من سيحمي كامل شياع في أرض السواد؟
أمام طغيان ملوك الطوائف
لندن: لؤي عبد الإله
كان لقائي الأخير بكامل شياع مستشار وزارة الثقافة العراقية، الذي اغتاله يوم السبت الماضي مسلحون مجهولون، لقاءخاصا، مقارنة بتلك اللقاءات القصيرة التي سبقته، حيث كنا دائما محاطين بأصدقاء آخرين. لعل ذلك يعود إلى عام 2002، وكان كامل قد اعتاد القدوم إلى لندن من وقت إلى آخر، من منفاه البلجيكي، ليلتقي بالأصدقاء لفترة قصيرة، ثم يختفي مرة أخرى.
كان اللقاء الأخير هو الوحيد الذي وجدنا فيه نفسينا لوحدنا، فمضيت معه أقلّب كل الأسئلة الوجودية والحياتية. ولأول مرة أجدني مصغيا لحديث كامل شياع عن التيارات الفلسفية التي عرفت تحت اسم ما بعد الحداثة، وأعلامها البارزين مثل جاك دريدا وميشيل فوكو. كان الشرح الذي قدمه كامل لي بأسلوب بسيط وشيق لأهم أفكارهما وخاليا من أي استعراض ثقافي.
كانت هناك مواضيع كثيرة تدور في رأسينا، لكن هاجس الوقت ظل حاضرا ما بيننا. إذ عليه أن يهيئ نفسه للسفر المبكر غدا، لذلك كان علينا انتظار لقاء آخر لمواصلة الحوار الذي شكل أواصر جديدة بيننا. وهكذا، مثلما تحدث الأمور دائما بين المنفيين، تبادلنا العناوين البريدية والإلكترونية، مع تأكيدات متبادلة بالتواصل.
ولم تمض سوى سنة تقريبا حتى سمعت بأنه ذهب إلى بغداد، وأنه بدأ العمل في وزارة الثقافة العراقية، بصفة مستشار ثقافي.
ظل هذا السؤال يدور في ذهني دائما: من سيحمي كامل شياع، غير المسلح إلا بثقافة أكاديمية رصينة، وطبيعة دمثة، وتواضع جم، وقدرة هائلة على الاهتمام بالآخرين، من كل تلك التنانين الخرافية التي أطلق الاحتلال الأميركي عنانها، لتختلط بتلك التي سبق للنظام السابق أن طورها وغذاها خلال 35 سنة؟
من سيحميه من القتلة المحترفين القادمين من مختلف الجهات، والذين أصبحوا اليوم محميين داخل عباءات الطائفية؟
حينما قرأت خبر وقوع ما كان هاجسا يوميا في نفسي، لم أتفاجأ، حتى مع الشعور العميق بالفجيعة والجزع الذي تملكني.
فمن يحمي رجلا ظل يحلم بتوفير أرضية لانتشار ثقافة معاصرة، بعيدة عن كل ذلك السيل الجنوني من نشاطات جماهيرية، تذكّر بالقرون المظلمة التي مرت بالعراق بعد سقوط عاصمته بيد المغول عام 1258 وحتى أواخر القرن التاسع عشر؟.
في كل المجتمعات المتحضرة، تشكل نخبة المثقفين من علماء وأكاديميين وأطباء ومهندسين وحقوقيين وغيرهم، خميرة الإبداع التي تسمح لها بالتقدم والحفاظ على آليات عملها، على الرغم من أنها لا تحتل أكثر من نسبة 5% من عدد سكانها. إنها تلك النخبة التي بفضلها تصاغ وتحفظ الذائقة والرؤية والضمير لكل مجتمع حي.
وما يحدث في العراق خلال الخمس سنوات الأخيرة هو تصفية منظمة ودؤوبة لهذه الخميرة الضرورية لكل مجتمع إنساني، إذ قتل مئات الأساتذة الجامعيين والأطباء والعلماء حتى الآن، واضطر الآلاف إلى الهجرة.
لذلك فإن قتل كامل شياع هو ضمن هذا السياق: إنها رسالة واضحة من نفس الأطراف التي تغذي الاحتراب الطائفي والديني لتعزز امتيازاتها. ويمكن اختصار رسالتها كالتالي: ما نريده هو عراق بلا نخبة. أن يكون كل عراقي عاجزا عن طرح الأسئلة، أو متقبلا لأفكار الآخر واهتماماته. أن يكون مثل شخصية «زمبي» السينمائية: يتحرك كآلة تنفذ إرادة خفية وبعقل معطوب.
أفكر بما تطلبه المجتمع من جهود لتكوين شخص بمواصفات كامل شياع، جنبا إلى جنب مع جهوده الشخصية الدؤوبة في الدراسة. كم من المعلمين والمدرسين مع الوالدين والأقارب والأصدقاء شاركوا في صياغة إنسان فعال قادر على جعل العالم مكانا أفضل للإنسان، من خلال التخلي عن منفاه الهانئ وعودته إلى العراق معرضا نفسه لمخاطر القتل اليومي؟ كم من التجارب والجهود الشخصية شاركت في تحقيق نضجه وقدرته المفتوحة على العطاء؟ وكم كلف أولئك القتلة الذين تربصوا إليه ببنادقهم لاغتياله بدم بارد؟ كم ربحوا هم؟ وكم خسر العراق؟