حانة القنطور الذهبي

2٬104

حينما فتحتُ باب المصعد الكهربائي، قابلني رجل قصير، متين البنية، لم تظهر العتمة منه سوى شرر العينين الصقريتين المصوبتين نحوي. ابتسمت له، فلم تتململ عضلات وجهه. وظل واقفاً في مكانه، فاطعاً الطريق عليّ. انسللتُ بعسر عن يمينه، لمست منكبه، فانبعثت قشعريرة في جسدي، وازدادت ضربات قلبي اندفاعاً. استحوذت عليّ امنية واحدة: أن أخرج من بوّابة العمارة التي يفصلني عنها رواق قصير. جاءني صوت غليظ، مكهرب: “اسمع”. كان ممكناً تجنب الالتفات إليه، والمضي سريعاً، كأن ذلك النداء لرجل آخر غيري، لكن شللاً وفضولاً أوقفاني. سألته بارتباك واضح: “تتكلم معي؟” أجابني ساخراً: “ومن غيرك حاضر؟”

“ماذا تريد؟”

“تعال نتفاهم هنا.”

مضيت إليه مسلوب الارادة، خائر القوى، تتسارع لكل خطوة نبضات فلبي. بدت المسافة بيننا كأنْ لانهاية لها. وقفتُ قبالته، يفصلنا  نصف متر، أظهر رذاذ الضوء المنبعث من مقصورة المصعد ملامح وجهه، شعراً مجعداً، فاحماً، قصيراً، وشفتين مزمومتين ناتئتين. أثارت عيناه ارتباكي، إذ بقدر ما بدتا فيه صغيرتين، كانتا عنيفتين، لزقتين، باعثتين على الغثيان. شددتُ ذراعيّ على صدري، لاظهار عدم مبالاتي، به، للبقاء متماسكاً أمامه.

ــ أنت تسكن في الطابق الخامس؟

ــ نعم.

ــ هناك امرأة تزورك من وقت لآخر.

ــ لكن هي.. تأتي.. مع زوجها.

ــ لا تكذب.

ــ اقسم لك أن…

انفلتت تلك الجملة دون وعي مني. لامستْ سبّابة يده اليسرى أنفي، وظلت قبضة يده اليمنى في جيبه، لتضاعف خوفي منه. “أنت تسكن بين عوائل مسلمة”. دخل متأتياً المصعد، حدّق برهة في عينيّ، “رُدْ بالكْ تعملهْا خطْرة أخرى”. صفق الباب في وجهي، فانثال العرق غزيراً، غزيراً على جبهتي.

خرجتُ من البناية في حالة من قُطعتْ ذراعه قبل ثوان، ففقد الاحساس بالألم تحت أثر الصدمة. لاح الناس لي اشباحاً تتقافز بين رصيفي الشارع، تتقاطع معي، تتجاوزني. طفح العرق، رغم البرد، فوق جسدي، تناقصت مع كل خطوة نبضاتي لكن انقباضاً بدأ يضغط على صدري رويداً رويداً، يرافقه تصاعد شعور جارف بالانسحاق والخيبة والمرارة. انتابني احتقار عميق لنفسي، راح ينسكب في قصباتي قطرة قطرة، فيشدّ الخناق عليّ. استرجعت ذاكرتي الحادثة مراراً، مراراً، كابوس يقبض عليّ بين فكيه، كلما أفلتُّ منه، يجرني إلى أسنانه، اندفع ذلك الرقيب الساكن في شراييني بالضحك فشاركه الآخرون الصخب، بعضهم صديق، بعضهم خصم، بعضهم عابر سبيل، أغلقت ضحكاتهم سمعي. ها هي سيارة مقبلة نحوي بأقصى سرعتها. تبرق شرارة في ذهني، خطوة أخرى ويتوقف النزيف إلى الأبد.

