المخادع
ينتابني شعور، كلما دار الحديث عن طفولتنا، أنها ليست إلا حكاية نسيت شهرزاد أن ترويها للملك شهريار، فهي مثل قصصها التي تدور عن قصر يحوي أربعين غرفة، وما على البطل إلا أن يستمتع فيها جميعاً عدا واحدة عليه ألا يفتحها أبداً، لكنه وتحت وطأة فضول عارم ينغزه دون توقف يخلف الوعد الذي قطعه، فيفتح باب الغرفة المشؤومة.
ولم تكن الغرف آنذاك سوى أيامنا، التي نحياها في بيتنا، أنا وإخوتي؛ كل يوم له طعم لذيذ مختلف. وكأن أبي كان حريصاً على جعلنا مقتنعين بعمق أننا أسعد عائلة في العالم. كل صباح يحمل لنا مفاجأة جميلة: اليوم نستيقظ على هدايا مغلفة بأوراق حمراء، وغدا بأوراق زرقاء، وبعد غد بخضراء. وفي عطل نهاية الأسبوع، نخرج معه لمشاهدة فيلم أو مسرحية أو زيارة الأصدقاء والأقارب، وخلال العطل المدرسية كنا نرافقه في سفرات سياحية خارج البلد، وهناك نستمتع كثيراً بحدائق والت ديزني والمرابي المائية وساحات التزلج الاصطناعية.
عليّ أن أضيف أن عطاء الوالد لم يقتصر علينا نحن أبناءه بل كان للأم قسط متميز منه: هل يمكن نسيان السيارة التي تبدلها كل أربع سنوات بأخرى أحدث وأجمل؟ الملابس الفاخرة والمجوهرات النفيسة التي ظل مواظباً على شرائها لها بمناسبة وغير مناسبة؟ وفي الليل تظل ضحكاتهما تتسرب إلينا من غرفة نومهما فتزيدنا اطمئنانا أننا عائلة سعيدة شديدة التماسك.
مع ذلك، ظلت تلك الأقاويل تتسرب إلينا عبر الأقارب من وقت إلى آخر فتثير فينا قدراً من الحيرة، وكلها تدور حول أسباب وفاة أختي البكر “فدوى” قبل عدة سنوات.
يجب القول إنني لم أكن ولِدتُ بعدُ عند وقوع تلك الفاجعة، وإخوتي كانوا أصغر من تذكر أي شيء عنها، وهذا ما سمح للإشاعات التي يتهامس بها الأقارب بالدخول في لغطنا، في أحلامنا وفي أسئلتنا.
كانت إحداها تزعم أن ذراع أمي همدت لا إرادياً فوق أنف “فدوى” أثناء نومهما ليلاً؛ وثانية، تقول إنها أفلتت من يد أبي وهو تحت سطوة سكرٍ شديد، وأخرى تتهم الخادمة بالتقصير… إلا أن رأسي الصغير لم يمسك بأيٍّ منها، وسلَّم فقط بحقيقة وجود الأخت ذات يوم في بيتنا، تدل عليه صورتها تلك وهي في حضن الأم. كنا نحتشد أمامها كلما اشتد الجدل بيننا على الرغم من أنها وُضعت في زاوية من البيت لا يمكن رؤيتها بسهولة. أمام الجدار القائم في القبو المعتم، كنا نقف صامتين، نتطلع إلى صورة الأخت الكبرى بالأسود والأبيض مندهشين، كيف ستكون ملامحها لو أنها بيننا الآن؟ وهل الموت يمنع حقّاً مَن نحبهم من التقدم بالسن مثلنا لكن على الضفة الأخرى؟
لعلي نسيت ذكر منغّص آخر، ظلّ ملازماً لنا زمناً طويلاً، وكأني إذ أستحضره تحضرني غرفة شهرزاد الأربعين: بين الأيام التي كانت تمر ناعمة كالحرير علينا، هناك يوم استثنائي واحد يهبط كالصاعقة، وفيه تنقلب أمي الهشّة الناعمة إلى امرأة يقظة و مستوفزة، تتحرّك على غير عادتها بإيقاع متشنّج سريع، ها هي تحضر إلى أسرّتنا في ساعة مبكرة من الصباح، فتوقظنا باحتراز شديد، لتقودنا كخراف صغيرة إلى المطبخ، ثم تطعمنا على عجل، قبل اقتيادنا إلى القبو الذي نستخدمه مخزناً للحبوب والبقوليات والخضار المجففة ومستودعاً لكل أنواع الخردة الفائضة عن الحاجة. وهناك تقوم بتوزيعنا ما بين أكياس الجوخ الكبيرة أو داخل خزانة عتيقة أو تحت طاولة متهالكة. «ابقوا في أماكنكم، ولا تصدروا أيّ صوت، اليوم سيأتي “الغريب” وإذا وجدكم يرسلكم فوراً إلى أختكم فدوى».
