دولة العراق الهرمة ماتت في الثمانين دون أن تبلغ الشباب

2٬372
دولة العراق الهرمة ماتت في الثمانين دون أن تبلغ الشبابالمؤرخ البريطاني تريب يتناول قرنا من تاريخ مليء بالاحتلالات والصراعات حتى آخر انقلابلؤي عبد الإله
لم يشمل هذا الكتاب وضع تاريخ نهاية حقبة مهمة من تاريخ العراق ابتدأت يوم 17 يوليو (تموز) عام 1968 وانتهت يوم 9 أبريل (نيسان) 2003، بل اكتفى بذكر بدايتها وخصص لها فصلا ختاميا، ولعل الأكاديمي تشارلز تريب يتمنى الآن لو انتظر قليلا ليقفل فصله المفتوح بما تم العثور عليه من مقابر جماعية لا تعود إلى عصر هولاكو بعد غزوه لبغداد سنة 1258 بل لفترة تمتد لأكثر قليلا من عشرين عاما هي فترة تسلم صدام حسين للرئاسة عام 1979.
بعد إكمالي لهذا الكتاب أثير سؤال فنتازي في ذهني: ما الذي سيكون عليه موقف كل السياسيين العراقيين السابقين الذين شاركوا منذ بداية الثلاثيات في صياغة الأحداث التي آلت أخيرا لوصول «الوحش الخرافي» الذي لا يجيد سوى التهام أبنائه أو دفعهم الى حروب إبادة لم تشهدها المنطقة منذ زمن حمورابي؟ ما الذي يحدث لو أنهم عادوا إلى الحياة لمشاهدة نتائج قراراتهم ومواقفهم؟ لا بد أن أولئك الضباط الذين وقفوا في وجه وصول عبد الرحمن البزاز إلى رئاسة الجمهورية عام 1966 والبدء بإعادة الحكم المدني بعد أن اختطفه زملاؤهم في لحظة مشؤومة فجر الرابع عشر من تموز عام 1958. سيعتذرون له، فما كان يحمله من أفكار نيرة لبناء الديمقراطية ومنح الأكراد الحكم الذاتي والفصل بين السلطات كافيا لقطع الطريق على تسلل رئيس منظمة حنين المتخصصة بالاغتيالات ليتسلم الحكم بعد عامين فيبدأ أولا بتصفية رفاق طريقه قبل أن ينتقل إلى تصفيات أوسع على أساس مبدأ الإبادة الجماعية للمدنيين، ولا بدّ أن عبد السلام عارف سيعتذر من عبد الكريم قاسم لغدره به، كذلك هي الحال مع عبد الكريم قاسم الذي سيعتذر لنوري السعيد، وهلم جرا.. أستطيع أن أراهم أمامي جميعا، من كان في المعارضة أو في الحكم يقفون صامتين وهم يحدقون الى الهوة التي تركوها وراءهم، وهاهم يرون أمامهم حالة مغرقة في السريالية: البلد يعود من جديد تماما: كأن دولته لم تمر بعملية نمو وتطور أمدها أكثر من 80 عاما، وكأن التراكم لم يؤل إلا إلى تفكك شامل لكل مؤسسات هذا البلد الذي عملت أجيال على بنائها. هل سيقول شيوعيو الثلاثينات الحالمون: ذلك ما كنا نحلم به: انهيار الدولة كي تقوم فوقها «السوفيتات» وكي يتم كنس استيلاء الطبقة الرأسمالية على مقدرات الطبقة العاملة (حتى لو كانت هذه الطبقة ما زال عددها لا يزيد على المئات) على غرار ما حدث بعد ثورة أكتوبر (تشرين الاول). لا أظن ذلك، بل ان الكل ستفزعه صورة الحاضر فيسرع في العودة إلى قبره مثلما حدث لأهل الكهف.