سمعت عالياً صرير العجلات المحتكّة باسفلت الشارع، ضرب جسم صلب، بارد اسفل فخذي برفق، وملتُ دون إرادتي إلى السيارة، لاتكئ بذراعيّ على غطاء محركها. رفعتُ عينيّ المبللتين بالعرق والدمع إلى السائق الذي علا الشحوب وجهه. صرختُ به بكل ما بقي من قوى في عروقي: “أنت مجنون؟” هبط من السيارة مرتعشاً، مرتبكاً، مردداً عبارات اعتذار مفككة. التمّ حولنا جمع من المارة، راح يشتم السائق حين رأى تخاذله، فولّد في نفسي خجلاً منه، وتعاطفاً معه، ومقتاً لأولئك المتطفلين، منحتني تلك الحادثة قدراً من العزاء والثقة في النفس، بعد فقدها دفعة واحدة عند باب المصعد الكهربائي.

دخلتُ بار “القنطور الذهبي”. عثرتُ على كرسي قرب طاولة متحلّق حولها ثلاثة رجال، يتبادلون الحديث دون أن يسمع أي منهم ما يقوله الآخر، يتحدثون أحياناً في وقت واحد أو يصمتون جميعاً، يعود أحدهم للصراخ ضارباً الطاولة بقبضة يده، معترضاً على ما يقوله الآخر، فيثور صاحبه عليه غاضباً، ثم يضحكون بعنف، تتحرك أذرعهم المتوترة بشتى الاتجاهات لوصف مشاعرهم. كان الحديث يدور حول كرة القدم، ونظرة كل منهم على آخر مباراة خاضها المنتخب الوطني، ملاحظاتهم على كل لاعب متضمنة مديحاً أو شتائم، فتثير جدلاً وخلافاً بينهم.

جاءني النادل كعادته كل يوم بزجاجتي بيرة، “هذه من الثلاّجة يا شيخ”. طلبتُ منه ست زجاجات أخرى. كانت الطاولة ملأى بقناني البيرة، فجعلته عاجزاً عن وضع كل ما طلبته عليها، ودفعته للتأفف مراراً. فرغت طاولة خلفي، انتقلتُ إليها متبوعاً بخطواته. “اريد أربعاً أخرى”.

قال النادل متضامناً معي: “هذه  من آخر صندوق عندنا”.

شربت زجاجتين دون انقطاع. تسرب خدر رقيق إلى رأسي. تلاشى ارتجاج خلايا جسدي تدريجياً. مسني السرور وأنا أتابع ماكنة الفوضى حولي في شغف شديد، أتطلع إلى جدران البار الزرقاء العارية إلاّ من صور بعض لاعبي كرة القدم الملصقة عليها، وأرضيته المبعثرة فوقها سدّادات القناني واعقاب السجائر، إلى مصباحيه العاريين الناشرين ضياء شاحباً على وجوه الزبائن المتشنجة. اكتشفتُ أن ما يشدني إليه بشاعته العارية، النقية، التي تمنح إحساساً بعبث الاشياء ولا معقوليتها، فتجعلني أعيش لحظاتي فيه حلماً، غريباً، طويلاً، رتيباً.

توقف تدفق الكتل البشرية إلى البار بعد نفاذ البيرة فيه، فاتاح لي فرصة البقاء وحيداً جنب طاولتي وإعادة النظر مليّاً بمشكلتي. حضرني أول جواب: لِمَ لا أدعوه ليشرب معي،فاحدثه بلطف سعياً لازالة سوء الفهم بيننا؟ لكن قد تجعله دعوتي أكثر صلفاً وغروراً، فيبدأ في ابتزازي أكثر فأكثر.