سألتُ أمي ذات مرة: «هل فدوى معه»؟ فارتسمت على وجهها ابتسامة شاحبة.
تحضرني صورتها الآن وهي تصفّ أدوات تناول الطعام على مائدة غرفة الضيوف: أمام كرسيّ الأب كأس وصحنان، وأمام كرسيّ “الغريب” كأس مماثل وصحنان. أذكر أن الأمّ كانت حريصة على وضع الكرسيين متقابلين تماماً، ولا بدّ أنها تتّبع في ذلك تعاليم الأب بدقة شديدة.
كذلك، تنغمر أمي في إعداد الطعام خلال الليلة الأربعين، بينما ينشغل أبي في إخراج أفضل زجاجات الكحول التي يفضلها “الغريب” من علبها الكارتونية، ووضع البصمات الأخيرة على ترتيب المائدة.
عليّ أن أذكر أنْ لا أحد منا رأى “الغريب” يوماً، ولا أستبعد أن أمي هي الأخرى لم تره، رغم تكرر زياراته المنتظمة لنا، ولعلها اكتفت بمشاهدة قفاه عند خروجه من بيتنا مساءً، فحين كنا نسألها عنه تكتفي بالقول: «هو ضخم جداً». يسألها أحدنا: «هل هو أضخم من بابا»؟ فتهز رأسها بانكسار موافقة.
ها هو الآن في البيت: دمدمات غامضة تتسرب إلينا، وارتجاج للسّقف فوق رؤوسنا، فيدفع قلوبنا للخفقان أسرع فأسرع، يأتينا صليل حاد ناجم عن تكسر صحون وزجاجيات مختلطاً بقعقعة كراسي وطاولات خشبية تصطدم ببلاط الأرضية البنفسجي، لكن هذا الضجيج لا يلبث أن يختفي ليحل محله جدل صاخب يدور بين أبي و”الغريب” في غرفة الضيوف فيصلنا بعض منه، على هيئة وشوشات قادمة من بحر صاخب بعيد.
كم مرةٍ سألنا الأم عما يدفع الأب الطيب الحنون لاستقبال ضيفه الفظّ المخرّب بانتظام، لكنها كانت تقدم في كل مرة إجابة واحدة: بابا و”الغريب” من عائلة واحدة. وحين نلح في الاستفسار عن نوع القرابة التي تجمعهما، تلتزم صمتاً مطلقاً.
لا أذكر كيف تشكّل القرار في نفسي بكسر أوامر أمي بالبقاء في القبو عند حضور “الغريب”. هل هو خوف متنامٍ على الأب من أذاه؟ فضول لمعرفة ملامحه التي ظلت تتقلّب في أحلامي؟ رأيته في أحدها كائناً فضائياً يخرج من صحن طائر هبط على سطح بيتنا، برأس كروي كبير وجسم صغير، وفي آخرَ، غوريلا عملاقاً يكاد رأسه يمسُّ سقف الغرفة.
مع ذلك، كانت كل الفوضى تختفي في اليوم اللاحق، وكأن الإعصار الذي اجتاحنا أمس قد خلَّفَ وراءه سماء صافية شديدة الزرقة وهدوءً شاملاً. ها نحن نشاهد كلّ شيء على حاله: قطع الأثاث في أماكنها، ولا أثر لأي تخريب في البيت بأكمله. وها هو الأب يحتضن أبناءه واحداً بعد الآخر، ويعدهم بهدايا أجمل ورحلة أمتع حال حلول عطلتهم الدراسية.
بعد اختفاء الضجيج فوق رؤوسنا، وتوقف هزات السقف في القبو، انسللتُ من وراء كيس الحنطة، كأني نمر يتقدم بحذر شديد صوب فريسته. بدت سلالم الدرج الحجري السّتّ وكأن عددها ألف درجة ، ها أنذا أتجرأ أخيراً على فتح باب الغرفة الأربعين، على الرغم من كل النداءات الخفية التي ظلت تجتاحني للعودة إلى مكاني، وعلى الرغم من تسرب الخوف كالأفيون في شراييني بأن “الغريب” يجلس هناك رابضاً بجانب باب القبو الخشبي المتآكل منتظراً وصولي كي يلتهمني كما التهم “فدوى”.