يطرح الأكاديمي تريب في مقدمة كتابه العوامل التي تحكمت في صياغة تاريخ العراق الحديث ابتداء من احتلال الجيش البريطاني له، وحتى يومنا الحالي وكان الجيش البريطاني قد احتل البصرة أولا في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1914 ثم أعقبه احتلال بغداد في مارس (آذار) عام 1917 ليعقبه الوصول إلى كركوك في صيف عام 1918. وإذا كان حاكم الموصل العثماني احتج على الخروج من ولايته من منطلق أن الموصل لا تقع ضمن وادي الرافدين لكنه اضطر في الأخير إلى سحب قواته إلى شمالي الموصل وبذلك وسّع البريطانيون خط الهدنة حتى تلك النقطة. لم يكن هناك حتى ذلك الوقت كيان سياسي واقتصادي يضم هذه الولايات الثلاث إلى بعضها على الرغم من أن اسم العراق (الذي يعني شاطئ النهر الكبير على امتداده وأراضي الكلأ المحيطة به) كان قديما وأطلق على منطقة وادي الرافدين بالتحديد. الشيء الأساسي الذي برز بعد انقلاب عام 1908 الذي قامت به رابطة الاتحاد والتقدم التركية ضد السلطان عبد الحميد والذي بواسطته فرضت عليه سياسة الإصلاح القومية لكنها في الوقت نفسه حفزت على نمو المشاعر القومية لدى الأقاليم العربية.

يطرح المؤلف في مقدمته العوامل الأساسية التي تحكمت في المسار التاريخي المعاصر للعراق وحددها بثلاثة عوامل: الأول قوة الموروث ومرونته على الاستمرار، ويأخذ مثلا على ذلك عودة الكيانات القبلية في فترة الثمانينات واستفادة صدام حسين منها لتقوية حكمه. وما يعنيه بقوة الموروث أيضا أن الناس يقفون مع هذا الحاكم أو ذاك لا انطلاقا من برنامجه السياسي أو اية طبقة يمثل حزبه بل قد تدخل منطقة السكن عاملا أو المذهب الديني. وهو وفق هذا المبدأ يستند في تحليله الى موضوع الأغلبية الشيعية والأقلية السنية وكيفية استئثار الأخيرة بالسلطة، مع ذلك ما يدهشني حقا أن المسار السياسي في العراق حتى في بدايات تشكل الدولة العراقية كان متجاوزا لهذا التشديد المبالغ فيه، فنوري السعيد بحزبه «الاتحاد الدستوري» كان يكتسب قوته بالدرجة الأولى من شيوخ عشائر الجنوب، في الوقت الذي نجد أن جماعة الأهالي الليبرالية التي ضمت وجوها شيعية بارزة مثل جعفر أبو التمن كانت تقف إلى جانب بكر صدقي ذي الأصول التركية لكنه المناصر لمبدأ العراق أولا بل ان الوزارة الأولى التي شكلها حكمت سليمان في فترة احتلال صدقي موقع قيادة الجيش عام 1936 كانت تضم عددا كبيرا من جماعة الأهالي التي تضم عددا كبيرا من الشيعة. كذلك هي الحال مع وصول فاضل الجمالي في بداية الأربعينات إلى منصب مدير التعليم العام ليحل محل التربوي السوري ساطع الحصري فيطبق سياسة معاكسة لسياسة الأخير مبنية على اللامركزية ومتجاوزة طابعه النخبوي المستند إلى علمانية ذات رؤية وحدوية عربية. وبفضل فاضل الجمالي اتسع التعليم وبدأت الكوادر التعليمية العراقية تحل محل الكوادر العربية.