دخل صبي البار حاملاً صينية ملأى باللوز. اشتريت ثلاث ملاعق منه، ورحت أقرض الحبات المملحّة بطريقة آليّة، حبة واحدة وراء كل جرعة شراب. فكرت في حل آخر: أن أذهب إلى الشرطة فاخبرهم بما جرى لي معه.. لكن ما الذي سأقوله لهم؟ مجهول تحدث معي فأرعبني. زإذا كان خصمي شرطياً؟

اخترق رجل ثمل البار فطلب من النادل الواقف خلف الكاونتر شراباً. وحينما أجابه: “ما كانْش”، استشاط غضباً، بصق على الارض، دمدم بعبارات متقطعة، شاتماً البار ومن فيه، ثم مضى دون أن يترك على وجه النادل أثراً ما، دهشة، ضحكة، أو ازدراء. جاءتني فكرة أخرى: لِمَ لا أعترضه واحذره من التدخل في حياتي؟ فإن استعمل يديه استعمل يدي ضده، و.. ومن سيمنعه من دعوة أصدقائه لاعتراضي عند باب العمارة كل يوم؟

قلبتُ يدي اليمنى على الطاولة، فراحت ترتعش كسمكة في شبكة. تطلعتُ إليها مليّاً. ها هي يد رشيدة ساكنة فوقها، تختلط نبضاتي بنبضاتها، تمسّد أصابعي ظاهر كفها. تملكني فرح عميق منذ مصارحتي إيّاها، استعملت  لغة رموز شفافة للتعبير عمّا في نفسي، فالتقطت بذكائها الفطري رسالتي. عبّرتْ بكلمات عذبة عن مبادلتي الشعور نفسه.

عثرت على أفضل حل لمشكلتي.شربتُ آخر زجاجة في تأنّ. نظرتُ عبر الواجهة الزجاجية إلى الشارع، فاجأني انسلال النهار عنه. اشتعلت مصابيحه الصفراء، فوُشِّحتْ وجوه عابريه القلائل بالشحوب الذعر، ودفعتهم للمضي سريعاً إلى بيوتهم.

*     *    *

اختفى ذلك الغريب عن ناظري أسابيع عديدة ثم ظهر ذات يوم فجأة، في الشارع الرئيسي فتظاهرتُ بعدم معرفتي إيّاه حين قاطعني وجهاً لوجه، لكنني أحسست أنه قد توقف برهة خلفي، ملتفتاً نحوي، مستغرباً ومتذمراً من سلوكي إزاءه. لم أغير من حياتي شيئاً. بقيتُ أستقبل أصدقائي كل مساء خميس تقريباً، ولم أخبر أيّاً منهم بتلك الحادثة، لكنّ الارق أمسى  ملازماً لي كل ليلة عند ذهابي إلى الفراش. إذ يحضر خصمي قبالتي باوضاع مختلفة، فأخوض معه نقاشات مطوّلة، تعتمد على سؤال آخر يزيد من تقييده. كنتُ أدفعه، في أغلب الأحيان، إلى أوضاع محرجة تجعله ينسحب من ساحة المعركة منكسراً، تلاحقه ضحكات الآخرين وسخريتهم.

رأيته، ثانية، يقتاد طفلته، فبهتتْ صورته في ذهني. التقيت به، مرة أخرى عند باب المصعد الكهربائي، حاملاً سلّة خضار، يتحدث مع رجل عجوز بدماثة مذهلة، فتضاءل حجمه، أكثر فأكثر، في نفسي. عندما خرج الناس من المصعد دخل عدوّي مع العجوز فيه، ثم أمسك الباب قليلاً منتظراً صعودي.

عدتُ يوماً في ساعة متأخرة على البيت. حين أغلقتُ باب العمارة، سمعتُ أنيناً، ضعيفاً، متقطعاً، يرجوني فتح الباب له. التقيتُ بخصمي في أسوأ حال: كان ثملاً أشد الثمالة، بلحية بارزة وعينين زائغتين، وملابس رثّة. قال، متلعثماً، دون أن ينظر إليّ: “يرحم.. والديك”. لكأنه بتلك النبرة المتباكية، يعتذر لي عما بدر منه ضدي. جرجر خطاه في عسر،مترنحاً يساراً ويميناً. أدرت قفل الباب بالمفتاح، ثم مضيت مسرعاً خلفه صوب المصعد الكهربائي، لإلقاء نظرة شامتة، أخيرة عليه، ففاجأني اختفاؤه. نمتُ في تلك الليلة نوماً عميقاً.. شاهدته مراراً، لكنني تجاهلته كالعادة، معتبراً أن ما بيننا قد طُويَ وإلى الأبد. وكم كنت على صواب في قناعتي تلك!

