العشاق يخرجون من مخابئهم: تونس شارعا وشاطئا وسماء زرقاء

2٬450

للعلاقات العابرة بالمدن القصية طعم خاص: الانشداد المطلق إلى اللحظة المعيشة، واختفاء الماضي والمستقبل، فما يعنيك هو ما تلتقطه عيناك من مشاهد هي ضمن سياقها الخاص لها ماض وتتحرك صوب مستقبل، لكن وجودك الطارئ أتاح لك رؤية هذه اللقطة منفصلة عن نقطتي بدئها وخاتمتها، وهذا ما فعله الرسامون الانطباعيون: الانطباعات التي تتركها المرئيات قبل اختفائها السريع، فأمواج النهر تتبدل في ألوانها وحركتها وكثافتها وسرعتها وإيقاعها من لحظة إلى أخرى؛ وهنا بين الحضور والغياب، بين الظهور والاختفاء، يعمل الرسام على الكيفية التي التقطت عيناه تلك الحركة. إنه فن ترسيخ مبدأ الزوال، اللحظة التي لا تتكرر، لا ماض، لا مستقبل، والحاضر ليس إلا لحظة عابرة. كذلك هو الحال مع رهبان الشنتو: كل لحظة تحمل في آن واحد كارما ونرفانا، تورط مع العالم الخارجي يعقبه تحرر منه؛ أو اشتعال ثم انطفاء، واحدا يعقب الآخر.

الأرصفة تتّسع

لشارع بورقيبة في تونس العاصمة مكانة خاصة، فرصيفاه المتسعان يبلغان حدا يصبحان فيه بعرض الطريقين المخصصين للعربات أو أكثر قليلا. ووسط كل منهما يمتد شريط من أشجار البقس الأنيقة ذات الجذوع المستقيمة العارية، وعند نهايتها ترتفع رؤوسها المنفوشة بالورق الأخضر، راسمة تحتها ظلالا سميكة، يستظل بها رواد المقاهي الممتدة على جانبي الشارع. لكن عدد الطاولات المنتشرة فوق كل رصيف أكبر من أن تغطيه تلك الأشجار الأنيقة مما حدا بأصحاب المقاهي صف مظلات تحتها. ها أنت تشق طريقك بصعوبة بين أعداد كبيرة من المشاة، احتلوا نصف الرصيف المجاور للمحلات، بينما تحلقت حول الطاولات المجاورة لطريق السيارات دوائر صغيرة من الأصدقاء والعشاق وأفراد العائلة الواحدة.

إنه وقت العصر، باعة الفل يتنقلون بين الجالسين، أطفال وشيوخ وفتيان يحملون سلال الأزهار، التي أخذت أشكالا مختلفة، قلائد من أزهار تتضوع بعطر بري جامح، دُرزت بعناية، واحدة تعقب الأخرى. إنها على الأكثر مخصصة لذلك المتيم الجالس لأول مرة مع حبيبته ولن يكون هناك تعبير أفضل عن عاطفته لها من وضع قلادة كهذه حول جيدها فتتاح له فرصة لمسه بأنامله؛ كذلك، هناك باقات أزهار مرصوصة بعناية حول عود رفيع، فتبدو كأنها تيجان تخاطب برقة حواس الشم والبصر واللمس لتبادل الحديث معها.

أزهار الفل

وأمام هذا الانتشار الواسع لأزهار الفل، ستجد الكثيرين محتفين بها بأسلوب زهواني؛ إنها هناك معلقة بالكاد وراء آذانهم. طقس يشترك فيه الجميع، باعة الفل أنفسهم، الصغار والكبار، الفتيان والفتيات. لكن لهذه الأزهار معنى إضافيا بين العشاق. وكأن فسحة التحرر من عيون المتشددين الذين أرادوا قلب إيقاع الحياة رأسا على عقب خلال السنتين الأخيرتين، قد وجدت في أزهار الفل خير أداة للتعبير. إنهم هنا، فتيان يمسكون بحمية أيادي فتيات، أو فتيات يشددن على أذرع عشاقهن، وبين كل ثنائي عاشق تتوسط أزهار الفل لونا ولمسا وعطرا وتذكرة بأن الحب هو الابتكار الأعظم للجنس البشري، وهنا في هذا الشارع تتآمر الألوان والحرارة وعبير الفل المنفلت وشجر البقس المتسق كي تنشره على امتداد شارع بورقيبة. وكم هو رائق ذلك الشعور بحالة من الانسجام مع كل هذه الجموع الماضية بين طرفي الشارع ذهابا وإيابا، أو تلك الجالسة تحت المظلات على الرصيفين الفسيحين.

هنا، تجد الاحتفاء بالحب يشمل الجميع، أمامي تجلس عائلة جاءت لتناول الإفطار، الأب والأم برفقة أبنائهما الثلاثة. في الطرف الآخر، بنت وأمّها، وهناك فتاتان تتوسطهما طاولة صغيرة. كأنّ للصيف قوة جارفة تدفع الكثير من أهالي تونس للخروج من بيوتهم. المقاهي تعج بروادها، الكورنيشات تغص بمشاتها، والبحر حريص على استقبال زواره حتى بعد منتصف الليل.

