع نادل في مطعم عن المواد الأولية لهذه الطبخة أو تلك والطريقة التي يمكن إعدادها لا يتعارض مع البدء بالانغمار في حديث عن الشعر أو الرواية أو الفلسفة عند انتقاله إلى مقهى اللوتس القريبة من ذلك المطعم.

هنا في هذا المقهى الذي يتمتع بطابع فرنسي كلاسيكي، حيث الجدران مغطاة بخشب الصنوبر اللامع، يتكون لديك انطباع سريع بأنه المكان المخصص لالتقاء  البشر القادمين من القارات الخمس بعضهم ببعض. كذلك كان بإمكانك  أن تعرف وجود هذا الصديق أو ذاك من خلال إلقاء نظرة سريعة صوب الموقع الذي يجلس فيه بانتظام. كان مناخ ذلك المقهى يضج بالحياة، وما زاد من تألق جوه تجاور جامعة الجزائر له. فبين أروقة الجامعة  كانت تدور بانتظام مهرجانات أدبية باللغة العربية التي بدأت للتو بالظهور على استحياء عبر شعراء وقاصين أغلبهم من الطلبة. كانوا يأتون من جامعات موزعة في شتى أنحاء الجزائر.(سيبعث لي ناظم لاحقا بأسماء بعض الكتاب الواعدين الذين تعرّف عليهم والذين قدموا من وهران ضمن أحد المهرجانات الثقافية. كان من بينهم الروائي أمين الزاوي).

كانت تلك الأيام الثلاثة التي قضيتها برفقة ناظم شبيهة بفترة الإعداد للدخول إلى عالمي الجديد الذي سيصبح وطنا ثانيا لي. أو بالأحرى كان ناظم معلمي الذي راح يقودني عبر شارعي الأمير عبد القادر وديدوش مراد، للمرور بطقوس العبور التي بدونها ستظل وهران لغزا مغلقا أمامي. هنا يتلمس المرء حجم الحرية التي كان الهواء يتقطر بها: كأن المرء يدخل إلى كوكب مولود للتو. وما منح هذا المناخ توقده هو غياب الحواجز التي تقف باستمرار في وجه الفرد مع مجتمع ما زال يضع أولى خطواته في إدارة نفسه: كل شيء كان في طور التجريب. كانت عناوين المحلات على امتداد الشوارع تحمل أسماء فرنسية وعربية.  وعلى شارع الأمير عبد القادر يمكن للمرء أن يكتشف هناك عدة مكتبات أغلبها تبيع كتبا باللغة الفرنسية فقط. ما اكتشفته آنذاك هو وجود خط فاصل بين الكتب من حيث اللغة لا المضمون. كانت كل النتاجات المعاصرة متوفرة في المكتبات الخاصة بالكتب الفرنسية، أما في المكتبات العربية فلن يجد المرء سوى تلك الكتب المعنية بالتراث من زاوية محدودة. ولم يكن سهلا العثور على الكتب المترجمة للعربية  أو لبعض أبرز المفكرين العرب  آنذاك مثل حسين مروة أو زكي نجيب محمود أو عبد الرحمن بدوي.

ما أثار دهشتي في العاصمة آنذاك هو معمارها، الذي يتماشى مع المعمار الكلاسيكي الحديث الذي ساد في فرنسا أولا في نهاية القرن التاسع عشر ثم انتشر إلى أوروبا. لكن ما يجعل هذا المعمار خاصا ومتألقا هو اللون الأبيض الذي كانت المباني ترتديه بإصرار. هنا في الجزائر ينتابك شعوران مزدوجان: أنت في مدينة أوروبية تتمتع بخلاصة فن المعمار الكلاسيكي الحديث الذي له امتداداته بفن الباروك، لكنك في الوقت نفسه تتنفس الحرية: الحرية الناجمة عن عالم في طور التشكل ومحكوم بالدهشة. كذلك هي ناجمة عن سهولة الحركة التي يوفرها الطقس المعتدل بشكل مثير للاستغراب. ووراء كل ذلك هناك شمس من نوع خاص تجعل أي بقاء طويل خلف الجدران تضييعا للوقت وبالتالي ما جدوى أن يمتلك المرء أثاثا فاخرا جدا أمام إغراء عناصر الطبيعة التي تآمرت في هذه البقعة على جذبه إليها: البحر والسماء الملتقيان عند حافة الأفق وبينهما تسكن شمس رؤوم.