وصلتُ إلى المصعد ذات مساء قادماً من “القنطور الذهبي”. وقف رجل في الأربعين من عمره، جنب الباب المغلق، حيث توهجت إلى يساره الدائرة الصغيرة على لوحة الأزرار بالضوء الأحمر. حييته بصوت خافت، ثم مضيت اراقب الدائرة الحمراء. كان هنالك في الركن المقابل لمصعد رجلان يثرثران عالياً، لكن حال حضوري انقطع صوت أحدهما فحدست أنه خصمي. التفتُ إلى الرجل الواقف قربي، ابتسمتُ له معبّراً عن ضجري من الانتظار، بادلني نظرة متضامنة. قلت له: “الشتاء بارد هذه السنة”. أجابني: “هذا أبرد وأطول شتاء رأيته في حياتي”. التفتُ قليلاً إلى يميني، لمحتُ آنذاك الشرر يتطاير مرة أخرى من ركن مربع الانتظار صوبي. أعدتُ نظري إلى القرص الأحمر الذي ما فتئ يبعث وميضاً متعاقباً، معلناً عن قرب وصول المصعد. انتابني ندم لعدم بقائي ربع ساعة أخرى في البار.

قبل أن أغلق باب المصعد ورائي، انطلق دويّ، عنيف، هادر: “اسمع”. اخترق خصمي المقصورة الصغيرة. وقف قبالتي، يكاد يمس أحدنا الآخر. رفع عينيه المحتقنتين إليّ: “واشْ عملتْ لكْ باشْ تحتقرني هكذا؟” قبل أن أنطق بعبارة تخفف من تأزمه، وتسمح لي بازالة سوء الفهم عن ذهنه، صرخ مهتاجاً: “انت انسان خامج[1]…” اختض جسده، ارتعش فكه الأيسر، وشاربه الأيسر، فارتعشت معهما كفي اليمنى الموضوعة في جيبي. لمحتُ على عيني مرافقي تعاطفاً معي، وازدراء لخصمي،وتحفيزاً لي بفعل مناسب يزيل عنه مشاعر السخط من سلوك الآخر.

اندفعت يدي اليمنى بالارتعاش أكثر فأكثر، فأضطررتُ إلى إخراجها من جيبي. تصادمت نظراتنا وانفاسنا دقائق قليلة بدت لي دهراً.. تكاتف كل ما حولي ليدفعني إلى صفعه بعد إغلاقه الطريق عليّ للخروج من المصعد: يدي اليمنى المرتعشة، فكه الأيسر المرتعش، رائحة العرق النفّاذة المنبعثة منه، عيناه المتهيجتان، الخائفتان، الزمن اللزج الثقيل، نظرات جاري المنبعثة منه، عيناه المتهيجتان، الخائفتان، الزمن اللزج الثقيل، نظرات جاري المشجعة، المحفزة، دفعة واحدة، ثم اندلق منه إلى عروقي، فبعث الوهن والارتعاش في جسدي. تسرب إلى جسد خصمي، عاد إلى جسدي أعنف من قبل، ثم  ارتدّ ثانية إليه.. وهكذا راح كلانا يهتز تحت ضوء المصعد الشاحب برقصة طقسية، جنونية على ايقاع قلبينا الواجفين معاً. ارتفع صوت غريب عني، ضعيف، خائر ومتقطع: “شكراً على…”