نسخة منقّحة

مع ذلك، فإن المخاوف لا تلبث أن تتسرب في النفس، عندما تمر بمسجد الفتح الواقع على مرمى حجر من شارع بورقيبة. هنا، تشعر أنك قد سافرت في الزمن سبعة قرون إلى الوراء: تطل عليك اللحى المتحلقة حول الوجوه العابسة، هابطة مسافة شبر تحت الذقون، ما يجعلها تبدو وكأنها قطن منفوش غمس بحبر أسود قبل أن يرتديه هؤلاء الفتيان. أتطلع في وجوههم عن كثب، عبوس لا يعرف المهادنة، عيون ساخطة مما تراه في الطريق، حواجب غاضبة يكاد كل زوج منها أن يتماسا.

وأنا أتطلع إلى إحدى البسطات المنصوبة على عدد من الكراسي البلاستيكية، باحثا وسط الكتب ذات الأغلفة السميكة الأنيقة عن أسماء مألوفة لديّ، جاءني صوت البائع مستفسرا عمّ أبحث؟ “هل عندك كتاب المغازي لابن إسحاق؟” فرد بنبرة غاضبة، وكأني سألته عن كتاب “رأس المال” لكارل ماركس: “لا، ما عندناش”.

نظرة سريعة أخرى على الكتب جعلتني أوقن أنها قادمة من المصدر نفسه: “العقيدة الواسطية”، و”معتقدات أهل الضلال” لابن تيمية، ومؤلفات عديدة لابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية. مع هذين الشيخين الجليلين المنتميين إلى القرن الثالث عشر، وضع معظم ما أنتجه الفلاسفة المسلمون منذ القرن الثامن الميلادي، ضمن قائمة المحرمات، ومعهما أصبح العالم العربي جاهزا للدخول في عصر الظلمات حيث لا مكان للبحث والاختلاف والتقصي وقبول وجهة نظر الآخر.

في موضع آخر من بسطة الكتب العريضة تلك رأيت كتاب “سيرة ابن هشام” فاستبشرت خيرا، لكنني قرأت تحت العنوان الرئيس عبارة أثارت الشكوك في نفسي، “نسخة منقحة”. هل هناك مراجعة حتى لكتب التاريخ القديمة المبثوثة في المكتبات الجامعية العامة حول العالم؟

بجانب بسطة الكتب، بسطات أخرى، واحدة للعطور القادمة (على الأغلب) من باكستان واليمن، وعلى الأكثر هي مخصصة لتطييب اللحى، بجانبها هناك بسطة للبخور، وأخرى لجلابيب داكنة اللون. البسطات تمتد في كل مكان فوق معظم شوارع تونس باستثناء شارع الحبيب بورقيبة، وتبيع كل أصناف السلع من قمصان إلى أقلام إلى مقصات. وكما سمعت من بعض سكان العاصمة كانت هناك أماكن محددة لها ويحتاج صاحبها إلى إجازة، لكن انتحار البوعزيزي حرقا بعد منعه من نصب بسطته أمام مركز حكومي بارز، جعل المساس بتجار “الشنطة” أشبه بإشعال عود ثقاب فوق صهريج بنزين. إنهم الفئة الأولى التي استفادت من ثمار الربيع العربي، وما زالت الثمار الأخرى قيد الاختبار.

الليلة الأخيرة

أخر ليلة لي في تونس علي إعداد الحقيبة قبل مغادرتي الفندق صباحا. خلال أيام إقامتي هنا، أصبح العاملون فيه أصدقاء نتبادل التحايا والكلمات الودية ونتائج آخر مباريات كأس العالم. للتو عدت من مدينة تونس القديمة. هناك حضرت في دار الرشيدية حفلا تضمن تواشيح دينية ترافقها آلات اللوت والناي والتشلو والطبل والدف. الفرقة قدمت من مدينة قونية حيث ضريح الشاعر جلال الدين رومي مبتكر رقصة المولوي.

كان هناك ثلاثة مغنين بطبقات صوتية مختلفة ومتكاملة، ومن بين الأناشيد الكورالية كان صوت أحدهم يرتفع منفردا من وقت إلى آخر، ليحلق بعيدا في فضاء حوش الدار الواسع. هنا، يتماس المعمار الدمشقي مع المعمار الروماني الميال للأبهة جنبا إلى جنب مع تلك الأقواس المزخرفة ذات الصدى القادم من عصر الموحدين. هنا يختلط التاريخ بعضه ببعض من حنبعل الذي أوشك أن يهزم الرومان في عقر دارهم إلى أولئك الفينيقيين الذين هاجروا إلى تونس وبنوا مدينة قرطاج، إلى العرب القادمين في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك بقيادة موسى بن نصير.