أما العامل الثاني الذي يراه المؤلف فهو النفط إذ أنه عزز منذ فترة مبكرة ذلك الشعور لأي فئة تحلم بتسلم السلطة أن هذا الريع الجاهز سيمكنها من إقامة نظام يستند إلى المحسوبية ومن خلال التفضل على مجموعات معينة من المجتمع على أساس المنطقة أو الانتماء العشائري أو غيره، فإنه سيتم ضمان موالاتها للحكام. وفي رصده للنفط يتابع تشارلز تريب السياسات التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة في علاقتها مع شركات النفط الغربية: خصوصا شركة نفط العراق البريطانية. والعامل الأخير هو العنف. ومن وجهة نظره فإن العنف ابتدأ منذ وصول البريطانيين الذين كانوا يمتلكون فكرة محددة عن النظام والانشقاق عن السلطة. وبين عامي 1918 و1920 ظلت الإدارة البريطانية منقسمة بين تيارين أحدهما يريد حكم العراق بشكل مباشر مثلما هي الحال في الهند، والتيار الآخر مع تشكيل دولة مستقلة. ولعل انتفاضة عشائر الفرات الأوسط التي وقعت عام 1920 وما رافقها من احتجاجات ومظاهرات في المدن قد دفع البريطانيين إلى تأييد استقلال العراق. وترافق ذلك مع قدوم الأمير فيصل إلى العراق بعد احتلال سوريا على يد الفرنسيين. وفي أغسطس (آب) 1921 تم تنصيبه ملكا للعراق بعد استفتاء أوضح أن 96 في المائة من الناس كانوا مع التنصيب.

والمشكلة الأولى التي واجهتها الحكومة العراقية الغضة هو مشكلة مطالبة تركيا بالموصل وبالمقابل كانت بريطانيا تضغط باتجاه توقيع المعاهدة التي تتولى الأخيرة من خلالها شؤون العراق المالية والقضائية والدفاعية والخارجية لمدة عشرين عاما مطالبة بأن يصادق المجلس الدستوري عليها. وأمام الخوف من فقدان الموصل التي وعدت بريطانيا العراق بالوقوف إلى جانبه في احتفاظه بالموصل وافق رئيس الوزراء على المعاهدة كي تبقى أربع سنوات بعد توقيع اتفاقية سلام مع تركيا، وفي عام 1924 وافق المجلس الدستوري عليها بعد تهديد السير بيرسي كوكس بورقة الموصل.

ويخصص المؤلف لفترة ما بين 1942 و1958 بابا خاصا إذ يشهد العراق خلالها أحداثا عديدة مهمة. ففي عام 1944 أبدى الوصي عبد الإله قلقه تجاه عدم تحقق إصلاح اقتصادي واجتماعي وغياب حريات سياسية فاستقال نوري السعيد وتسلم حمدي الباجه جي رئاسة الوزارة فأطلق سراح بعض أولئك المحكومين منذ عام 1941 وبذلك تم تخفيف أجواء التوتر، ثم بتشجيع الأمير عبد الإله صدر قانون «ميري سيرف» الذي بموجبه توزيع أراض في منطقة الدجيل على الفلاحين المعدمين وأصحاب الاراضي الصغار والموظفين المتقاعدين وهذا ما أثار حذر الكتلة البرلمانية من شيوخ العشائر الذين وافقوا على القانون بعد أن عرفوا ان ذلك لن يؤثر على وضعهم. كذلك خرج بارزاني ضد حكومة حمدي الباجه جي بعد أن طالب بالمزيد من المطالب لتحقيق سلطة أوسع له ودور أكبر للأكراد ومع رفض الباجه جي لهذه المطالب بدأ القتال عام 1945. كذلك أراد الوصي من الباجة جي أن يمضي أكثر في خطوات الحرية السياسية وتأسيس الأحزاب السياسية والقيام بانتخابات حرة وبإصلاحات تقود إلى عدالة اجتماعية أكبر ونظام للضمان الاجتماعي، لكن المنتقدين راحوا يضغطون أكثر فأكثر مما دفع الباجه جي للاستقالة عام 1946.