*     *     *

استيقظتُ صباح تلك الجمعة على ضربات متلاحقة فوق السقف، حيث يقضي الأطفال نهارهم في حجرة صغيرة، تقع أعلى حجرتي، يبتكرون خلاله، ودون توقف، انواعاً شتى من ضجيج، مدوّ، بغيض، باعث على الغضب والأهتياج، لكنها لم تعد تترك أثراً في نفسي. رفعتُ الستارة قليلاً. طالعتني غيوم رمادية، منقلبة بعضها على بعض، قادمة من البحر، مندفعة نحو الصحراء، يتبعها عويل الرياح الدؤوب.

اضطجعتُ يميناً. لاحت لي الأباجورة الحمراء كظل كرة كبيرة، تتأرجح تحت وطأة ارتجاج السقف، وعلى أرضية الحجرة تناثرت أشياء كثيرة لم تظهرها العتمة سوى كتل مختلفة في دكنتها: زجاجات نبيذ فارغة، سدّادات فللينية، علب سجائر فارغة، أحذية، ملابس، كتب، جوارب، أوراق ممزقة، اعقاب سجائر، كؤوس…

فقدتُ منذ شهر صلتي بمن حولي: انهيتُ علاقتي برشيدة، انقطعتُ عن فتح الباب لمن يدق جرسه، توقفتُ عن اعداد الطعام في البيت بعد انضمار شهيتي للأكل. كنتُ أجد نفسي فجأة (وربما تحت تأثير غريزة البقاء) مندفعاً إلى الشارع الرئيسي، فازدرد فيه قطع اللحم الصغيرة، بشرود كلّي، محاطاً بوجوه شاحبة وعيون محملقة في الفراغ،تتراءى لي جزءاً من عالم وهمي لا نهاية له. التقي بجاري من وقت إلى آخر، أبادر إلى تحيته فيجيبني باحتقار، أو يكتفي بهزة من رأسه، أو يتجاهلني، واحيانا… لكن يدي اليمنى ظلت ترتعش كلما صادفته، قرب المصعد، عند باب البناية، أو في الشارع الرئيسي.

تحول الضجيج فوق رأسي إلى صرير حاد ناجم عن احتكاك جسم ثقيل، متحرك، بأرضية الحجرة العارية، مختلطاً بزغاريد الأعراس وزمامير السيارات القادمة من النافذة. اضطجعتُ جانباً، ضاغطاً صدغي الايمن على المخدة. وصلتني اصوات مئات الساكنين في البناية، ممزوجة مع بعضها،كأنها دمدمة سائل يغلي في قدر عملاقة تحتي، لكنني رغم حصار الأصوات المدمرة تلك غفوت ثانية.

ظهر البحر أمامي في أحسن أحواله، رائقا لونه اللازوردي، متمادية أمواجه صعوداً ونزولاً على سطحه باتساق وانسياب كاملين، وأنا واقف على حافة منحدر ينتهي إلى صخور يغطيها البحر تارة بحاشيته البيضاء ويعريها تارة أخرى. فجأة، لمحتُ رجلاً وسطه يصرخ عالياً، ظننتُ أنه موشك على الغرق، فكدت أقذف بنفسي صوبه، لكن نظرة أخرى إليه اقنعتني بمعرفته للسباحة. انتبهت آنذاك إلى البخار المتصاعد من البحر،إلى فقاعات الماء المنفجرة من شدة الغليان فوق سطحه. حينما أمعنتُ النظر في وجهه، اكتشفت عبر تقاسيم الألم عليه تشابهاً كبيراً بيننا. فزعتُ من نومي. كانت يدي اليمنى ترتعش فوق صدري.