بفضل ناظم تعرفت على الطعام الجزائري في أحسن أحواله: الكسكسي والحريرة والمرغاز. وبفضله تعرفت على خارطة المغتربين العرب، وبعض زوايا العاصمة الحميمة. هاأنذا أصبح  على استعداد للتوجه إلى وهران، وكأن الأيام الثلاثة الأخيرة حققت هدفين معا: دفعي إلى عالم متألق جديد صريح ولعوب وقطع أواصري مع عالم محكوم بتقاليد خانقة وعيون سلطة تطمح إلى مراقبة أنفاس رعاياها.

قبل سفري إلى وهران ذهبت إلى مقهى اللوتس. كنت متواعدا مع ناظم وصلاح للالتقاء بهما بعد خروجهما من العمل عصرا. وهناك التقيت بحيدر حيدر. كنت قد قرأت له بعض القصص القصيرة. ومن خلال ناظم علمت أنه على وشك مغادرة الجزائر. «إلى أين ستذهب؟» سألته مندهشا. «إلى العراق» أجاب مبتسما. ولعله علق ضاحكا: «أنت تخرج منه وأنا أذهب إليه». لم أسأله عن سبب ذهابه إلى العراق. لكنني اكتشفت الدافع وراء قراره حينما قرأت روايته «وليمة لأعشاب البحر» بعد أكثر من عشرة أعوام في لندن. هناك مشهد الأهوار الساحر الذي يتحرى حيدر عبره الأساطير السومرية لإسقاطها على الحاضر سعيا لاكتشاف بعده الأسطوري الحي.  ولعله ذهب إلى العراق وعمل هناك وتحرى بصمت المناخات التي أفرزت أبطاله. لكن كل ذلك يحتل مرتبة ثانية بالنسبة للوقوف أمام الأهوار نفسها ذلك الجسم الذي يعود إلى زمن السومريين وزمن بدء الخلق حسب الأسطورة السومرية. لن تمضي أكثر من عشرة أعوام قبل البدء بإزالة هذا الأثر العجيب تحت ذرائع دنيوية تتحدد بالخوف على فقدان السلطة الفردية.

(2)

كم يبدو الفارق مثيرا للدهشة بين الجزائر العاصمة ووهران من حيث علاقتهما بالبحر. فمع الأولى تطالعك زرقته المتألقة أينما كنت في هذا الشارع أو ذاك، أما في وهران فأنك لن تراه إلا إذا ذهبت بنفسك إليه، على الرغم من قصر المسافة الفاصلة بينهما. كذلك فإن الجزائر تهبط صوب البحر لتزرع شعورا فيك من أن البحر هو قاع المدينة: إنه المرآة العاكسة للسماء وفي الفراغ الفاصل بينهما ستجد نفسك معلقا. وهذا ما يمنحك شعورا بالطيران. الفارق الآخر بينهما هو حجم الخضرة خصوصا في موسم الربيع. فإذا كنت تريد اكتشاف حلوله في وهران عليك أن تترك المدينة وتذهب إلى القرى القريبة منها كي تشاهد أشجارا وأزهارا. أما في العاصمة فالخضرة حاضرة في كل مكان. وكأن الجزائر نمت من قلب غابة. أتذكر تلك الأشجار العملاقة في شارع ديدوش مراد، ولا أستطيع أن أحدد نوعها الآن بعد غياب عشرين عاما: هل هي من فصيلة الدردار أم الزان؟ يجب القول إن هناك جهودا بذلت لكسر هذه القاعدة في وهران من خلال شتل تلك الشجيرات الصغيرة التي لا تحتل مساحة كبيرة بالقرب من ساحة الأسلحة حيث تقع البلدية.

كان علي أن أبقى أياما قليلة في فندق قبل الحصول على سكن. ولا بد أن اسمه كان وراء اختياري له: الحيات. في البدء حضرت إلى ذاكرتي رواية فرنسية ترجم عنوانها إلى العربية:  «بؤرة الأفاعي»، لكنني لم أكتشف أي علاقة بين الفندق وعنوانه. هل يمكن أن تعني كلمة الحيات الحياة؟

وهذا ما اتضح بعد يوم واحد: حينما خرجت أتجول في المدينة اتضحت لي تلك التعابير المأخوذة من القاموس للتو: الديوان القومي للأنعام، مطعم عندنا، جزار الشعب… فهمت بعد ذلك أن التعريب وصل إلى مرحلته الأخيرة. فالموعد الأخير على وشك الحلول. جذبتني تلك اللافتات العريضة المعلقة على امتداد عرض الشارع. ما أثار دهشتي هو استخدامها للمعادلات الرياضية: على سبيل المثال لا الحصر: العدالة الاجتماعية= تعليما وطبا مجانيين.