فتحتُ الباب بتأن وبطء مطلقين. بدت لي تلك الثواني وكأنها تستطيل إلى الحد الذي تصبح فيه ساعات ثقيلة لا عدّ لها، ومع كل سحبة كانت نبضات القلب تتسارع أكثر فأكثر، ومعها تتقلب صور “الغريب” في رأسي الصغير بين ملامح الغيلان والعفاريت المخيفة التي ظلت أمي تحكي لأطفالها عنها.
مشيتُ يميناً، على رؤوس أصابعي، في الدهليز المنفتح على رواق صغير. كانت الأصوات البشرية تتضح مع كل خطوة أرميها، وتزداد حدة، ومع اقترابي من باب غرفة الضيوف الواقعة في نهاية الرواق، أصبحت الأصوات صوتين فقط.
ألصِق أذني على مصراع الباب المغلق، فيتراءى لي كأنني أسمع صوتاً واحداً بنبرتين مختلفتين، إحداهما حادة غاضبة والأخرى هادئة ومتزنة:
– لا تنكر أنك وراء إقناعي بترك الدراسة الجامعية والتفرغ للتجارة.
– بعد وفاة والدك المفاجئة، كان عليك أن تدير أعماله الواسعة.
– لكن حلمي بأن أكون مؤرخاً بارزاً قتلته التجارة.
– حياة الانسان أقصر من تحقيق عُشْر أحلامه، لذلك تجد الكل يأكلهم الندم من الداخل.
– أنت دائما تحاول خداعي بكلامك.
– أنا لم أنصحك إلا بتحقيق رغبة متأصلة في أعماقك.
– إذن لماذا أنا ناقم على اختياراتي السابقة التي دفعتني لها؟
– لأنك تغيرتَ؛ الشخص الذي اتخذ القرارات السابقة هو ليس نفسه ابن اليوم.
– نحن، حسب رأيك، أسرى للماضي والإرادة الحرة ليست سوى كذبة؟
– لم أقل ذلك، نحن كائنات تسير نحو الكمال.
– وعندما تبلغه تموت… أنت بالتأكيد تضحك في أعماقك من سذاجتي.
– انظر حولك اليوم، كل أقاربك يحسدونك على ما لديك.
– لو أني بعت أملاك أبي لتمكنت من التفرغ للدراسة، ولما تزوجت أبداً.
– أسوأ ما فعله البشر أنهم ابتكروا “لو”. وبها أصبحوا قادرين على إلغاء الحاضر في الوهم، وإحلال ممكنات بديلة عنه من الماضي.
– تريد أن تقول إني أحاول إعادة أطفالي إلى ممكنات غير موجودة بعد؟
– في خيالك فقط. لا أحد يستطيع خلخلة الماضي قيد شعرة.
– لولا قدوم تلك العجوز التي ادّعت أنها خالة أبي وأقنعتني بالزواج من بنت عمي اليتيمة لكنت عازباً حتى اليوم. ماذا؟ .. أرى على وجهك ابتسامة خبيثة.
– كان علي أن أخبرك بالحقيقة قبل سنوات.
– تريد أن تقول أنت الذي بعثتها إلي؟
– بل العجوز هي أنا، مع الباروكة والمكياج
– هل تغيير مسار حياتي مجرد طرفة بالنسبة إليك؟
– لا، أبداً… ولكني جعلتك سعيداً. أن تكون مؤرخا يعني أنك تدفن حياتك في الماضي، أنا أردتك أن تعيش حاضرك.
– من طلب منك ذلك؟ هل تظن أن هناك سعادة واحدة للجميع.
– أنا لم أفعل شيئاً عدا مساعدتك حتى تسمع صوتك الداخلي.
– تريد أن تقول إنني مسؤول عن كل قراراتي.
– نعم، أنا كنت صداك فقط.
– من طلب منك أن تكون صداي. أنا حذرتك أكثر من مرة من زيارتي.
– لا أستطيع أن أتركك وحدك.
– لماذا؟ أنا ما عدت صغيراً.
– وعدتُ المرحوم والدك أن أرعاك دائماً.
– عدنا للأكاذيب. لم أرك يوماً معه.
– علاقتنا كانت قبل ولادتك ثم .. انقطعت.
– قبل أسبوع كان عيد ميلادي الأربعين.
– كان عليك أن تدعوني، لنحتفل بنجاحاتك الكبيرة.
– كنتَ محظوظاً في عدم الحضور.
– لماذا ؟
– اشتريتُ “مُسدَّس”.. ولو أنك جئت في تلك المناسبة لجربته بك.