وواصل السويدي الذي كلف تشكيل الوزارة عام 1946 وخلال فترة حكمه القصيرة حيث قدم قانون الانتخابات الجديد الذي يتضمن مرحلتين، وقسم البلد إلى مائة منطقة انتخابية بدلا من ثلاث مناطق فقط، وسمح السويدي بتأسيس الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال. في الوقت نفسه راح يوسف سلمان الذي كان على رأس قيادة الحزب الشيوعي السري يبذل جهودا كبيرة في بث الخلايا السرية في ميناء البصرة وخطوط السكك وصناعة النفط وفي قطاع التعليم، وعلى مستوى أقل في الجيش مستفيدا من المناخ المعتدل نسبيا. ثم جاءت عاصفة إضراب عمال النفط وتصاعد المظاهرات وكأن السويدي بذلك قد فتح صندوق بندورا المحمل بالشرور والآلام. ويمكن القول إن مشكلة العهد الملكي كانت تتحدد بأسسه الأولية: المركزية الشديدة وتمحور معظم النشاطات والمنافع حول الدولة ومن يديرها إضافة إلى ملكية الأرض إذ كان الجزء الأكبر من الأراضي الزراعية بيد 3000 شخص. ويبدو أن أي إصلاح داخلي كان محكوما عليه بالفشل حتى حينما حاول فاضل الجمالي أن يطرح برنامجا إصلاحيا لتوزيع الأرض بشكل أكثر عدالة هبت ضده عشائر الفرات الأوسط بالنيابة عن شيوخها. بعد قيام الضباط الأحرار في مصر بانقلابهم الأبيض عام 1952 كانوا قد قدموا مخططا لما سيجري في العراق، إذ شكل رفعت الحاج سري منظمة الضباط الأحرار العراقية وضمت عددا من الضباط أغلبهم من ذوي الاتجاه القومي، وفي سنة 1957 تمكنوا من كسب الزعيم عبد الكريم قاسم الذي جلب صديقه العقيد عبد السلام عارف. ولم يكن لهؤلاء الضباط أي مخطط للمستقبل أكثر من الانتقام من كل النخبة الحاكمة حال تسلمهم للسلطة إضافة إلى تسلم المناصب الكبيرة بأنفسهم ودفع المدنيين لاحتلال المقاعد الخلفية. وكان نوري السعيد خائفا من أن يتمكن الشيوعيون من التحالف مع القوميين العرب. وهذا ما جرى عام 1957 حينما تشكلت جبهة الاتحاد الوطني من الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث حديث العهد انذاك في العراق والحزب الشيوعي.

ولم تمض سوى ثلاثة أشهر على انقلاب 14 تموز حتى تفجر الصراع بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، وفي الشارع تفجر الصراع بين القوميين والشيوعيين. وكلاهما ضد فكرة التعددية والقبول بالديمقراطية التي لا تعد من وجهة نظرهما شيئا سوى وسيلة لتحقيق ديكتاتورية البورجوازية. ويقول مجيد خدوري في كتابه «ثورة 14 تموز» (قد لا يكون ذلك سوى قصة مختلقة) ان نوري السعيد التقى برفعت الحاج قبل سنوات قليلة من وقوع الانقلاب وكانت تجمعه به علاقة قربى: «سمعت أنك تريد أن تقلب النظام مع مجموعة من الضباط الآخرين»، «لا باشا ماكو أي شي من هذا». «اسمع ابني إذا نجحتم في ذلك لا سمح الله فسيقتل واحدكم الآخر». وهذا ما حدث. قبل وقوع الانقلاب الأخير الذي جلب صدام إلى الحكم كان العراق ومستقبله تحت حماية عسكري واحد لا صلة له بالسياسة. وكان في موقع رئاسة الحرس الجمهوري بحكم علاقة القربى التي تربطه بالرئيس السابق عبد الرحمن عارف. وشاء الحظ السيئ أن يسافر إلى بريطانيا لإجراء عملية جراحية تاركا وراءه الباب مفتوحا لجراد الصحراء.

الاحـد 08 ربيـع الثانـى 1424 هـ 8 يونيو 2003 العدد 8958

 

اقرأ ايضاً