كتب لؤي عبد الإله(روائي عراقي مقيم في لندن)
-26-2011, 07:35 AM
كتب لؤي عبد الإله(روائي عراقي مقيم في لندن)
“الشعب يريد إسقاط النظام” أي “نظام” يجب “إسقاطه”؟
لا أظن أن هناك لغة أكثر غنى في مفرداتها وتشكيلاتها مثل العربية لكنها في الوقت نفسه أكثر اللغات افتقارا للمفاهيم اليوم من حيث الدقة، وقد ساعد على هذا الإشكال نقص البحوث اللغوية التي تسعى إلى هضم المفاهيم الغربية في شتى الحقول العلمية، كذلك فإن غياب الآصرة الرحمية بين اللغتين الإغريقية واللاتينية من جانب والعربية من جانب آخر قطع عنا هذا الفيض من المفاهيم التي تشكلت في الغرب على أساس هاتين اللغتين وأصبح الباحثون مضطرين إما إلى تبني المصطلح نفسه أو اختيار مفردة عربية ما قد تكون قريبة أو بعيدة عنه وأحيانا يتم اختيار المفردتين فنحن لدينا على سبيل المثال كلمة “ديالكتيكي” و”جدلي” في آن واحد، ولعل مفردة “ديالكتيك” قريبة إلى ايقاع المفردة العربية التي تستند إلى المقاطع الصوتية المشتملة على حرف ساكن يليه حرف علة حيث يتكرر هذا الوزن بشكل منتظم في الكلمات العربية وهذا ما يجعل أي مفردة غربية لا ينطبق عليها هذا المبدأ عسيرة على التكييف إلى العربية. وهناك الكثير من هذه المصطلحات التي ظلت تسكن في المنطقة الرمادية.
من بين هذه الكلمات المثيرة للالتباس مفردة”نظام”. ضمن قائمة التعاريف لها يمكننا التوقف عند ثلاث مفردات بالإنجليزية (وبالطبع تستعمل هذه الكلمات نفسها في أكثر اللغات الغربية لأنها من أصل اغريقي- لاتيني مع تعديل ضئيل في اللفظ). هذه الكلمات هي “الريجيم” REGIME و”السيستم” SYSTEM و”الأوردر” ORDER.
أحد التعاريف لمفهوم النظام REGIME هو أنه “مجموعة الضوابط والقواعد الثقافية والاجتماعية وغيرها التي تنظم عمل الحكومة وتفاعلاتها مع المجتمع”. وهذا هو التعريف ضمن المجال السياسي. أما مفهوم النظام SYSTEM فله أكثر من تعريف واحد لكن الأبسط فيها هو أنه “مجموعة من المكونات المتفاعلة والمتكافلة فيما بينها والمكونة لكلٍّ مندمج”. أما المعنى الثالث لكلمة النظام ORDER فهو عكس الفوضى. ولا أظن أن غالبية المتظاهرين الذين خرجوا في العديد من المدن العربية مرددين شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” كانوا يقصدون المعنى الثالث: تحقيق الفوضى.
يمكن القول إن تحقيق الفوضى بشكل كامل قد تم في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، فإسقاط النظام على يد المحافظين الجدد تحقق من خلال حل مؤسسات الجيش والشرطة والخدمات العامة وغيرها. أي باختصار حل الدولة. إسقاط النظام يساوي ما أطلق عليه وزير الدفاع الأميركي الأسبق تحقيق “الفوضى الخلاقة” في العراق والذي ترتب عليه فتح العراق على مصراعيه لكل التشكيلات الإرهابية والإجرامية وتدمير آليات عمل الدولة التي مضى على تكوينها أكثر من قرن( هذا إذا اعتبرنا نقطة انطلاق تشكل الإدارة الحديثة للدولة بدأت مع والي العراق العثماني المصلح مدحت باشا عام 1869).
لعلنا نستطيع القول إن “إصلاح النظام” هو ما تحقق بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 وما رافقه من تغيير قواعد “النظام” المتحكمة بعلاقة الحكومة مع بقية مؤسسات الدولة.
ولعل ما يميز كل الأنظمة الشمولية ( الاستبدادية والمحكومة وفق عقيدة محددة وبواسطة حزب واحد) هو وجود الحزب القائد (الذي يحل في أغلب الأحيان زعيمه محله) فوق سلم سلطات الدولة الثلاث المعنية بالقضاء والتشريع والتنفيذ. ولذلك يصبح التراتب على عكس الدولة الحديثة في الغرب ( وفي أفضل نماذجها بريطانيا) فبدلا من أن يكون القضاء فوق رأس الدولة يليه المجلس التشريعي المنتخب ثم تتبعهما السلطة التنفيذية المفوضة من المجلس التشريعي لفترة زمنية محددة، تنقلب العلاقة في الأنظمة الشمولية فيصبح الحزب أولا ثم السلطة التنفيذية فيعقبهما جهازان مهمشان هما السلطتان القضائية والتشريعية.
