تشريح الصراع في “حالمون من ذاك الزمان” للروائي لؤي عبد الإله

1٬940

الأحد ٢٨ يونيو ٢٠١٥ صحيفة المدي

عبد العزيز لازم
التعريف  بهذه القصة القصيرة للاديب المغترب لؤي عبد الإله يشير الى إن تاريخ صدروها  هو في 31 تشرين الاول من عام 2014 . لكن الزمن السردي يتحدد في كلمة ظرفية  هي ” ذاك “.  العنوان لا يشير الى ماهية ” ذاك ” لكنه يدعونا لقراءة العمل  كي نتعرف على الزمن المقصود . إن هذه الكلمة لا تشير الى الزمن فقط بل الى  ” حالمون ” ايضا ،
ولا تتوقف عند حدود الإشارة ، لكنها تخلق امامنا معضلة تتعلق بهوية الحلم الذي يرتجله الحالمون وتطلق اسئلة ليس من المؤكد ان تجيب عليها القصة بعد قراءتها من مثل : من هم الحالمون ؟ ولماذا هم حالمون في ذاك الزمان ؟ وهل هم غير قادرين على الحلم في الزمن الراهن ؟ وإن مارسوا الحلم اليوم فهل احلامهم تشبه احلامهم في ذاك الزمن؟ من الممكن البحث عن اجابات عن هذه الاسئلة في جوف القصة ومجرياتها لكن تلك الإجابات ستظل محدودة وتستفز اجابات أخرى تستقر خلف الحقائق التي تمثلها الأحداث . وهكذا تبرز واحدة من تلك الإجابات (وربما تكون الأبرزعلى الاطلاق) مستندة على حقيقة ان الكاتب لؤي عبد الإله استطاع نقل ثيمته المحلية الى ثيمة عالمية . القصة تركز على واحد من مكوناتها وهو الصراع دون إهمال العنصر المهم الآخر المتثمل بالشخصيات . اما الزمان والمكان فيأتيان لتعزيز الاجواء الدرامية التي تبثها الشخصيات في صراعاتها متعددة الصور . إن تركيز الاهتمام على عنصر الصراع جعله يتمدد في اتجاهات شتى . فالشخصية الذكورية الرئيسة التي جهد الكاتب على رسم اشعاعها بعناية فائقة واضعا على نار هادئة مصادر تكونها وتبلورصفاتها التي وضعتها في الصورة النهائية .استخدم الكاتب وسائل تعريف بشخصية “اسعد” الفلسطيني مستمدة من مفرداتها الذاتية والموضوعية أهمها ، الموقف وثانيهما المكان وثالثهما الصراع الرئيسي والصراع الثانوي ، فأسعد شاب فلسطيني التحق بالمقاومة يافعا ويسكن مؤقتا في وهران الجزائرية مع مجموعة من طلبة العلم المشرقيين . لكن المكان البعيد عن ساحة الصراع ضد من اغتصب الوطن لم يمنعه من ممارسة واجبه عبر الانتقال المفاجئ الى فلسطين ولبنان لمقارعة المغتصب بعد ان اكتسب الخبرة القتالية اللازمة كخبير في الأسلحة الثقيلة . علينا ان نلاحظ ان الطابع الانساني للصراع قد تغلب على الطابع السياسي ، فهذا الأخير قد وضع في زاوية غير بارزة رغم وضوح المظهر الخاص به باعتبار إن اسعدا هومناضل فلسطيني يمتلك قضية تمس شعبا تعرض للعدوان واغتصبت ارضه . لذلك يمتد الصراع نحو بؤرة انسانية متأججة ممثلة في شخصية الساردة وهي العاشقة الجزائرية . فهذه الشخصية لا تمتلك دورا في النشاط الكفاحي الذي يمارسه ” اسعد” . إنها فقط تعيش نوبة طاغية من نوبات الهيام بأسعد الذي لا يتجاوب معها بذات المستوى بل وحتى بأي مستوى خارج حدود الصداقة معها . لم يكن اسعد قليل الإكتراث بما تعيشه الساردة العاشقة من صراع ثنائي الاتجاه . فهو يعلم انها تعيش صراعا عاطفيا معه من جهة وصراعا آخر مع نفسها . وتصرّف هو على وفق ذلك يريد مساعدتها على التخلص من شباكه .