وإذا كان الانطباع الأول يجعلك تفكر بالعراق فإن الصورة تتغير حالما تدخل ضمن مؤسسة عمل جزائرية. كان معهد المعلمين الذي تعينت فيه يقع خارج المركز بالقرب من أحياء سكنية جديدة راحت تنمو ببطء. يحضرني اسم أحدها: حي اللوز المعروف بعذوبة ماء حنفياته بعكس الكثير من أحياء وسط وهران. وهناك اكتشفت حقيقة: لا يمكن أن  يطبق أي نموذج استبدادي في الجزائر بسبب طبيعة أبنائها المعارِضة لأي شكل من أشكال السلطة.

تحضرني تلك الاجتماعات الشهرية التي كانت تدور لمدرسي المعهد. فبدلا من أن تصبح  وسيلة لإيصال التعليمات من الأجهزة العليا، كانت مكرسة في الغالب لتوجيه انتقادات حادة تجعل المدير (وهو إداري قديم ينتمي إلى ما قبل الاستقلال)  في وضع لا يحسد عليه. كذلك هو الحال مع مساعده. ولا أتذكر أن اجتماعا انتهى بنتائج إيجابية أو اتفاق على خطة عمل جديدة. الشيء الرائع الذي لم يكن ممكنا حدوثه في العراق هو الروح الرياضية التي يتمتع بها الزملاء الجزائريون، ففي اليوم اللاحق لذلك الاجتماع الحاد تجد الكل يصافح بعضهم البعض صباحا وكأن لم يحدث أي جدل حاد قبل أقل من 24 ساعة.

هذه الاجتماعات كشفت لي جانبا مهما في الشخصية الجزائرية: صراحة الفرد الشديدة في التعبير عن رأيه. لكنها في الوقت نفسه تعكس شيئا مشتركا يجتمع العراقيون والجزائريون عليه: صعوبة التوفيق بين الآراء المختلفة وصعوبة الوصول إلى صيغ مشتركة.

لا بد أنه إفراز طبيعي عن  أي مشروع مديني في طور التشكل ولا بد أن على الشعوب أن تمر بمحن كبرى كي تتعلم القدرة على القبول بالحلول الوسطى.

أتذكر ضمن هذا السياق تعبيرا يجسد هذا الرفض للتسلسل الهرمي للإدارة. “هل تريد أن تستعمرني؟” وكأن السلطة آنذاك مرتبطة في الذاكرة الجمعية بالاستيطان الفرنسي الذي صادر أحسن الأراضي الزراعية لصالح “الأقدام السوداء”. قال لي أحد الزملاء الجزائريين إن كلمة “يْسلِّك”،المستخدمة حاليا بمعنى أن وضع فلان لا بأس به، متأتية من ذلك العمل الوحيد الذي توفر للكثير من الجزائريين بعد سيطرة الفرنسيين على الريف: أن يقوموا بنصب الأسلاك الشائكة حول مزارع المستوطنين.

مقابل هذا الرفض العميق للسلطة الذي يجعل أغلب الجزائريين محصنين من تحولهم إلى مخبرين بيد الحزب الحاكم مثلما حدث في العراق نجد هناك وعلى مستوى إداري واطئ افتتانا بالمنصب. فليس غريبا أن تتأخر معاملات السفر في البلدية بسبب مزاج الموظف الذي لم يحب أن يوقع هذه الوثيقة أو تلك في ذلك اليوم بالذات. أو أن تجد سائق حافلة جاثمة عند الموقف، يدخن سيجارته  بينما يقف في الخارج عدد كبير من المسنين تحت وطأة البرد والمطر بانتظار أن يتفضل عليهم فيفتح الباب. وحال قدوم فتاة ما سيبادر إلى فتحه لها ثم إغلاقه مرة أخرى لدقائق أخرى. كنت على يقين من أنه لا يفعل ذلك تحت دوافع سيئة بل هي ممارسة السلطة المطلقة. وتأتي مفردة وهرانية مفتاحا آخر مساعدا لهذه الظاهرة: “يِحْكِم” فأي منصب هو نوع من الحكم. تحضرني تلك الزيارات لوزارة التربية لحل مشكلة إدارية ما وهناك يبرز الحاجب، الذي يتحكم في دخولي إلى الموظف المعني كابوسا مصغرا، فهو يحاول من خلال الكرسي الذي يحتله وتقلص عضلات وجهه  العابسة أن يجعلني أخطئ في تقييم موقعه الإداري.

