«لؤي عبد الإله» من علو صفر جاذبيّته يروي قصةَ وطنٍ مهرّب في حقيبة سفرٍ

تحدثت الرواية بإسهابٍ طويل وسردٍ شائق بعيد عن الملل والضجر عن سيرةٍ شبه ذاتية لجاليةٍ عراقيةٍ تلاقى جموعها في منزل طبيبة عراقية على تخوم مدينة لندن بلونها الباهت وطقسها الغارق في متاهات الصقيع..

1٬115

تاريخ النشرالخميس, 03-08-2023

تشرين- راوية زاهر:

يقول لنا هوميروس الإغريقي: «الآلهة تحوك النحس لشعبٍ ما كي تملك الأجيالُ اللاحقة شيئاً ما تغنّي عنه».

بهذا القول بدأت رواية (جاذبية الصفر) للكاتب العراقي لؤي عبد الإله الصّادرة عن دار دلمون بدمشق، وذلك من خلال حكاية مخطوطٍ ضخم انتقلت إلينا أخباره عبر مظروفات مكتنزة وحبلى بالأحداث السياسية والتاريخية والاجتماعية.. كانت يد القدر والمصادفة قد رمتها سهواً بين يديّ مسافرٍ استبدلت حقيبته بأخرى لمسافر تائهٍ على أحد مطارات لندن، فما كان من المالك الجديد إلا ترجمة هذه المظروفات إلى العربية، مبقياً على أحداثها وتواريخها مسرودة بدقة وعناية مع تغييرٍ في الأسماء وبعض الكلمات التي لم تلق ما يعادلها في اللغة المعرّبة.

تحدثت الرواية بإسهابٍ طويل وسردٍ شائق بعيد عن الملل والضجر عن سيرةٍ شبه ذاتية لجاليةٍ عراقيةٍ تلاقى جموعها في منزل طبيبة عراقية على تخوم مدينة لندن بلونها الباهت وطقسها الغارق في متاهات الصقيع.. تناولت مظروفات الرواية حقبةً من الأزمنة البلهاء تلاحقُ أنياب الحرب على العراقيين أينما حلّوا، مغرقةً إيّاهم في إيديولوجيات مركّبة ما بين الشّرق والغرب، ليأتي سرد الرواية ويقحمنا في الأنا العليا لكل شخص عانقت رؤاه وآماله وهواجسه صفحات الرواية.

تنقلّت الأحداث في لندن وضواحيها، حاناتها، ملاعبها، شوارعها الباردة ومطاعمها، وأماكن التظاهر ضد الحروب.. ابتداءً من حرب فييتنام والعالميتين وعاصفة الصحراء في الخليج.. عاشت أفراد الجالية حالة الحرب وتفاصيلها عبر شاشات التلفزة والراديو والصحف والمؤتمرات الصحفية، وعاشتها أيضاً بشقها القلق القائم على الخوف على أهل يقطنون بلاداً تأكلها الحرب وتعيدها إلى أزمنة الكهوف الأولى، مع التعاطف البحت مع رهائنها الأجانب وعلاقتهم الشخصية بالناس المحليين.

كان السرد شائقاً، وشخصيات الرواية تربطهم علاقة حميمية عامة بحكم جينات البلد الأم (العراق)، كما ربطتهم علاقات أخرى تقوم على عشقٍ غريب لأربعة رجال في الرواية للفتاة العراقية ذاتها(هاجر) ابنة مضيفتهم.. ولابدّ من الوقوف على شخصيات الرواية تلك التي ستعرّفنا بطبيعة الحال على تفاصيل الحدث الروائي: الدكتور يوسف، المتزوج من لورا الإنكليزية وله بنتان، سوزان ومنى.. وقد عاش حالة تشظ بين العقل والجسد في علاقته مع زوجته التي قررت على حين غواية الانتقال للعيش مع عشيقها، وما لبثت أن انفصلت عنه وانتقل هو إلى الكويت ليصبح لاحقاً من رهائن الحرب، وعلى لسان يوسف دارت أحداث الرواية على هيئة استذكار تعيد نقاط مشتركة موجهة كخطاب إلى صديقه «جليل» ولربما هو ذاته «كاف» صديقه العبقري، رسام البورتريه المبدع، الهزيل، المتمرس في السياسة بين فريق الحمر والخضر الذي انتشر إبان انهيار الاتحاد السوفييتي.. وهو أيضاً عاشق هاجر، وشريك التظاهرات ضد الحروب وغيرها، وقد تقاطع مع يوسف في عشق هاجر الدفين..