تتطور شخصية اسعد وتنمو في ظل نوعين من الأجواء هما الاجواء القتالية الكفاحية والاجواء السلمية وقد عززت القصة هذه الحقيقة من خلال ثلاث صفات لشخصية “اسعد” هي اتقانه لاستخدام الاسلحة الثقيلة وغاراته المفاجئة البطولية على العدو ومن ناحية ثانيه اتقانة تحضير القهوة التركية بالهيل وهي حركة تنتمي الى أجواء السلام والثالثة هي سجاياه الشخصية المتمثلة في تقديم الخدمات الى اصدقائه وتواضعه الجم . فبين حياة بطولية في السلم وحياة بطولية في الحرب تواصل شخصية ” اسعد” تكونها حتى تتحول الى رمزٍ سامٍ يقف في مكان اعلى من المكان الذي يستقر فيه البشر بقيمه الانسانية الإعتيادية . تنسحب هذه النتيجة الأخيرة على حياة الشخصية النسوية الرئيسة ايضا ، وهي الساردة ، العاشقة الجزائرية التي نعلم منها جميع تفاصيل حياة ” اسعد” لكنها تعاني من صراعها الخاص ايضا فهي من جهة تريد الالتصاق به لحد الذوبان يدفعها عشقها الطاغي له . ومن جهة أخرى تمارس صراعا ضد نفسها ساعية لاعادة توازنها العاطفي والنفسي بعد التحرر من هيمنة شخصية اسعد عليها.
إن هذا التوزع في اتجاهات الصراع هو الذي يتحكم في الخارطة التي ابرزت تضاريس الجسم السردي على امتداد خمسة كتل سردية  سبقت كتلة سردية ختامية حاسمة فصلت عن المتن بثلاث نجيمات . إن هذا التخصيص للقسم الحاسم من السرد قد جاء بسبب طبيعة وظيفته وهي إلقاء الضوء الكاشف على تغيير جوهري لدى شخصية الساردة كما سنرى.
تغلف القصة خطابها السردي برداء شفاف وملون لتحقيق انزياح شعري يؤسس لعلاقة حميمية مع المتلقي ، فالجزء رقم -1- يتكرس لوصف البيئة البشرية والتعليمية التي ضمت ” اسعد”والساردة ومعهم حشد من المشرقيين يعيشون في الجزائر لغرض الدراسة ، وصفتهم الساردة بانهم “كالطيور المهاجرة ” ووصفت حياتهم في وهران بلغة طغى عليها الشعر الى جانب الحقائق الصارمة التي تنتمي الى المدينة والى أعضاء الحشد المشرقي . يتم في هذا القسم ، التعريف بشكل أولي بشخصية أسعد والساردة وبداية إهتمامها به وظهور أولى بوادر العلاقة معه . في القسم ” 2″ يتواصل التعريف بأسعد بعد انتقاله من عنابة الى وهران وخبراته العسكرية باعتباره فدائيا فلسطينيا اقترانا بصفاته الشخصية . تدخل مظاهر الطبيعة في هذا القسم والأقسام الأخرى لتساهم في تفسير الصراع الداخلي لدى الساردة العاشقة ، ولتضيف حركات درامية ليست مفسرة للخواطر فقط بل لتصعيد الإنفعال البشري حسب انعطافات الحركة البشرية وطبيعة التلقي الإنساني لمفاعيل الصراع الذاتي . تقول الساردة :” اندفع المطر غزيزا فجرفني اليه مرة أخرى ، ازداد انفعالي الى حد اصبح البقاء عسيرا علي في القاعة .”