يذكر لي صديق عراقي عمل فترة طويلة في شركة “سونيلك”الخاصة بإنتاج المعدات الألكترونية بمدينة سيدي بلعباس تلك الحادثة الطريفة حينما حضر الوزير في أحد أيام الجمعة لزيارة المجمع الصناعي. لكن الحارس رفض فتح الباب له وللفريق المرافق له بحجة أنه لا يمتلك أي تصريح يسمح له بإدخالهم. وحينما سأله أحد الموظفين: حتى لو جاء الوزير؟ كان جواب الحارس: حتى لو جاء الرئيس. ولم تُحل تلك المشكلة إلا بجلب المدير العام الذي يعرفه الحارس ليسمح للوزير بتفقد الموقع، بالمقابل لم يلحق الحارس أي أذى وظيفي نتيجة لممارسة سلطته بكل إباء وشموخ.

هل يمكن تخيل وقوع شيء ما كهذا في الشرق العربي؟ أشك تماما. لقد منحتني تلك السنوات الثماني التي قضيتها في وهران حبا شديدا لهذه الكبرياء الطائشة التي يتمتع بها الجزائري العادي. ومع ابتعادي التدريجي عن المتعاونين العراقيين المبعوثين بدأت الشكوك تدور حول موقفي من النظام العراقي خصوصا وأن نسبة كبيرة منهم كانوا يحضرون اجتماعات حزبية منتظمة. ولم يمض وقت طويل قبل مجيء مسؤول البعثة العراقية إلى شقتي ليفتح تحقيقا “وديا” معي.

(3)

جاء تعرفي على مجموعة من شبان العاصمة الجزائر بعد مرور أقل من ثلاثة أشهر علي في وهران. كانت مقهى “السنترا” التي ذكرها عدة كتّاب فرنسيين بارزين نقطة لقاء النخبة الصغيرة النامية في المدينة ومن بين هؤلاء كان المتعاونون العرب. ولابد أن صاحبها الضخم المتجهم دائما والمصر على تدخين السيجار الكبير دائما قد بلغ به السخط مداه، ففي مقدمة المقهى الأنيقة التي يغطيها سقف بلوري وتجاورها نوافذ واسعة،  ظل العرب (الذين أكثرهم من العراقيين) يحتلون معظم تلك المساحة كل مساء. أتذكر أولئك النادلين العاملين فيها والمرتدين ملابس بيضاء أنيقة مع ربطات عنق من نوع الفراشة. وفوق راحات أيديهم حملوا الصواني الصغيرة بطريقة حرفية تعطي انطباعا بأنهم حضروا توا من باريس. كان ممكنا تلمس قدر من الازدراء الخفي بين أعينهم وجباههم حينما يسألون الزبائن العرب عما يرغبون بشربه.

لا أستطيع أن أعترض كثيرا على ذلك الموقف، فبالنسبة لنا كان المقهى الشرقي هو القاعدة. هناك نلتقي ساعات مفتوحة بدون موعد ولا يهم عدد المشاركين في الجلسة. أو حتى إذا جرى تبادل الحديث من طاولة إلى أخرى.

لكن المقهى عرف كسرا كبيرا لتقاليده الفرنسية التي حاول صاحبه الحفاظ عليها عند حضور تلك المجموعة الغريبة من الشباب. كان ممكنا سماع أحاديثهم تدور في الفرنسية لكن فجأة ارتفع صوت مغن شرقي من جهاز تسجيل كان يحمله أحدهم: هل حقا كنت في «السَنْترا» أم أنه مجرد حلم: هاأنذا أسمع المطرب العراقي ناظم الغزالي (الذي توفي قبل أكثر من عقد) يلعلع عاليا بنبرة منتشية  في فضاء المقهى الرزين، ليخلق لحظة سريالية نادرة. تحت وطأة الاندهاش التي تحكمت بي وبكل الحاضرين اتجهت صوبهم لأسألهم عن المغني. وكم كانت المفاجأة كبيرة بالنسبة لهم حينما عرفوا بأنني من العراق. بعد الجلوس قليلا معهم راح أحدهم يردد أبياتا حماسية للشاعر مظفر النواب، قبل أن يمضي في شرح كلماتها لصديقته باللغة الفرنسية.