لقد تم تغيير قواعد اللعبة في بلدان تشيكوسلوفاكيا وبولندا وبلغاريا وهنغاريا بطريقة سلمية وكان من الممكن أن يكون الحال مماثلا في رومانيا لكن تعنت الرئيس الأسبق تشاوتشيسكو أدى إلى قتله، مع ذلك فإن النظام لم يتم “إسقاطه” بل إعادة إصلاحه لاحقا.
تبدو كلمة “إصلاح” غير مقبولة لدى قطاع واسع من الجمهور العربي وخصوصا الشباب المتحمس. على الرغم من أنه يحمل اعترافا بوجود “خلل وعطب” في النظام السابق وإصلاحه يعني تغيير قواعد اللعبة تماما.
حتى الأحزاب التي كانت “شمولية” قد تمكنت من استرجاع شعبيتها “بعد تعديل اسمها أحيانا” وهي اليوم تتنافس على الحكم في هذه البلدان حالها حال الأحزاب الجديدة الأخرى. وهذا السلام الأهلي وتداول السلطة المنتظم ما كان يمكن تحققه لو لم يتم الاحتفاظ بـ “النظام” بعد “إصلاح قواعده” المنظمة للعلاقة التي تجمع ما بين الحكومة ومؤسسات الدولة والمجتمع الأخرى.
كذلك فإنه يجب التذكير بأن أنظمة شمولية محيطية مثل النظامين السوري والعراقي قد برزت بفضل الحرب الباردة التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر الثمانينات من القرن الماضي، فبالنسبة للعراق على سبيل المثال، تم تدريب الكثير من كوادر الأجهزة الأمنية المعنية بالقمع الداخلي في المانيا الديمقراطية. لذلك فإن من الخطأ النظر إليه بمعزل عن ظاهرة أوسع سادت في القرن العشرين. فمقابل الأنظمة “التقدمية” الاستبدادية التي كان يدعمها الاتحاد السوفيتي برزت الأنظمة الدكتاتورية”العسكرية المعادية للاشتراكية” في أمريكا اللاتينية، والمدعومة من الولايات المتحدة. ولعل نظام بينوشيت في تشيلي كان أفضل مثال على المجموعة الأخيرة.
يحلل الروائي الألباني اسماعيل كاداري في كتابه “تشريح الاستبداد: ربيع ألباني” The Anatomy ofTyranny الآليات التي تتحكم بتكون الأنظمة الشمولية. هناك حسب رأيه ثلاث مراحل تتحكم بتشكلها: المرحلة الأولى: حين تصل إلى السلطة بفضل آيديولوجية وحزب شموليين فتفرض سلطتها بالحديد والنار. ثم تأتي المرحلة الثانية، حين تبلغ أوج قوتها واستقرارها، ثم المرحلة الثالثة، حين يعم التفكك والفساد في مفاصلها، وفي هذه المرحلة تكون هذه الأنظمة على استعداد لتقديم تنازلات. لكنها حسب وجهة نظر كاداري تشبه النمر الجريح الذي سيكون خطرا جدا إذا قررت المعارضة المضي إلى الأخير في مواجهته. وهنا قد تتمكن المعارضة من تدميره بالقوة لكنها في هذه الحالة ستوفر الأرضية لعودة الدكتاتورية والشمولية مرة أخرى وهذا ما يتمناه النظام الاستبدادي. إذ أن قتله هو الطريق الوحيد الذي يسمح لجذوره بالتجدد والنمو ثانية. بدلا من ذلك يقترح كاداري على المعارضة الشعبية السعي إلى انتزاع التنازلات شيئا فشيئا والسماح للنظام بأن يموت لوحده لأن ذلك هو الطريق الوحيد الذي يسمح بفتح الطريق للنظام الديمقراطي.
لعل اقتراح الروائي كاداري قد تحقق على أرض الواقع في مصر وتونس، فالمعارضة لم تتواجه مع النظام ككل، بل هي سعت إلى تحقيق “إصلاح” له أي بصيغة أخرى تغيير “قواعد اللعبة التي تنظم علاقة الحكومة بمؤسسات الدولة والمجتمع الأخرى”. فبعد أن نجحت السلطة التنفيذية بإيقاف التراتبية في مؤسسات الدولة بتزوير الانتخابات النيابية واستغلال المؤسسات الأمنية لحمايتها بدلا من حماية المواطن، جاءت الانتفاضة الأخيرة في مصر وتونس لتمنح الجيش: القوة الفعالة الوحيدة داخل الدولة، دور الحكم وإعادة صياغة القواعد التي تنظم العلاقة بين الحكومة ومؤسسات الدولة والمجتمع الأخرى، أي إصلاح النظام من داخل “النظام” نفسه. وحين حاولت بعض الأطراف المشاركة في الانتفاضة المضي أبعد من ذلك تم إيقافها على يد قادة هذه المؤسسة، فما وراء ذلك الخط هناك المجهول، وقد يقود إلى الفوضى المماثلة بشكل ما لعبارة “إسقاط النظام”.