ترى هل ما زالت تلك الروح الفينيقية حاضرة في طبقات من اللاوعي الجمعي؟

يقطع الدراويش سرحان ذهني، ها هم أمامي يشكلون صفا جالسا، على قطع منفصلة من جلد الخروف، وبعد أن يسجدوا وينغمروا في حالة تأمل عميقة تحت وقع التواشيح الجليل، ينهضون على مهل، ويخلعون صاياتهم السوداء، لينقسموا اثنين اثنين، يشد كل منهم ذراعيه فوق صدره. خطوة خطوة تتحرك أقدامهم في حركة دائرية بطيئة، كأنهم طيور البطريق. فجأة ينفسح الفضاء أمامهم للطيران. ها هم يدورون حول رجل آخر يدور هو الآخر بحركة بطيئة، فكأنه الشمس وهم كواكب تدور حولها. وخارج الدائرة هناك شيخهم يراقب المشهد بعينين حزينتين.

كم استمر دوران الرجال الستة؟ ربما نصف ساعة. بدوا لي مع اختلاف السن بينهم وكأنهم يتمتعون بنفس الحيوية في حركتهم. هناك رجل في السبعين من عمره وآخر في العشرين والآخرون ما بين هذين العمرين، لكن الدوران والإيقاع واحد، الكل مغمض عينيه، والكل يحرك قدميه بنفس الاستدارة، والكل يسعى إلى تحقيق النيرفانا بطريقته الخاصة.

عند مغادرتي القاعة، استقبلتني درابين المدينة الضيقة، فجأة تظهر لي مقاه لم أرها من قبل وعلى أرصفتها الضيقة جلس موسيقيون ومغنون جنب الجدران البيضاء. كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، والسهر في هذه الزوايا على وشك البدء، حيث جلس الجمهور على الطرف الآخر من الشارع الضيق بانتظار تفجر الموسيقى الصادحة في الهواء الطلق.

أبيض وأزرق

من نافذة الطائرة، استرجعت تونس العاصمة لونيها الحقيقيين الأبيض والأزرق بطبقاتهما المختلفة ما بين الغامق، واللازوردي، والفيروزي والسمائي. ولعل البياض هو آخر درجة من الزرقة حين لا تستطيع العين المضي أبعد في رصد تلاشي الزرقة، خصوصا عند وقت الظهيرة، وبلوغ الشمس كبد السماء. إذن هي مدينة استسلمت للزرقة التي تحيطها، السماء من فوق وخلجان البحر المتوسط التي أغدقت على مدنها بشواطئ رملية واسعة وقيعان تتدرج في عمقها كلما ابتعدت عن الشاطئ دون أن تغدر بك.

يقول ألبير كامو في وصفه للجزائر العاصمة، إن الشمس والبحر المتوسط يغدقان على كل الناس متعا مجانية تجعل من متع امتلاك أي سلع أخرى فائضا عن الحاجة.

وكم وجدت ذلك متحققا على أرض الواقع في مدينة سوسة التي تبعد ما يقرب 150 كيلومترا عن العاصمة. هناك يمتد الشاطئ أميالا، وعلى حافة الرصيف العريض، امتدت دكة مغطاة بالموزاييك، مسافة كيلومترين أو أكثر. وفوقها يجلس كل مساء الناس، جنبا إلى جنب، الشيوخ مع الأطفال، الأغنياء مع الفقراء، النساء مع الرجال. ووراءهم يظل البحر يرسل بأمواجه لتتفتت على حافة الشاطئ الرملي العريض تاركة وراءها نشيجا حواريا مدوزنا.

وبين آلاف الجالسين المسترخين في ليالي الصيف الطويلة تتناقل أزهار الفل المتفتحة مشاعرهم عبر رهافة بتلاتها وطلاوة عبقها ونعومة ملمسها ونصاعة بياضها. لكن الشاطئ لا ينسى أولئك العشاق الذين يرغبون بالانزواء، فعلى حافة الشاطئ الأيمن ووسط ظلمة مطبقة يمكنك اكتشاف أزواج العشاق منتشرة هنا وهناك فوق الجرف المطل على البحر. ولن يكون غريبا أن تجد بينهم صياد سمك رمى بصنارته من عل إلى قاع البحر بانتظار هدية ما منه.

تختفي المدينة ويبقى البحر المتوسط تحتي، مغلفا بضباب شفيف. تحضرني تلك التفاصيل التي التقطتها عيناي خلال الأسبوع الذي قضيته في تونس، ويحضر معها هذا السؤال: هل سيبقى العشاق متشابكي الأيدي والأصابع في زيارتي القادمة؟ هل ستحافظ تونس على روح التعايش وتقبل الآخر كما بدت لي؟ قد يكون حضور المرأة القوي في كل الأنشطة المهنية صمام الأمان. قد تكون المدنية العريقة حارسا آخر. قد تكون أزهار الفل وعشق التونسيين لها صماما إضافيا أمام تهديد الاستبداد بكل أشكاله، قد تكون…

اقرأ ايضاً