الذاكرة الجمعية واختيار الزعيم

1٬500

عند النظر الى كيفية اختيار قوة أو تيار سياسي ما زعيما لها، نجد أنها تقوم على أساس الفكرة الجوهرية الواحدة التي شدت إزر الجموع، لتحقيقها على ارض الواقع، وهذا ما يجعل  الاشخاص المنضوون ضمن هذا التيار او ذاك،  يبحثون عمن يجسد هذه الفكرة، باعتباره رمزا يمثل هذا التيار، فتبدأ تحت هذا الرمز مجموعات مختلفة بتعزيز النشاطات العملية اليومية بحماسة كبيرة …

انظروا الى كيفية صعود جيريمي كوربن الى زعامة حزب العمال رغم كل النواقص التي يمتلكها كزعيم سياسي مثل قصور النظر والدوغمائية، لكن يساريي حزب العمال ومن هم خارجه تحركوا بسرعة لانتخابه، عند فراغ أعلى منصب  قيادي في الحزب، ومع تعزز وجوده كرمز مادي للحركة تشكلت حركة الشباب مومنتم (الزخم) التي ضمت الالاف من الشباب الذين ظلوا يجوبون بريطانيا للتبشير بالرؤى والروح الجديدة التي بعثها اختيار زعيم يساري لحزب العمال لاول مرة منذ عام ١٩٨٣ …

ما دفع قطاع واسع من حزب العمال إلى اختيار كوربِن يكمن في كونه ظل عبر عقود عديدة ملتزما بعقيدته الاشتراكية، وبدفاعه عن مصالح العمال، وتبنيه الوقوف ضد قرارات شن الحروب سواء كانت من حزب المحافظين أو حزبه نفسه.

لم يجد كوربِن ضيرا في التصويت ضد شن الحرب على العراق عام 2003، أيْ ضد قيادة حزبه في البرلمان البريطاني، ولعب دورا رئيسا في تشكيل منظمة “إيقاف الحروب”، ولذلك كانت ذاكرة الجناح اليساري داخل حزب العمال وخارجه موحدة صوبه، كإنسان مبدئي، لم يتخل عن قيمه تحت إغراء منصب حكومي عالٍ، وباختياره تحفزت هذه الذاكرات الفردية لتتوحد في ذاكرة جمعية، محفزة على العمل المشترك والدفع بمئات المبادرات المستلهمة من تلك الصورة الملهمة المتجسدة بالزعيم جيريمي كوربِنز

كذلك هو الحال مع شخص مثل بوريس جونسون الذي كرس جزءا كبيرا من كتاباته ونشاطاته منتقدا الاتحاد الاوروبي منذ تشكل نواته في أواخر الثمانينات، ليصبح خلال السنوات الثلاث الاخيرة زعيما ورمزا لهذا التيار المصمم على إخراج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وما ترتب عنه من تشكل منظمات عديدة تقوم بالتبشير بهذا الخيار…

اختيار الزعيم لهذه المرحلة او تلك تقرره الذاكرة الجمعية التي توحدت حوله من خلال نشاطاته السابقة لذلك لم يناقش احد من هذا التيار سمعة بوريس جونسون  المملوءة بالفضائح وافتقاده للحد الادنى من التواضع والاتزان لكن مع ذلك اُختير زعيما لأنه يمثل رمزا ماديا لما يطمح اليه هذا التيار والعمل الحقيقي المتبقي تقوم به الحركات المنضوية تحته …

السؤال المطروح اليوم بالنسبة لنا هو ليس صفات هذا الشخص أو ذاك، التي قد لا تعجبنا، بل من هو القادر ان يكون رمزا لهذا التغيير ومن كان على طول الخط يفضح بلسانه وتدويناته المؤسسة الحاكمة، ويعرف عن قرب الكثير من طرقها في الاحتيال؟

يبدو ان هناك حالة مستحكمة في الروح العراقية رفض فكرة وجود زعيم قادر لا بفضل خصائصه أداء الدور القيادي في هذه المرحلة أو تلك بل لان مواصفاته ترشحه لأن يكون رمزا موحِّدا بعد أن لعب قبل ذلك دورا تحريضيا دؤوبا ضد الفساد وضد المؤسسة المسيِّرة له، قبل بروز مد الاحتجاجات ضدها بشكل جارف.  هل هذا العجز وراء انتظار انسان شديد المثالية قادم من خارج الناس ليقود، ويا حبذا لو كان ملاكا أو بطلا أسطوريا خارقا للمألوف؟