في القسم “3” ينفتح السرد على المكان بإعتباره حاضنة تؤسس لصفحة من الواقع النفسي للشخصيات . فعائلة الساردة تسكن في قرية في الجزائر وعائلة ” اسعد” تسكن في قرية  قرب نابلس . وهذا يعني ان الانحدار الحياتي للشخصيتين هو انحدار قروي فلاحي . ومع ذلك نرى إن هذا الإنحدار المتماثل لا يؤسس لعلاقة دائمة ومتينة بين الساردة وأسعد بسبب إختلاف المصائرالبعيدة لكلا الشخصيتين وبسبب انغماسهما في ممارسة قيم المدينة المتحضرة ، وهران ونابلس وساحة المقاومة ضد قوى غاشمة . وهناك سبب آخر ذو طابع ذاتي يتمثل في أن أسعداً لم يعد بشرا عاديا ، بل انه وبسبب ضخامة القضية التي يقاتل من أجلها وجلال معناها صار كائنا يبتعد شيئا فشيئا عن الهموم اليومية للبشر واصبح في عقل الساردة رمزا مرتفعا عن مستوى البشر . وقد عرضت الساردة صفات شخصية لأسعد تقوم على مغادرته لصفات الأنانية التي يتسم بها عادة السلوك البشري عبر استعداده لتقديم شتى انواع الخدمات الى الآخرين دون أن ينتظر خدمة مقابلة منهم ، بل يعتذر منهم على اي تقصير محتمل صدر عنه . إن هذه صفات ترتفع  بسلوك أسعد عن المظاهر البشرية للسلوك . في القسم ” 5″ يتم التمهيد لختام القصة فاسعد يغيب لفترة طويلة دون أن تعرف الساردة العاشقة متى يعود ، وتظل تعاني من شراسة الشوق والشكوك خاصة وإنها كانت لمحته يسير مع امرأة أخرى بانسجام تام . مرة أخرى تدخل مظاهر الطبيعة لتساعد في تصوير دواخل الساردة : المطر ، البحر ، الشجر ،الربيع والأعشاش ، كلها تمثل بؤرا وصفية لتأثيث حقائق روحية تتفاعل داخل النفس . يعود اسعد ليحصل اللقاء الحاسم بينهما في شقته وتستعيد العاشقة توازنها بعد ان يقدم  ما يجفف ملابسها المشبعة بماء المطر وبعد ان تختلي بالحبيب غير المفهوم وغير المؤكد ،فيتم التهيئة لما يجري في القسم الأخير من القصة . يتم تتويج اسعد رسميا وبشكل صريح على انه كائن يحتل مكانه أعلى من البشر فتقول الساردة :” بدا لي رائعا ، مثاليا ، منتميا الى عالم آخر علوي ، بعيد عن الحياة اليومية .” قدم اسعد مقولة شفوية أثبت فيها إن ” الإنسان يتطور من خلال الحب ” . من جانبها ادركت الساردة في هذه المقابلة إنها تغادر ساحة الحب تجاه اسعد فطلبت منه ان يكتفيا بعلاقة الصداقة .
إن القصة تنتصر للثائر الفسلطيني وتنتصر للحب والعلاقات النظيفة رغم تعرضها للتشكيك من قبل الكثيرين في عالمنا الواقعي . واستطاعت فنيا اكتشاف حقائق الواقع المكونة للملحمة . لكنها تطرح إشكالية تتعلق بشروط القص القصير الحديث معبرا عنه بالسؤال : هل يسمح القص القصير الحديث باحتواء هذه التفاصيل والانتقالات الى اماكن عديدة وازمات متكاثرة ؟ اين الحدود الفاصلة بين الأجواء الروائية والأجواء القصصية ؟ نعتقد ان هذه القصة اقتربت كثيرا من عناصر الرواية على حساب القص القصير الحديث . ولابد من القول مع ذلك بان الكاتب تمكن من تحليل اغوار شخصيات ليست من بيئته العراقية فجميع الشخوص هم من بيئات بلدان عربية تختلف عن نظيرتها العراقية ولابد إن طول القصة النسبي ساعده في ذلك كثيرا .

اقرأ ايضاً