تسلل شعاع من خلال شق رفيع بين ستارتي النافذة، الغامقتي الزرقة، فتطايرت فوقه ذرات الغبار المتكدسة على بلاط الحجرة. لمحتُ نسيج عنكبوت في أعلى زاوية الحجرة متدلية بخيوطه ذبابتان ميتتان، واتضحت معالم نثار الأجسام. راودني الشك في حقيقة ما أراه، إذ ما عاد هنالك فاصل بين حالتي النوم واليقظة: عند الصحو، تتراءى الأشياء جزءاً من حلم، لا تنعكس فوق عيني سوى صور منفصلة عن بعضها، دون أن تترك وراءها أثراً في النفس، وحينما يحل الكرى عليّ، فهو يهبط فجأة، وتظل صور الواقع مرافقة لي.

ارتعدت العمارة بأذان صلاة الظهر المضخم فوق مكبّرات الصوت، قادماً من مسجد مقام في  الطابق الأرضي، لكن الصوت انقطع بعد “حي على الفلاح..”ظهر لي جاري جالساً فوق عربة، يجرها حصان أدهم، تتهادى في شارع مغطى بالاسفلت، تقف على جانبيه نساء متشحات بالسواد. كان يسوط حصانه، بانتظام، بين برهة وأخرى، لكن الحصان ظل محافظاً على سرعته،وظل جاري محافظاً على هدوئه، لكأنهما متفقان على مواصلة تلك اللعبة، حينما استيقظتُ من نومي، كانت يدي اليمنى ترتعش بشدة.

لم أستطع تقدير الوقت الذي استغرقته اغفاءتي الأخيرة، لكن هدوءاً شاملاً حل في المدينة، تقطعه بين الفينة والأخرى نداءات الخطاطيف بعضها لبعض. كم أحببت تلك الطيور الغريبة، الفرحة، التي تأتي  إلى وهران مع حلول الربيع، لتبقى فيها حتى قدوم الخريف، وعند كل غروب تقيم آلاف منها احتفالاً صاخباً فوق المدينة قريباً من البحر، فتكسر فيها، ولوقت قصير، رتابة الحياة وجفافها. أزحتُ ستارة النافذة. استقبلتْ عيناي مستطيلاً أزرق غامقاً، وسط العمارتين المتقابلتين، تمرق تحته بقع بنية داكنة في كل الاتجاهات، يرافقهاصفير، حاد، قصير، لجوج. أحسست كأن دهراً قد مضى عليّ منذ بداية الصباح، كأنني أسكن مدينة أخرى، في قارة اخرى، تحت سماء أخرى.

نهضتُ من سريري. مضيتُ إلى الحمّام. رميتُ قليلاً من الماء على وجهي، فانعشتني برودته. خرجتُ من البناية. أخذتُ زقاقاً فرعياً مجاوراً لها، يهبط دُرُجاً صوب البحر، مخترقاً شارع “العربي بن مهيدي”، ثم شارع “الخمسيتي”، ليفضي إلى كورنيش البحر. مررتُ بصبية يلعبون “كرة القدم”، بكرة ملفوفة من خيوط المطاط الأسود. انتشر عند مفترقات الأزقة باعة السلع المهرّبة، ومتسكعون، يقفون دون حراك، مشدودة أذرعهم فوق صدورهم، وعلى جانبي الزقاق ، عُلِّقت ملابس الغسيل في الشرفات.

عبرتُ شارع الكورنيش نحو الرصيف المجاور للميناء. وقفتُ جوار الحاجز الحديدي المطل عليه. ترامت وسطه صناديق الشحن وعدة رافعات عملاقة. أقيم من وراء رصيف الميناء سد عازل يمنع اندفاع المياه إليه، وعلى مبعدة عشرات الامتار خلفه، سكنت أربع بواخر مشعشعة فيها الأضواء. وهناك  في الافق، وفوق المياه، أوشك شريط قرمزي، غامق، على الانطفاء تحت سماء صافية، داكنة الزرقة، عُلِّق مصباح على كبدها: نجمة القطب. لم تمض سوى دقائق قليلة، حتى استقرت كف على كتفي، فبعثت قشعريرة في جسدي. التفتُّ يميناً. التقيت بهاشم. صافحني بحرارة. عاتبني لانقطاعي عن زيارته فترة طويلة. لفقتُ عدة أسباب حالت دون ذلك، لكنه راح يهدمها واحدة بعد الاخرى. وحينما حل الصمت بيننا. قال لي: “يجب أن تأتي معي”. اعتذرت عن مرافقته، لكنه ازداد اصراراً. اقتادني في سيارته دون أن يعطيني فرصة اخرى للإفلات منه، وعند باب شقّته قال لي مشجعاً: “أم خليل عاملة دولمة عجيبة اليوم”.