كان ذلك اللقاء منعطفا آخر في علاقتي ببلدي الجديد. إذ فجأة امتدت علاقاتي بالوسط الجزائري ذي التعليم الفرنسي. كان ثلاثة منهم قد أكملوا توا الخدمة العسكرية. وهم على وشك الدخول في السلك الوظيفي. وبواسطتهم تعرفت على خريطة أخرى للمتعاونين الأجانب القادمين من أوروبا وأمريكا اللاتينية. كان أغلبهم من الأكاديميين اليساريين الذين جاءوا تحت حلم المشاركة في تكوين الكوادر الجزائرية. التقيت بأستاذ ألماني جاء ليقضي خمسة أعوام في الجزائر بعيدا عن أي نشاط سياسي مشبوه، كي يحصل على سجل نظيف يمكنه من العمل في التعليم الثانوي بألمانيا الغربية. كان ذلك بسبب انتمائه لحزب يساري في بلده وما ترتب عليه من اعتقال له. لا بدّ أن ذلك يعود إلى نهاية الستينات. كان هانز غونتر مجنونا في حب الجزائر والعرب. وفي رمضان كان هو وزوجته آن ماري يصومان بانتظام. كذلك كان حريصا على ارتداء الملابس الجزائرية التقليدية كلما سنحت له الفرصة. وجاءت المكافأة الكبرى عند ذهابه إلى البلدية للحصول على رخصة تسمح له بالسفر. وحينما عاد قدم لي الوثيقة المكتوبة بعربية ثقيلة تنبئ ببلوغ التعريب آخر مداه في وهران. وفيها أصبح اسمه عربيا صرفا وعن جدارة: حانز قنطر.

حينما تحضر لي سنوات إقامتي في الجزائر اكتشف كم كان لها تأثير على رؤيتي الحياتية. ولعل المناخ الغارق بالتفاؤل بين عدد كبير من المثقفين الجزائريين كان يخفي تلك الحقيقة التي ظلت مخفية آنذاك: تحت شعور طهراني برفض الملكية الخاصة تم تبني الملكية العامة بشكلها المجرد. فالأراضي الزراعية التي تم استرجاعها من المعمرين الفرنسيين ظلت حبيسة الملكية العامة. وهذا الإيمان بالتعاونيات المستوردة من يوغوسلافيا كانت غريبة على الأرض الجزائرية. كان ممكنا تقصي حجم البيروقراطية النامية باضطراد مخيف في عمليات بيع وشراء وتوزيع المنتجات الزراعية. كان السوق مختنقا بفضل هيمنة جهاز الدولة الحديث النشوء، وما ترتب عنه لاحقا من أزمات اقتصادية.

بعد مغادرتي لوهران عام 1985 صوب لندن ظلت المدينة تحضرني عبر الأحلام، وظل الحنين إليها أقوى من الحنين للعراق. لعل ذلك يعود إلى صغر سني عند مغادرتي بغداد. وإلى الانتقال من عالم محكوم بتقييد الفرد والفردية عبر تقاليده وقيمه شبه البدوية مع سيادة  نظام شمولي متخلف صوب عالم في طور النشوء مملوء بالإمكانيات والقدرات، وضمن هذا العالم  يتفاعل ويتصارع  عالمان مختلفان: الشرق والغرب عبر تنامي اللغتين: العربية والفرنسية، عبر تنامي كوادر تتبنى هذه الثقافة أو تلك. وبفضل ذلك يبرز عالم أغنى وأكثر جرأة وعمقا. أظنه سعدي يوسف الذي قال إن التنوير سيأتينا من المغرب العربي. وحينما أفكر بكل هذه الأسماء مثل آسيا جبار وفاطمة المرنيسي ومحمد أركون ومحمد عابد الجابري وآخرين أستطيع أن أقول نحن نعيش في عصر التنوير بفضل روحية المغرب العربي حيث تلعب الجزائر دور المحرك. لعل ذلك لا يكون من خلال الكم بل من خلال الحماسة للحياة والتجديد التي تغلغلت في روحي عبر إقامتي في وهران والتي ستتسرب إلى المشرق البعيد شيئا فشيئا.

لؤي عبد الإله

لندن 14 فبراير

اقرأ ايضاً