بمكن القول إن  ما يجعل هذا الشخص أو ذاك مناسبا لقيادة مرحلة مفصلية مهمة في تاريخنا هو ذاكرتنا الجمعية عن هذا الشخص وموقفه تحديدا من القضية التي توحدنا … هو يمتلك دون ان يدري قوة دافعة هائلة توحدنا وتلهمنا وتحفزنا على العمل الطوعي ضمن مجموعات مختلفة متخصصة في شؤون مختلفة اساسية وهذا بفضل هذه الذاكرة الجمعية.

لذلك فإن الشخصيات القيادية هي أكبر من حقيقتها حين تكون رمزا لإنجاز مرحلة مهمة في تاريخ الشعوب.

انظروا إلى شخصية أخرى مثل تشرتشل. ما جعله رمزا لمواجهة صعود النازية واكتساحها لأوروبا، هو أنه ظل يحذر من هتلر منذ اعتلاء الأخير السلطة ومواصلة انتقاد التيار الذي كان يسعى إلى احتوائه، لذلك حال غزو الجيش الألماني بولندا حفز هتلر الذاكرة الجمعية ليكون زعيم تلك المرحلة ويثير همم الشعب البريطاني للمقاومة والانتصار.

مع ذلك، وحال انتهاء الحرب، وبدء مرحلة الإعمار، فقد هذا الزعيم موقعه كصورة ورمز لأغلبية الشعب، أمام متطلبات البناء وفتح الباب على مصراعيه لإصلاحات جذرية في خدمة الطبقات العاملة، وهكذا نجح زعيم حزب العمال آنذاك كليمنت أتلي بالتحول إلى زعيم وطني بفضل شحن الذاكرة الجمعية بما يمكن تحقيقه من خدمات وامتيازات للأغلبية إن هو فاز على تشرتشل وحزبه.

استنتاج: أقترح على المحللين السياسيين العراقيين ( وما أكثرهم) والمنظّرين الكثار  أن يضعوا عند اقتراحهم اسما (بدلا من الإصرار دائما على توجيه معاول النقد وتسخيف المرشحين دون تحديد من يفضلونه غير أنفسهم) للزعامة أن يضعوا أمرين في نظر الاعتبار: أولا من هو الذي كان الأكثر انتقادا للمؤسسة الحاكمة وبرلمانها ونظامها القائم على المحاصصة، وتحريضا ضدها، بحيث أنه أصبح حاضرا في ذاكرة قطاع واسع من الشباب المنتفضين اليوم وقطاعات الشعب المتضررة وبالتالي يستطيع أن يوحد ترشيحه هذه الذاكرات المبعثرة في ذاكرة جمعية واحدة تصبح كأنها المرجل في عملها، وبالتأكيد ستتوزع المهام على مئات اللجان بفضل تحفيز هذه البؤرة الصغيرة وبفضل ما ترتبط بها آلاف الخيوط والأواصر التي ستنشأ في مجالات الصحة والتعليم والثقافة والصناعة والتأهيل المهني والعناية بالبيئة وإعادة البساتين والأراضي الزراعية التي سرقتها الأحزاب الفاسدة لأتباعها وإعادتها إلى ما كانت عليه، وغير ذلك.

أما الجانب الآخر الذي يجب أخذه بنظر الاعتبار هو أن دور الزعيم المنتخب سيكون فقط لهذه المرحلة الانتقالية، وما سيكسبه هو موقعه المضيء في تاريخ العراق على المدى البعيد.

بدلا عن ذلك، ستظل المهاوشة قائمة إلى يوم الدين، بانتظار قدوم شخصية أسطورية أو فضائية يرضى عليها “المحللون” و”المنظّرون” السياسيون، وقد يؤدي تمطيط هذه المرحلة الحرجة إلى فتنة أهلية دموية تؤدي إلى هروب ملايين عديدة أخرى إلى خارج الوطن.

 

اقرأ ايضاً