أدخلني إلى حجرة الاستفبال . فاجأتني أضواؤها القوية المنبعثة من سبعة مصابيح معلقة بثريا. أثارت انتباهي الجدران المغلفة بورق أبيض سميك، مطبوعة عليه ورود صغيرة. قال مفتخراً: “هذا الغلاف جلبته من إسبانيا. ما رأيك به؟”

كانت عدة تحفيات موضوعة وسط “البوفيه” المقابلة لي: ماموث خشبي أسود اللون وديناصور وثور مجنح. سألته مشيراً إليها: “هذه من إسبانيا أيضا؟” فضحك مستغرباً، “ذاكرتك  صايرة ضعيفة…”

حضر طفلاه إلى الحجرة وجلسا قربي. اعتدتُ أن أقضي معظم وقتي معهما كلما جئت إلى بيت هاشم. أحياناً، وتحت الحاحهما، الفق لهما حكايات قصيرة تنتهي بموعظة مملة. “احكِ لنا قصة البطتين والسلحفاة”. قال أصغرهما، فصاح هاشم بهما آمراً: “عمّو تعبان اليوم، وانتم لازم تنامون الآن. أم خليل…”

بعد تناول العشاء واحتساء الشاي، جلست مع هاشم على كنبة واحدة، وجلست زوجته على الكنبة الأخرى مستغرقة في الحياكة. سألني عن عملي. أخبرته بانقطاعي عنه، لاعتزامي الرحيل إلى بلد آخر، فاثار الدهشة في نفسه. اندفع في حديث طويل معبّراً عن استيائه من الناس في وهران، من خشونتهم وتهورهم، من شحة المواد  الغذائية، من نقص قطع غيار السيارات. حدثني عن الغاءات عقود عمل الاجانب في الجامعة، وكم هو قلق من فقدان وظيفته في العام المقبل. أسهب في الحديث عن سفرته إلى اسبانيا، عن رخص الحياة فيها، عن أنواع المشروبات والملابس والكهربائيات، عن لطف الناس وطرافتهم، عن المقاهي التي تظل مقتوحة  حتى الصباح. اشتكى من وجود الصغيرين معهما في السفرة، إذ لولاهما لقضى هو وزوجته عطلة بدون منغصات. حدثني عن رخص سعر التلفزيون والفيديو اللذين اشتراهما من مليلية، كيف استطاع أن يخفيهما عن أعين رجال الجمارك عند الحدود ليفلت من دفع ضريبة ثقيلة عليهما. كانت زوجته تتابعه باعجاب واضح. ولا اتذكر متى بدأت يدي اليمنى بالارتعاش. أبديتُ ملاحظة عابرة، لا علاقة لها بحديث  هاشم: كم يختلف الناس في جنوب الجزائر عن سكان الشمال. لكنه أجابني منفعلاً قليلاً: “كلهم نفس الشيْ”.فأيدته زوجته بحماس كبير. اندفع متحدثاً عن عمله في الجامعة، عن مستوى الطلبة المتدنّي، وجهوده التي يبذلها معهم دون جدوى. انتقد الاساتذة الآخرين المتساهلين معهم، كيف يتغاضى بعضهم عن محاولات الغش داخل قاعات الامتحان. تحدث عن جرأته في مواجهة حالة التسيب. ذكرتُ له أن حالة الفوضى ناجمة عن حداثة الجامعة في الجرائر وحداثة تقاليدها لكنه رفع يده معترضاً، ومغتاظاً، فأيدته زوجته مرة أخرى، “البارحة رحتْ أبدّلْ سترةْ اشتريتها قبل يومينْ طلعت صغيرة عليّ، تدري صاحب المحلْ تقريباً ارادْ أن يضربني…”