حلّ صمت مفاجئ، جعلني أتجمد في مكاني. هل سيتوجه أبي إلى باب الغرفة فيجدني وراءه؟ تراءى لي “الغريب” شيخاً بلحية بيضاء ورأس أصلع ونظارة عدستاها سميكتان؛ كأنه جَدّ بديل لي عن جدَّيَ المتوفيين قبل ولادتي. كم شعرتُ بتعاطف معه، وخوف من أبي. كانت نبرته هادئة حنون، بعكس نبرة الوالد الحانقة المهددة. تسرب إلي، شيئاً فشيئاً، شك عميق بكل ما ظلت أمي تقوله عن “الغريب”، بينما راحت صورة الأب الوديع تتلاشى في ذاكرتي لتحلَّ محلها صورة الجنيّ الذي قرر أخيراً نزع القناع عن وجهه.
ها هما “الغريب” والأب يتبادلان قناعيهما أمام عيني الثالثة، تأتيني أصوات بشرية متنافرة من قلب الغرفة، تتقاطع معها حشرجات وأنفاس حيوانية، وبينهما ارتطامات صاخبة لصحون تتكسر فوق بلاطات الأرضية. أسمع صوتاً مختنقاً يتضرع: « اتركني.. أعدك بالابتعاد عنك تماماً»، فيأتي صوت آخر أشبه بفحيح أفعى: «لا تتركه يفلت منك”، ثم يرتفع صوت أبي: «نعم، أنت قتلتني، وتدّعي أنك تسعدني».
انتابني شعور عميق بأن “الغريب” العجوز وقع في قبضة عصابة دموية، لن يهدأ أفرادها قبل انتزاع الحياة من جسده الهزيل. ترسخت فكرة عميقاً في رأسي: أبي هو زعيم هؤلاء الأشرار. أسمع سعالاً خافتاً متقطعاً ناجماً عن اختناق، فكأني أرى يديّ الأب الناعمتين تضغطان، كأنشوطة حبل غليظ، حول رقبة ضيفه، تليها دمدمة ناجمة عن سقوط كتلة ما على سجادة الكاشان، ثم انفجار عاصف اهتز له البيت، ليعقبه سكون فجائي.
دفعتُ الباب لا إرادياً بقوة، فاصطدم بالجدار المجاور، تعثرت خطواتي تحت وطأة ساقيّ المرتعشتين، كأني أخيراً في غرفة شهرزاد الأربعين، حيث لا إنس ولا جنّ فيها. بدا كل شيء فيها عادياً: عتمة تكسّر أحجياتها تلك الشموع الأربع الموشكة على الانطفاء فوق مائدة الطعام، وزرقة الغسق الغامقة القادمة من نافذة صغيرة. خمنتُ أن الجميع، بمن فيهم أبي ، غادروا الغرفة من خلال فجوات شبكتها الحديدية الصغيرة، لكن الأنين القادم من الزاوية الأكثر عتمة في المكان، زعزع تلك القناعة: إنها النحنحنات التي تنبعث عادة من صدر أبي. أتقدم صوبه بتأنّ شديد.
في تلك اللحظة، أضيئت الغرفة بمصابيح ثريّاتها الخمسة. التفتُّ إلى الخلف، فواجهتني الأم المتقدمة بخطوات واثقة عجلى. مررت يدها البضّة على رأسي مُطَمئِنةً: «لا تخف، كل شيء سيكون تمام». كان أبي مضطجعاً على ظهره، عند حافة السجادة، وعلى وجهه الشاحب المتعرق انتشرت بقع سوداء، راحت أمي تمسحها بحافة كمّ ثوبها. «بابا بخير.. انظر». سحبته ببطء من كتفيه حتى أصبح واقفاً على ساقيه. حضنته بكلتا يديها إلى صدرها ثم جرَّته صوب الأريكة الأقرب.
بعد دقائق بدت دهراً، فتح بابا عينيه، بينما ظلت راحة يدها اليمنى تمسّد شعره الأجعد وخديه الضامرين. «تخلصتُ نهائياً من اللعين . لن ينغّص حياتكم مرة أخرى»، همس الأب بصوت متقطع مرتعش.
قادتني ماما إلى باب الغرفة: «لا تخبر أبداً إخوتك بما شاهدته»، ثم أضافت كمن يضحك في سرّه: «أنا وضعتُ رصاصات مملوءة بالبارود فقط».
بدت لي الأم كأنها بحجم الغرفة، ولا أستبعد أن شكّاً راودني للحظة أن تكون جنّية هربت من إحدى صفحات ألف ليلة وليلة.