أسعد: رفيق نيلسون ولينين، ثورتهما ورفيق والد الدكتورة عالية الذي أطلق عليه اسم (عمّو) الثائر المتمرد الذي أوقعه انهيار ألمانيا وجدار برلين ورفاق دربه الثوريون في آتون الوحدة واليأس والعزلة والمرض.. وأسعد هو زوج مريم وأب لأربعة أبناء، لم يرض عنه أهله يوماً وهو صاحب مقولة: «الشعوب حديثة التكوين هي السعيدة فقط لأنها بلا ذاكرة».

فهو يوقع الحاضرين في عوالم بلا حدود عند استسلامه لكؤوس الجعة التي صارت جزءاً من تكوينه.

ماهر: الشخصية التي تعيدك إلى عصور «الآلهة» الأرضيين، غامض، له كاريزما خاصة وغموض ونظريات جينية لا يقدر على تفسيرها سواه.

الدكتورة عالية: المضيفة الطبيبة لها ابنتان، سارة الإنكليزية ولها زوج غامض وعمله مشبوه، وهاجر التي كشفت تقاطعاتُ السرد من خلال هذيان العجوز، أنها ابنتها البكر التي تركتها لتكمل تخصصها في بريطانيا، تاركة إياها في أيدٍ أمينة، وهي خالتها، وقد يوقعك هذا السر المكتشف في حالة من الإرباك الجيني، كيف لأمّ أن تترك ابنتها في خضم كل هذه الظروف نهبةً للتعرض للموت ربما، وبالتحديد أثناء سفرها الأخير قبل اندلاع عاصفة الصحراء بأيام.

هاجر: المعشوقة المشتركة، وعلاقتها ربما المشبوهة بماهر وغيره، ومن ثم مزاجيتها وقرارها بالعودة إبان الحرب، وزواجها وإنجابها طفلة بعد تعرض زوجها لإصابة بليغة بعد قصف التحالف الأمريكي وأعوانه سراديب الجيش العراقي واختفائه من دون بقاء أثر ونجاة زوج هاجر بأعجوبة.. وفي نهاية الرواية تتزوج الدكتورة عالية بماهر الغامض، ما يفسر ولو ظاهرياً عدم تشبثها بابنتها البكر.

أضف إلى ذلك حالة الولوج في الأساطير كتناصّاتٍ غاية في الإتقان.. في مظروفات الرواية تناصت قصص الأساطير كآلهات الجمال والحب وربات القدر الثلاث والخلاف بينها وما خلفه من دمار من دون أي منطق أو تبرير، أسطورة جلجامش، أنكيدو وإمباب، وهيلين، وزيوس كبير الآلهة، وإرجاع قصصها إلى عوالم الرواية الأرضيين. الأمكنة الثلاثة التي تبلورت فيها الأحداث راسمة حالة الشتات والضياع لكل عراقي عانى ويلات الحروب.. الرواية إن صحّت تسميتها تميل إلى الرواية السياسية، لكنّ القيم الجمالية تضافرت وتداخلت مع الأفكار الأيديولوجية، ورغم غلبة الحالة الأيديولوجية لكنّ طبيعة الرواية كفنٍّ له طابعه الأدبي جعلها تبعد عن هيئة المنشور السياسي، والذي ينبغي أن يعلو الأدب فيها، وألا يُعلى عليه.. وهكذا استطاع الكاتب صاحب الباع الطويل في مختلف الفنون أن يتجاوز أزمة الرواية الواقعة بين الوعي الإيديولوجي والوعي الفني إضافة إلى أزمة الحريات المتفاقمة لاحقاً.. وللأمانة الفكرية، رغم الحجم

الكبير للرواية، فإنها ابتعدت عن الحشو، وقد تنوّع الحدث الاجتماعي للشخصيات ومشكلاتها القائمة على العمق النفسي لكل شخصية.

كما لم تبخس الرواية مشاهد الوصف، ولم يكن ترفاً لغوياً، بل كان كثيفاً وموظَّفاً في خدمة التعريف بالشخصية.. والأدب فيها كان عنصر تحريك وليس عنصر تغيير.. وما ميّز هذه الرواية رغم الأسماء السياسية الكبيرة التي هيمنت على الحدث أنها امتدت لتضمّ أشخاصاً عاديين شكلوا شخصيات العمل الأدبي.

 

 

اقرأ ايضاً