استأذنت بالانصراف، لكنه الحّ عليّ بالبقاء نصف ساعة أخرى، ودعا زوجته أن تعدّ لنا شاياً. كانت يدي اليمنى ترتعش دون توقف، وأنا أراقب ملامح وجه صديقي تتقلب مع تقلب موضوعات حديثه. لا أدري كيف تراءى لي وجود تشابه في ملامح الوجه بين جاري الذي قاطعني عند المصعد وهاشم. هل هما الشاربان أم الشعر المجعّد أم الحدقتان؟ رغم أن عيني هاشم تخلوان من قسمات جاري القاسية. كانت الأضواء المنتشرة من ثريا الكريستال الجديدة تتفتتت فوق عيني فتجعلني أشعر أن المسافة بيني وبينه تتباعد، وصوته يصلني واهناً كأنه قادم من خلف الجدار. انساب العرق غزيراً على جبهتي وعندما وضعت زوجته الشاي أمامنا على الطاولة، كانت يدي اليمنى تختضّ في حضني.

 ما عدت افقه شيئاً من حديثه المتواصل، سوى ضجيج ينتشر في فضاء الحجرة مخلّفاً طنيناً في أذني، وما عاد وجهه سوى وجه جاري. شعرت بعد أن ودّعتني زوجته، وغادرت الحجرة، بانقباض شديد، يتزايد لحظة بعد أخرى، كأن هنالك شخصاً آخر راح يتصرف وحده، يجلس جنبي، وكل ما كنت احاول القيام به هو منعه من التصرف الطائش، إلاّ أن مقاومتي ما فتأت تضعف رويداً رويداً.. راحت يدي تقيس المسافة الفاصلة بيني وبين هاشم الذي ظل مندفعاً في حديثه، وعيناه مزروعتان في عيني بحثاً عن تأثير ما يقوله في نفسي.

كم تمنيت لو أنني لم أقبل دعوته، لو أنني لم أغادر حجرتي. غفوت لحظات قليلة. رأيت نفسي خلالها متشبثاً بحافة قمة جبل شاهق، تقع عند قاعدته فوهة واسعة مظلمة. كنت أسعى بكل قوتي تجنب السقوط، بانتظار حدوث معجزة تنقذني من مأزقي. حينما استيقظتُ، رأيته مندفعاً في حديثه، واقترب جسمه أكثر إليّ. تسرب النوم إلى حواسي، فوجدتُ نفسي مرة أخرى متشبثاً بحافة الجبل، حيث تراخت عضلات يدي، وراحت اصابعي تنحلّ عن نتوءات الصخرة المتعلق بها، واحداً بعد الآخر، ثم… ها أنذا انقذف إلى الهوة بسرعة لا نهائية، انفجر صوت عنيف جواري، تفتتت الأضواء إلى شرارات متوهجة حولي. لم ألمح سوى راحة يد هاشم اليسرى ساكنة فوق خده، تلاها تصاعد صرخات حادة في الحجرة وبكاء أطفال، وتكسر كؤوس وصحون. بدت الغرفة غاصة باشباح يتحدثون بلغة أخرى غريبة عن أذني. كنت محاصراً بضجيجهم، وكم شعرت بالتعب آنذاك ورغبة عارمة في النوم…

لندن 1986

________________________________________________________

* من كتاب “العبور إلى الضفة الأخرى”، دار الجندي، دمشق، 1992

 خامج: رديء وفاسد في اللهجة الجزائرية

اقرأ ايضاً